الفصل العاشر

العلة الصورية والمادية

العِلل الداخلية التي هي عِلل القوام؛ أي المادة والصورة، إنما تكون في بعض الحالات، بينما علل الوجود تكون في تمام الحالات. وبعبارةٍ أخرى إن عِلل القوام وهي المادة والصورة إنما تكون في الأجسام خاصة؛ لأن الجسم مؤلَّف من مادة وصورة، بينما علل الوجود — العلة الفاعلية والعلة الغائية — تكون في الأجسام وفي غير الأجسام؛ أي ليس هناك موجود في عالم الإمكان إلَّا وله علةٌ غائية.

وببيانٍ آخر، إن الموجودات المجرَّدة، كالعقل المجرَّد في ذاته وفعله كما قالوا، لها علةٌ فاعلية ولها علةٌ غائية، بينما ليس لها علةٌ مادية ولا علةٌ صورية، ليس لها علةٌ مادية لأنها مجرَّدة عن المادة، كما أنها ليست جسمًا فلا تكون لها علةٌ صورية، بينما لا بد أن تكون لها علةٌ فاعلية هي التي أفاضت وجودها، ولها علةٌ غائية وهي ما يصدر لأجله ‏المعلول.

إذن تختلف الموجودات الجسمية عن غيرها في أن لها أربعَ علل؛ علة مادية وعلة صورية — لأن الجسم يتألف من مادة وصورة؛ ولهذا تكون العلة المادية والعلة الصورية من مختصَّات الأجسام — ولها علة فاعلية وعلة غائية.

العلة المادية والمادة والعلة الصورية والصورة

تارةً نلاحظ المادة بالنسبة للجسم؛ أي بالنسبة للمركب المؤلف من المادة ومن الصورة، فنسمِّي المادة بالعلة المادية بالنسبة للجسم، وتارةً نلاحظ المادة لا بالنسبة للمركب، وهو الجسم المؤلَّف منها ومن الصورة، وإنما نلاحظها بالنسبة إلى الصورة فقط، فنسمِّيها المادة.

وهكذا الصورة؛ فتارةً نلاحظها بالنسبة للجسم المركَّب منها ومن المادة، فتسمَّى بالعلة الصورية، وأخرى نلاحظها في قبال المادة فقط فنسمِّيها بالصورة؛ هذا هو الفرق بين الصورة والعلة الصورية، وهو فرقٌ اعتباري بنحو اللحاظ، وكذلك الفرق بين المادة والعلة المادية، هو فرقٌ اعتباري بنحو اللحاظ أيضًا؛ فمرةً نلاحظ المادة بالنسبة للمركَّب منها ومن الصورة فتكون علةً مادية، وأخرى نلاحظها بالنسبة للصورة فقط فتكون مادة. وهكذا الصورة.

معنى العلة

المقصود بالعلِّية هنا مطلق ما يتوقف عليه الشي‏ء، سواء كان ذلك المتوقف عليه معطيَ الوجود أو لم يكن معطيًا للوجود.

معنى الصورة

الصورة قد تُطلق ويُراد منها الهيئة والشكل الخارجي للشي‏ء، والمقصود بالصورة هنا هي أحد أنواع الجواهر الخمسة المتقدمة؛ أي ما به فعلية الشي‏ء وما به الأثر، كالنفس الناطقة بالنسبة للإنسان، فإن منشأ الأثَر وفعلية النوع الإنساني إنما تكون بسبب النفس الناطقة؛ أي بهذه الصورة النوعية؛ فالنفس الناطقة هي منشَأ الآثار بالنسبة للإنسان؛ لأن فعلية النوع الإنساني وتحصُّله إنما يكون بالنفس الناطقة.

معنى المادة ومناقشة الماديين

المادة هي الاستعداد والقابلية؛ أي هي حيثية قبول الصور. والمصنِّف أشار إلى أن جملة من علماء الطبيعة قالوا: ليس هناك من علة سوى العلة المادية، أما بقية العلل فنفَوا وجودها؛ لأنهم زعموا أن الموجود هو عالم الطبيعة والمادة فقط؛ فالوجود يساوي المادة والمادة تساوي الوجود، وأنكروا كل موجودٍ خارج إطار المادة.

غير أننا نقول لهم: ما هو المقصود بالمادة؟ هل يعنون بالمادة المادة الأولى أو المادة الأولى والثانية مثلًا؟ فإننا لو لاحظنا المادة لوجدنا أن حيثيتها هي حيثية القبول، الاستعداد، الفقدان؛ أي هي عبارةٌ عن استعداد فقط، هي حيثية قبول الصور؛ ولذلك كانت المادة شيئًا فاقدًا للصور الفعلية، أو قُل المادة ما دامت حيثيتها حيثية الفقدان فليس لديها قابلية أن تمنح الوجود لشي‏ء أو تعطي لشي‏ء؛ لأن فاقد الشي‏ء لا يعطيه؛ لأن حيثية المادة هي حيثية الفقدان، فهي مجرد استعداد لا تتحقق ولا تتحصل إلا بالصورة. هذه هي المادة الأولى؛ أي الهيولى الأولى للعالم.

أما المادة الثانية فهذه أيضًا فقيرة، والتي هي عبارة عن الأجسام؛ فالجسم فقير؛ لأن حيثيته حيثية قبول الصور النوعية، كما أن الجسم والمادة الثانية هي أمرٌ مشترك في كل الموجودات المادية، فإذا كان الأمر كذلك، إذن لماذا اختلفَت الموجودات المادية في آثارها المترتِّبة عليها؟ هذا من جهة. ومن جهةٍ أخرى أن الممكن حتى يخرج من حد الاستواء ويصل إلى حد الضرورة؛ أي لكي يخرج من حد استواء النسبة إلى الوجود والعدم ويصل إلى حد الضرورة والوجوب ويكون وجوده واجبًا، لا تكفي لذلك الأولوية؛ أي أولوية الوجود على العدم، وإنما لا بد أن يصل طرف الوجود إلى درجة الوجوب، لا كما قال المتكلمون تكفي بذلك الأولوية؛ لأن الشي‏ء ما لم يجب لا يوجد كما تقدم. وهذا معناه أن العلة لا بد أن تسد كل أبواب عدم المعلول، وإلا لو بقي بابٌ للعدم مفتوح على المعلول، لأتى السؤال: لماذا وُجد هذا ولم يُعدم؟ وعلى هذا الأساس فإنه لا بد أن يصل هذا الموجود لدرجة الوجوب لكي يُوجَد، وإلا فلن يُوجَد. إذن لا يمكن أن تكون العلة منحصرة بالمادة كما قال الطبيعيون.

وهذا الكلام في مناقشة الطبيعيين نقرِّره ببيانٍ آخر وملخَّصه: أن الدليل على عدم انحصار العلة بالمادة، والدليل على عدم صحة ما ذهب إليه الماديون، الذين يقولون إن الوجود يساوي المادة، والمادة تساوي الوجود، وليس هناك من علة في هذا الوجود غير العلة المادية، الدليل على بطلان هذا الكلام وعدم انحصار العلة بالمادة يتألف مما يأتي:

  • الدليل الأول: يتكون من مقدمات، وهي:
    • الأولى: أن حيثية المادة هي حيثية القوة والاستعداد والقبول.
    • الثانية: أن حيثية القوة ملازمة للفقدان والعدم؛ لأن ما هو بالقوة يكون فاقدًا للفعلية.
    • الثالثة: فاقد الشي‏ء لا يُعطيه ولا يُوجِده.

    والنتيجة أنه يمكن أن تُوجَد فعلية الجسم من دون علة، وهذا محال؛ لأنه إذا كانت المادة فقط تمنح فعلية الجسم، والمادة فقيرة فلا يمكن أن تعطي ذلك، وعلى هذا الأساس لا يمكن أن تُوجد فعلية الأجسام بدون علة.

  • الدليل الثاني: أن الشي‏ء ما لم يجب لا يُوجد؛ لأن الأولوية التي قال بها المتكلمون ابطلناها فيما سبق. والوجوب يعني الضرورة واللزوم، وهذه الضرورة لا يُمكِن أن تستند إلى المادة؛ لأن حيثية المادة هي حيثية القبول والإمكان، والوجوب لا يمكن أن يستند للإمكان. إذن الوجوب يحصل من خارج المادة ومن غير المادة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥