الفصل الحادي عشر

في العلة الجسمانية

إن العلة الجسمانية أو الفاعل الطبيعي يكون محدودًا في أثره؛ أي يكون محدودًا من حيثُ العدة، بمعنى أن أثره محدود، وليس هو لا متناهيًا، كما يكون محدودًا من حيثُ الزمانُ والمدَّةُ، كذلك يكون محدودًا من حيثُ الشدَّةُ الوجوديةُ، إلى درجة شدةٍ معيَّنة؛ فإن كل شيء متناهٍ شدة، وليس هناك ما لا يتناهى شدة إلَّا الله سبحانه وتعالى.

فلو لاحظنا النار مثلًا، فأثَرها في الإحراق له حدٌّ معين؛ أي وله مدةٌ زمانية معيَّنة، وله شدةٌ معيَّنة؛ ولذلك فإن الحرارة المتولدة من الشمعة، لها كمِّية معيَّنة، ولها زمانٌ معيَّن، ولها درجة شدةٍ معيَّنة، بينما الحرارة المتولدة من الفحم لها حدة ومدة وشدة تختلف، وهكذا. إذن تكون العلل الجسمانية محدودةً في عددها ومدتها وشدتها.

الدليل على أن العلة الجسمانية محدودة

الدليل يُقام على أساس الحركة الجوهرية؛ لأن العلة الجسمانية كما تُوجد حركات في أعراضها فكذلك هي متحركة بجواهرها؛ أي كما أن العرض متحرك كذلك الجوهر متحرك؛ فهي في ذاتها وعمقها متحركة؛ أي إن الأجسام عبارة عن موجوداتٍ سيَّالة، متحركة، وجودها وجود سيَّال تتناوب عليه الصور النوعية؛ ولهذا فكل صورة من الصور النوعية محدودةٌ في مقطعٍ خاص من الحركة، ثم بعد ذلك تليها صورةٌ أخرى في المقطع الثاني.

في ضوء هذا الفهم فالصورة الموجودة اليوم غير الصورة الموجودة بالأمس، وغير الصورة التي سوف تأتي غدًا؛ أي إن الصورة الموجودة هذا اليوم كانت معدومةً بالأمس، وهي معدومةٌ في الغد، فهي إذن محاطة بعدمَين، باعتبار أن كل وجودٍ جسماني هو وجودٌ سيَّال تتناوب عليه الصور النوعية؛ فهذه الصور محاطة بعدَمها بالأمس وبعدَمها في الغد؛ فهي محدودة بعدم قبلها وبعدها.

ولازم محدودية الصور النوعية محدودية آثار هذه الصور؛ فالصورة الموجودة هذا اليوم أثرها محدودٌ بحدود هذا اليوم، بينما لم يكن لها أثرٌ بالأمس ولا يكون لها أثرٌ في الغد؛ لأنه سوف تكون هناك صورٌ غيرها، والأثر دائمًا يكون أضعف من صاحب الأثر.

وبتعبير المصنِّف: لأن الأنواع الجسمانية متحركة بالحركة الجوهرية، فالطبائع والقوى التي لها منحلة منقسمة إلى حدود وأبعاض، كل منها محفوفٌ بالعدمَين محدودٌ ذاتًا وأثرًا.

والمقصود بالقوى عبارةٌ أخرى عن الطبائع؛ فإن القوة هنا بمعنى مبدأ الفعل، كما يُقال: القوة الباصرة، والقوة السامعة. والطبائع هي الصورة النوعية؛ أي الطبيعة التي هي مبدأ الأفعال والآثار الحادثة في الموجود المادي، كما مَرَّ إثبات الصور النوعية في الفصل الخامس من المرحلة السادسة.

العلة الجسمانية لا تفعل إلَّا مع وضعٍ خاص بينها وبين المادة

من أحكام العلل الجسمانية أنها لا تفعل إلَّا مع وضعٍ خاص بينها وبين المادة؛ أي نسبة مكانية خاصة بين العلة الجسمانية وأثَرها؛ فمثلًا لا بد أن تكون النار في وضعٍ معيَّن والخشب في وضعٍ معيَّن لكي يتقد ويشتعل، وإلَّا لو كانت النار على السطح والخشب على الأرض فلا يحترق الخشب.

وباعتبار أن العلة الجسمانية محتاجة في وجودها إلى المادة، فكذلك هي في تأثيرها وأثرها تكون محتاجة إلى المادة؛ لأن الإيجاد فرع الوجود، فالعلة الجسمانية كما أنها في وجودها محتاجة إلى المادة، فكذلك هي في تأثيرها محتاجة إلى المادة؛ أي عندما تؤثِّر لا بد من مادةٍ تقوم بها الصورة، كالنار عندما تحترق لا بد من خشب تقوم به الصورة النارية، ولا بد من وضعٍ خاص بين النار والخشب.

وقد قالوا: إن الجسمانيات تصير علة لأمرٍ خارج عنها، كما تكون علة لأعراضها، وإن كانت علِّيتها وتأثيرها إنما هو في إحداث أعراض في جسمٍ آخر، بتبديل صورته إلى صورةٍ أخرى، لا إيجاد جسم من أصله، بل يمكن أن يُقال: إنها ليست سوى علةٍ مُعِدَّة، تُعِد المادة الأخرى لقبول الكمال الجديد من واهب الصور؛ فالأعراض في كل جسم معلولة لصورته النوعية، والصورة النوعية معلولة لما هو خارج المادة، وأما المادة والتي تسمَّى علة لهذه الصورة فهي ليست إلَّا علةً مُعِدَّة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥