الفصل الرابع

قاعدة الواحد

قاعدة الواحد، وهي قاعدة فيها كلامٌ مفصَّل، وقد تبنَّى المتكلمون منها موقفًا، فيما تبنى الفلاسفة منها موقفًا آخر، واستفاد الأصوليون منها، فحاولوا أن يطبِّقوها في مباحثهم، وبالذات في مسألة موضوع العلم، كما في كفاية الأصول أو غيره، وإن كانت تطبيقاتهم لهذه القاعدة ليست في مجالها.

وتطبيقات هذه القاعدة سبَّبَت جدلًا واسعًا بين الحكماء والمتكلمين، ولعل هذا الجدل يعود إلى عدم التدقيق في فهم قاعدة «الواحد لا يصدُر عنه إلا الواحد». وعلى أساس هذه القاعدة، تبنَّى الفلاسفة بعض الأقوال. ومن المعلوم أن الاختلاف في المسائل الفلسفية ينشأ غالبًا من عدم التصور الصحيح لهذه المسائل؛ لأن التصور الصحيح لهذه المسائل يساوق التصديق بها؛ أي إن المشكلة في الفلسفة كثيرًا ما تكون ناشئة من التباس التصور.

المقصود بالواحد

ينقسم الواحد إلى: حقيقي وغير حقيقي، والحقيقي إلى ذاتٍ متصفة بالوحدة، وذاتٍ هي عين الوحدة، وهذا الأخير من المُحال أن يُفرض له ثانٍ. كما قلنا إن الصِّرْفَ من الشي‏ء لا يتثنَّى ولا يتكرَّر، هنا أيضًا هذا الواحد الحقيقي الذي تكون ذاته عين الوحدة من المُحال أن يُفرض له ثانٍ، وأحيانًا يقيَّد بالوحدة الحقَّة الحقيقية، وهذه الوحدة منحصرة بالواجب تعالى، في قبال الوحدة الحقَّة الظلِّية التي تكون في عالم الإمكان.

والمقصود في هذا الفصل هو الواحد الحقيقي الذي تكون ذاته هي عين الوحدة.

والمراد من الصدور، عندما يُقال: «الواحد لا يصدر منه إلا الواحد» هو العلَّة الفاعلية المُوجِدة للشي‏ء، فالمراد من الصدور هو الإيجاد وتحقيق الشي‏ء، وهذا يختص بالعلة الحقيقية وهي الله تعالى. أما العلَل التي تكون وسطية فيقول الحكماء: إنها شرائط ومعِدَّات أي مقرِّبات ومهيئات، وليست عِللًا حقيقية، فالمراد من «الواحد لا يصدر منه إلَّا الواحد»، هو فعل الواجب تعالى؛ أي هكذا يُقال: إن فعل الواحد الحق — الواجب تعالى — فعلٌ واحد.

البرهان على قاعدة الواحد

قال بعض الحكماء: إن هذه القضية من القضايا البديهية التي لا تحتاج إلى برهان، كما أشار إلى ذلك الميرزا مهدي الآشتياني في «أساس التوحيد» حيثُ قال: إن قاعدة الواحد لا تحتاج إلى برهان وإن ما يُقام عليها من براهين إنما هي منبِّهات فقط.

والمصنِّف أقام برهانًا على هذه القاعدة، فقال: من الواجب أن يكون بين العلة ومعلولها سنخيةٌ ذاتية، وإلا جاز أن يصدُر كل شي‏ء من كل شي‏ء. وعلى هذا الأساس فلا بد أن يكون ما يصدُر من الواحد هو الواحد، والمراد من السنخية هنا، أن تكون هناك خصوصية في العلة، وهذه الخصوصية تكون هي السبب لوجود المعلول؛ أي هناك خصوصية في النار، تكون هي السبب لصدور الاحتراق من النار، وهناك خصوصية في الثلج، هي السبب لصدور البرودة منه، وهناك خصوصيةٌ في الدهن، هي السبب لصدور الدسومة منه، وإلَّا لو لم تكن هذه الخصوصية وهذه السنخية موجودة لأمكن أن يصدُر المعلول من أية علة. إذن لا بد من وجود خصوصية في العلة تكون منشأً لصدور المعلول، ولولا هذه الخصوصية — السنخية — لأمكن أن يصدُر كل شيء من كل شي‏ء؛ أي يكون الثلج علَّة للاحتراق، والنار علَّة للبرودة.

فإذا كان الواحد واحدًا بالوحدة الحقَّة الحقيقية، الذات هي عين الوحدة، فلا بد أن يكون ما يصدر منه واحدًا. وقد قالوا: لولا مبدأ السنخية لأمكن أن يكون كل شي‏ء علَّة لكل شي‏ء، فعلى أساس مبدأ السنخية لا يمكن أن يكون الشي علَّة إلَّا لما هو مُسانِخ له من المعلول؛ أي ما فيه خصوصية تكون منشَأ لصدور المعلول.

وعندما نقول الواحد لا يصدر منه إلا الواحد، فمن أوضح مصاديق الواحد هو الواحد بالوحدة الحقة الحقيقية، وهو الواجب تعالى.

وهذا البرهان على قاعدة الواحد يمكن أن يشمل الواجب وغيره، بمعنى أن أية علة من العلل ليس فيها إلا خصوصيةٌ واحدة تكون منشَأ لمعلولٍ واحد، ومن المُحال أن تكون منشَأ لأكثر من هذا المعلول؛ لأن السنخية تقتضي ألَّا يصدُر من هذه العلة إلا هذا المعلول الواحد.

وعلى هذا قالوا: بأن الواحد لا يصدُر منه إلا الواحد. وعمَّم بعض الفلاسفة قاعدة الواحد لغير الواجب أيضًا شريطة وجود السنخية والخصوصية الواحدة، التي لا يمكن أن تكون منشَأ لأكثر من معلولٍ واحد.

مستخلَص لما سبق

فخلاصة القول في هذه القاعدة التي حولها كلامٌ مفصَّل في كتب الحكماء، أنه إذا كانت العلَّة بسيطة من كل الجهات — وهو الواجب تعالى — فمن غير الممكن أن نفرض فيه خصوصياتٍ متعددة، بل هو بسيط من كل الجهات؛ من هنا قالوا: يمكن أن تصدُر منه معاليل متكثرة؛ لأن تكثُّر المعاليل يعني تكثُّر الخصوصيات في العلة؛ لأن كل معلول يكون ناشئًا من خصوصية، فلا بد أن يكون الصادر منه غير متكثر أيضًا؛ لأنه بسيطٌ بساطةً بحتة، بسيطٌ من كل جهة، وبساطته تقتضي أنه ليس فيه إلا خصوصية أنه بسيط من كل جهة؛ ولهذا يجب أن يكون المعلول الصادر منه واحدًا غير متعدد، وإلا يلزم من ذلك أن ما فرضنا أنه واحد وهو العلة ليس بواحد بل يكون كثيرًا، ولهذا قالوا: بأن عالم الإمكان الصادر من الواجب هو واحدٌ بكل ما فيه من مراتب؛ فهو واحدٌ وصادر من واحد، هو الله تعالى.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥