الفصل الثالث

في وجوب وجود المعلول عند وجود العلة التامة ووجوب وجود العلة عند وجود المعلول

إن من أحكام العلِّية أنه يستحيل أن ينفك وجود العلة التامة عن المعلول، ويستحيل أن ينفك المعلول عن علَّته التامة؛ أي كلما وجدَت العلة التامة وجد المعلول، وكلما وجد المعلول وجدت علَّته التامة، وإذا انعدمَت العلة التامة انعدم المعلول.

وفي هذا الفصل يُوجَد مطلبان:

  • الأول: وجوب وجود المعلول عند وجود العلة التامة؛ أي كلما وُجدَت العلة التامة يكون وجود المعلول واجبًا.
  • الثاني: وجوب وجود العلة عند وجود المعلول؛ أي إذا وجد المعلول يكون وجود العلة قبل ذلك واجبًا.

الوجوب بالقياس إلى الغير

الوجوب هنا بمعنى الضرورة. والوجوب، كما قرأنا فيما سبق، مرةً يكون بالذات، وأخرى يكون وجوبًا بالغير، وثالثة يكون بالقياس إلى الغير، والمراد بالوجوب هنا هو الوجوب بالقياس إلى الغير، بينما المراد بالوجوب في مسألة: «إن الشي‏ء ما لم يجب لم يُوجَد» المتقدمة هو الوجوب بالغير.

والمقصود بالوجوب بالذات هو وجوب الباري تعالى، والوجوب بالغير هو وجوب الممكن الموجود، فهو واجب الوجود بغيره؛ أي بعلته لا بذاته، وأما الوجوب بالقياس إلى الغير فهو كما في وجوب وجود أحد المتضايفَين إذا قيس إلى وجود الآخر. كما إذا قيس وجود التحت بالنسبة إلى وجود الفوق، فإن وجوده يكون واجبًا؛ أي يكون وجود التحت واجبًا بالقياس إلى وجود الفوق.

الإرادة جزء العلة

قد يُقال: لو أنه متى ما تحقَّقَت العلة التامة كان المعلول موجودًا، لكانت العلة مجبورة في إيجاد معلولها، ومن هنا نشأَت شبهة عند بعضهم، وهي أن هذا القول يقتضي أن يكون الواجب تعالى علَّة مجبورة أو فاعلًا مجبورًا في إيجاد هذا العالم.

الجواب: الصحيح أن هذا التوهُّم لا يصدُق على الواجب تعالى؛ لأن العلة التامة من أجزائها إرادة الفاعل؛ فما لم تتحقَّق إرادة لدى الفاعل لا تتحقق العلة التامة؛ فعندما تريد أن تكتب أو تأكل أو تفعل أي شي‏ءٍ آخر، لا بد أن تتوفر جملة أشياء لكي يتحقق الفعل، ومن هذه الأشياء أن تُوجَد لديك إرادة للفعل، وإلا لو لم تُوجَد لديك إرادة للفعل فإن الفعل لا يتحقَّق.

إذن إرادة الفاعل هي جزء العلة، فإرادة الواجب تعالى هي جزء العلة؛ فإن أراد فعَل وإن لم يُرِد لم يفعل، وهذه المسألة ستتضح أكثر في المرحلة الثانية عشرة.

إذن فلا يصح أن يُنسب للواجب تعالى أنه فاعلٌ مجبور، أو أنه علَّة مجبورة، باعتبار أن العلة التامة متى ما وُجدَت وجب أن يُوجَد معلولها؛ لأنه لكي يكون الواجب تعالى علَّة تامة لا بد من إرادته تعالى للفعل؛ لأن الإرادة من أجزاء العلة، فما لم تتحقق إرادة الفاعل لا يمكن أن تكون هناك علَّة تامَّة، وإذا لم تكن هناك علَّة تامَّة لا يُوجد المعلول.

وجوب وجود المعلول عند وجود علته التامَّة

إذا كانت العلة التامة موجودة فيجب وجود المعلول، والدليل على ذلك: إذا لم يكن وجود المعلول واجبًا عند وجود علته التامة، فيعني ذلك أنه يمكن أن يكون عندئذٍ المعلول معدومًا؛ أي إذا قلنا يجوز عدم المعلول مع وجود علته التامة، فمع وجود العلة التامة للاحتراق لا يُوجَد احتراق مثلًا، بمعنى يلزم من ذلك انعدام المعلول، وعدم المعلول يحتاج إلى علَّة — كما أشرنا سابقًا — وعلة عدم المعلول هي عدم العلة، أي إن عدم العلة هو علة لعدم المعلول، وهنا المعلول معدوم، فإذا كان معدومًا، حينئذٍ فلا بد أن تكون علته معدومة أيضًا، بينما نحن نفترض وجود العلة التامة، فإذا وُجدَت العلة التامة مع عدم المعلول يلزم من ذلك اجتماع النقيضَين وهو مُحال.

وجوب وجود العلة عند وجود المعلول

من المُحال أن يكون المعلول موجودًا ولا تكون علته موجودة، فإذا كان المعلول موجودًا ولم تكن علَّته واجبة الوجود، يمكن أن تنعدم العلة مع وجود المعلول، وقد قلنا فيما سبق — في الفصل الثاني — إن العلة سواء كانت تامة أو ناقصة، إذا انعدمَت ينعدم المعلول، وهذا خلاف ما فرضناه من أن المعلول موجود.

وعلى هذا الأساس فالمعلول لا ينفك عن وجود علته، كما أن العلة لا تنفك في وجودها عن وجود معلولها، بينهما تلازم ولا يمكن التفكيك بينهما.

وهذا البرهان الذي ذكره المصنِّف يبتني على ما قاله المشهور؛ أي على القول بأن الإمكان من لوازم الماهية، فالبرهان هنا يبتني على الإمكان الماهوي لا على الإمكان الفَقري الذي قالته مدرسة الحكمة المتعالية، بينما سيذكر في نهاية هذا المبحث البرهان الذي يبتني على الإمكان الفَقري.

فعلى أساس الإمكان الماهوي: عندما نقول إن وجود المعلول واجب عند وجود علته التامة، ووجود العلة واجب عند وجود المعلول، فإن هذا البرهان يبتني على الخُلف؛ أي إذا فرضنا — كما سبق — انعدام العلة عند وجود المعلول، أو فرضنا انعدام المعلول عند وجود العلة، فيلزم من ذلك الخُلف، وحينئذٍ يلزم من ذلك اجتماع النقيضَين؛ أي يلزم أن تكون العلة موجودة وغير موجودة، كما أشرنا قبل قليل.

وجوب وجود علة المعلول الزماني في زمانه بعينه

قد يكون المعلول زمانيًّا؛ أي إن المعلول موجود في زمانٍ معين، ومن المعلوم أن الزمان لا يكون إلا في عالم المادة، وإلا فعالم المجردات لا زمان فيه؛ لأن الزمان يعرض للحركة، والحركة تكون في عالم المادة، أمَّا خارج عالم المادة فلا تُوجد حركة، فإذا لم تكن هناك حركة وكان العالم مجردًا فلا زمان، أو قل لا يعرض الزمان على ذلك العالم أساسًا. ولهذا قال المصنِّف: إذا كان المعلول زمانيًّا؛ أي موجودًا في هذا العالَم الذي يعرض عليه الزمان، وإذا كان موجودًا في زمانٍ معيَّن من الأزمنة، فحينئذٍ لا بد أن تكون علَّته موجودة في هذا الزمان، وإلا يلزم أن يكون المعلول موجودًا وعلَّته معدومة.

فهذا الكتاب زماني؛ لأنه موجود في الزمان، فإذا فرضنا أن هذا الكتاب موجود في زمانٍ معيَّن، فلا بد أن تكون علَّة الكتاب موجودةً في ذلك الزمان نفسه؛ أي إذا كان هذا الكتاب موجودًا في الساعة العاشرة وجب أن تكون علته موجودة في تلك الساعة نفسها، وإلا لا يصح وجود الكتاب في هذه الساعة والعلة موجودة في زمانٍ آخر، بل لا بد أن تُوجد معه في الزمان نفسه؛ فلو فرضنا وجود هذا الكتاب في الساعة العاشرة مع أن علته كانت موجودة في الساعة التاسعة، فيلزم من ذلك وجود المعلول مع كون علته معدومة، وهو محال؛ لأن العلة إنما تُفيض وجود المعلول بوجودها، فإذا كانت العلة معدومة فلا تكون مفيضة للمعلول؛ لأن العدم لا يفيض الوجود، فلا بد من وجود العلة في نفس زمان وجود المعلول لا في زمانٍ سابقٍ لوجوده أو متأخرٍ عن وجوده.

برهان آخر على حاجة الماهيَّة المعلولة إلى العلة

ثم ينتقل المصنف لبيان برهانٍ آخر على حاجة الماهية المعلولة إلى العلة، وأنها لا يمكن أن تستغني عن العلة، وأن هناك تلازمًا بينها وبين العلة.

وهذا البرهان يبتني على مسألة الإمكان الفَقري، وهو يعني أن الإمكان هو الفَقر، والوجوب هو الغنى؛ أي الممكن هو الفقير والواجب هو الغني، ولهذا عندما يُقال: بأن المعلول محتاج في وجوده إلى العلة، فلا يعني ذلك أنه شي‏ء له الحاجة، وإنما الاحتياج هو المعلول، حقيقة المعلول هي الفَقر والاحتياج، فالإمكان يعود هنا إلى الفقر، والوجوب يعود إلى الغنى.

وعندما نقول: إن هذا واجب فمعنى ذلك أنه غني، وعندما نقول: هذا ممكن فمعنى ذلك أنه فقير، والفقير محتاجٌ لا يقوم بذاته.

وهذا يختلف عن الحاجة والفقر المتداول بيننا؛ فعندما نقول: زيدٌ من الناس فقير، فلا بد أن يكون زيد موجودًا، ثم بعد ذلك نفترض أنه ليس لديه مال، فالمال زائدٌ في الواقع على زيد، ولكن عندما نقول: الإنسان يساوي الناطقية زائدًا الحيوانية، فهذا يعني أن الناطقية والحيوانية هي عين وجود الإنسان وليست زائدة على وجوده كالمثال الأول؛ أي الإنسان ليس شيئًا محتاجًا إلى الحيوانية والناطقية بل هو يساوي الحيوانية والناطقية، أنت الآن من الممكن أن تتصور إنسانًا له عشرة رءوس أو حيوانًا له مائة رأس؛ إذ يمكن تصوُّر ذلك تصورًا، فهذه الصورة وجودها قائم في النفس، فمتى ما صرفَت النفسُ النظر عن مثل هذه الصورة فإنها تتلاشى، لماذا؟ لأنها ليست مستقلة في الوجود، أو قل وجودها عين الفَقر، فمجرد أن تغفُل عنها تنمحي هذه الصورة.

والممكن — بناءً على هذا القول — وجوده وجود فقير، وجود هو عين الربط والاحتياج، أو قل المعلول يساوي الفقر والربط والحاجة، ووجوده عين الحاجة وعين الارتباط، فيكون وجوده بالنسبة إلى علته وجودًا رابطًا، وهذا الوجود الرابط دائمًا قائم بغيره، فمتى ما تصوَّرنا أن الغير منتفٍ، يكون هذا الوجود منتفيًا أيضًا، ومتى ما تصوَّرنا أن هذا الغير موجودٌ يكون الوجود الرابط موجودًا كذلك؛ فعند وجود المعلول يجب وجود العلة.

هذا ما أفادته مدرسة الحكمة المتعالية التي تفسِّر الوجوب والإمكان بالغنى والفقر، وبالوجود الرابط والوجود المستقل، والوجود المحتاج والوجود المحتاج إليه، وعلى هذا الأساس لا نحتاج إلى البرهان السابق.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥