العلة الفاعلية وأقسامها
ذكرنا فيما سبق أن العلة تنقسم إلى قسمَين؛ علة قوام وعلة وجود. وعِلَل القوام هي العلة المادية والعلة الصورية، وعِلَل الوجود هي العلة الفاعلية والعلة الغائية.
والعلة الفاعلية هي العلة التي تُفيض وجود المعلول وتفعل المعلول، كالنار بالنسبة إلى الاحتراق فإنها علةٌ فاعلية، فهي التي تُفيض وجود الاحتراق؛ أي هي التي تفعل الاحتراق.
أقسام العلة الفاعلية
ذكر المصنِّف للعلة الفاعلية عدة أقسام، وهذه الأقسام بالنظر الأوَّلي تنتهي إلى ثمانية أقسام، والمصنف يبيِّن إجمالًا هذه الأقسام ثم يفصِّلها بعد ذلك.
إن الفاعل يكون أحد أمرَين؛ إما فاعلًا له علم بفعله، أو فاعلًا ليس له علم بفعله. والفاعل الذي له علم بفعله ينقسم إلى قسمَين، وكذلك ينقسم الفاعل الذي ليس له علم بفعله إلى قسمَين أيضًا.
فالفاعل الذي لا علم له بفعله، إما أن يلائم فعلُه طبعَه، وهو ما يُسمَّى بالفاعل بالطبع، كهضم المعدة للطعام، وسقوط الحجر من الأعلى؛ فالمعدة عندما تهضم الطعام لا تعلم بفعلها، والهضم ملائم لطبعها. وأما الفاعل الذي لا علم له بفعله، وفعله لا يلائم طبعه، فهو الفاعل بالقَسْر، كالمعدة في حالة المرض؛ فهي تضطرب ولا تهضم الطعام، وقد يحصل تقيُّؤ؛ فعندما تحصل حالة التقيُّؤ لا علم للمعدة بفعلها، كما أن فعلها لا يلائم طبعها. وهذا الفاعل يعبَّر عنه بالفاعل بالقَسْر؛ هذا هو القسم الأول من العلة الفاعلية، وهو الذي ليس له علمٌ بفعله.
أما الفاعل الذي له علم بفعله فهو ينقسم إلى قسمَين، فتارةً لا يكون فعله بإرادته، فهو فاعل له علمٌ بفعله ولكن فعله ليس بإرادته، من قبيل الإنسان المُكرَه على ما لا يريده، إنسان مكره على أن يمشي أو يأكل، فهو يعلم بفعله لكن فعله ليس بإرادته. وتارةً أخرى يكون للفاعل علمٌ بفعله ويكون فعله بإرادته، وهذا القسم الذي يكون فعله بإرادته ينقسم إلى قسمين: إلى ما يكون علمه بفعله في مرتبة فعله بل عين فعله، وهو ما يُسمَّى بالفاعل بالرضا، وأخرى يكون علمه بفعله قبل فعله، وهو تارةً يكون فعله مقرونًا بداعٍ زائد على علمه، وهو الفاعل بالقصد، وأخرى لا يكون علمه بفعله مقرونًا بداعٍ زائد على العلم، بل يكون نفس العلم فعليًّا منشَأ لصدور المعلول، وهذا نفسه ينقسم إلى قسمَين: إلى ما يكون علمه غير زائد على ذاته، وهو الفاعل بالعناية، وما يكون علمه زائدًا على ذاته، وهو الفاعل بالتجلِّي.
وهذه الأقسام حتى الآن أصبحت سبعة؛ الفاعل بالطبع، الفاعل بالقَسْر، الفاعل بالجَبْر، الفاعل بالرضا، الفاعل بالقصد، الفاعل بالعناية، الفاعل بالتجلي، وهناك قسمٌ آخر ذكره المصنِّف في نهاية هذه الأقسام، وإن كان كما سيأتي لا يكون في عرض الأقسام السابقة، وهو الفاعل بالتسخير، وهو بمعنى أن الفاعل إذا نُسب إلى فعلِه من جهة أنه هو وفعله فعلٌ لفاعلٍ آخر فهو الفاعل بالتسخير، فأصبحَت الأقسام ثمانية.
هذا هو البيان الإجمالي لأقسام العلة الفاعلية، بعد ذلك ندخل في بيان كل قسم من هذه الأقسام بالتفصيل.
(١) الفاعل بالطبع
الفاعل بالطبع، هو الذي لا علم له بفعله مع كون الفعل ملائمًا لطبعه. وهنا قَيدان؛ الأول: أن الفاعل لا علم له بفعله، والثاني: فعله ملائم لطبعه؛ أي فعله ليس خلاف طبيعته، كالمعدة عندما تهضم الطعام، والحجر عندما يسقط من الأعلى إلى الأسفل، والكُلْية عندما تمتص السوائل وتطرحها على شكل بول، والقلب عندما يضُخُّ الدم لسائر أنحاء البدن، فكل واحد من هذه الأشياء لا علم له بفعله، وكذلك هذا الفعل يلائم طبعه؛ ولذلك يعبَّر عنها بالفاعل بالطبع.
(٢) الفاعل بالقَسْر
الفاعل بالقَسْر، وهو الذي لا علم له بفعله، وفعله لا يلائم طبعه، فيُوجَد أيضًا قَيدان، كالفاعل بالطبع، ولكنهما يتفقان في جهة، وهي أنهما كلَيهما لا يعلم بفعله، لكن الفاعل بالطبع فعله يلائم طبعه، بينما الفاعل بالقَسْر فعله لا يلائم طبعه، بل هو مقسورٌ عليه؛ أي تُوجَد عوامل تجعله يضطرب في تأدية وظيفته، ولا يكون فعله ملائمًا لطبعه، كالمعدة عندما تضطرب حالتها ولا تهضم الطعام، بل بدلًا من هضم الطعام بشكلٍ صحيح تستفرغ الطعام، أو الحجر عندما يُقذف للأعلى، فهو بطبيعته يسقط نحو الأرض بفعل الجاذبية؛ ولذلك فعندما يُقذَف الحجر نحو الأعلى، فهذا خلاف طبيعته وهي السقوط نحو الأسفل.
(٣) الفاعل بالجبر
الفاعل بالجبر، وهو الذي له علم بفعله، ولكن فعله ليس بإرادته، فهو خلاف الفاعل بالطبع أو الفاعل بالقَسْر؛ لأنه يعلم بفعله وهما لا علم لهما بفعلهما، لكن فعله ليس بإرادته، كالإنسان الصائم عندما يُكره على الأكل، أو يُكره على فعلٍ هو لا يريده، فعندما يشرب الماء وهو صائم تحت التعذيب، فهو فاعلٌ مجبور وليس فاعلًا مختارًا، مع أنه يعلم بفعله.
(٤) الفاعل بالرضا
الفاعل بالرضا، وهو الذي له إرادة أو قل له علم بفعله، ولكن هذا العلم تارةً يكون علمًا إجماليًّا وأخرى يكون علمًا تفصيليًّا، والعلم الإجمالي هنا، هو العلم الذي يكتنفه إبهام وغموض، كما نقول في معنى العلم الإجمالي في علم أصول الفقه، فالمقصود به علمٌ زائدٌ عليه إبهام؛ أي نعلم بالجامع ونشُك بالأطراف؛ فالأطراف مبهَمة مجمَلة، وهنا أيضًا الفاعل بالرضا له علمٌ بفعله وله إرادة، ولكن علمه التفصيلي بالفعل هو عين الفعل، أما قبل الفعل فلا علم له إلا علمٌ إجمالي بالفعل لأنه يعلم بذاته، فإن ذاته علة للفعل، والعلة واجدةٌ للمعلول بنحوٍ أعلى وأشرف، فالعلة عالمة بمعلولها بعلمها بذاتها، من قبيل الإنسان الكاتب مثلًا، فإنه عندما يريد أن يكتب مقالًا يعلم أنه سيكتب مجموعة أفكار، ولكن هذه الأفكار إنما تتوالد وتتسع حال الكتابة، فقبل الكتابة له علمٌ إجمالي، مبهَم؛ لأنه يعلم أنه سوف تحضر في ذهنه صورٌ كثيرة، لكن لا يستطيع تحديدها بشكلٍ دقيق، والرسام مثلًا يعلم أنه سيرسم الكثير من اللوحات، ولكن قبل الرسم لا تحضُر الصور التفصيلية للوحة لديه بكل تفاصيلها، أو النفس الإنسانية بالنسبة لمعرفة المستقبل، لاحظ وضعك في المستقبل فسوف يحضُر في ذهنك شريطٌ من الصور المختلفة، ولكن هذه الصور علمك بها الآن علمٌ إجمالي، فلو قلتُ لك: ما هي الصور التي تحضُر في ذهنك غدًا؟ فإنك تقول: ما دمت مستيقظًا فسوف تحضُر في ذهني معانٍ وصور، إذن لديك علمٌ إجمالي بما يكون في ذهنك، ولكن هذا العلم ليس علمًا تفصيليًّا، وإنما علمك التفصيلي بهذه الصور سيكون في الغد، في مرحلة الفعل؛ أي العلم التفصيلي بالصور سيكون هو عين الصور والمعاني؛ فبمجرد تحقُّق هذه المعاني والصور في النفس تعلم بها تفصيليًّا، كما أنك كنت تعلم بها علمًا إجماليًّا فيما مضى.
وهذا يعبَّر عنه بالفاعل بالرضا؛ ومن هنا قال السهروردي وأتباعه من الإشراقيين، بأن فاعلية الواجب للأشياء هي كذلك؛ أي إن الواجب له علمٌ إجمالي في مرتبة ذاته بالموجودات، ولكن في مرتبة وجود الموجودات يكون له علمٌ تفصيلي بها؛ أي إن تفسير الإشراقيين لعلم الواجب يكون هكذا: إنه فاعل بالرضا؛ أي إنه يعلم بنفسه علمًا تفصيليًّا، ولكن في مقام ذاته يعلم إجمالًا بمخلوقاته التي لم يخلقها بعدُ، بينما حينما يُوجِد هذه الأشياء يتحقق له علمٌ تفصيلي بها. إذن فعِلمه بالموجودات قبل الإيجاد والخلق إجمالي، ولكن بعد الإيجاد والخلق يكون علمًا تفصيليًّا، فإذن علمه الإجمالي في مقام الذات يتبعه علمه التفصيلي في مقام فعله.
(٥) الفاعل بالقصد
الفاعل بالقصد، وهو الذي له علمٌ بفعله، وله إرادةٌ للفعل، ولكن هذه الإرادة إنما تتحقق بداعٍ زائد على ذات الفاعل، وهذا الداعي عندما يتحقَّق تُوجَد إرادة الفعل، وعندما لا يتحقَّق لا تُوجَد إرادة الفعل، كالإنسان في أفعاله الاختيارية عندما يتصرف فلا بد أن يكون هناك داعٍ، وهذا الداعي زائدٌ على ذات الإنسان، وبهذا الداعي تتحقَّق الإرادة للفعل، وحينئذٍ يفعل الفعل، فإن لم يُوجَد هذا الداعي لا تتحقق الإرادة للفعل، ولا يفعل الإنسان ذلك الفعل.
إذن الفاعل بالقصد هو الذي يكون له علمٌ بالفعل، وإرادةٌ للفعل زائدًا على ذاته، ومن هنا قال المتكلمون إن الله تعالى في فعله للأشياء إنما يكون من نوع الفاعل بالقصد، بينما ذهب غيرهم إلى أن فاعلية الواجب تعالى للأشياء إنما تكون بكيفيةٍ أخرى.
(٦) الفاعل بالعناية
الفاعل بالعناية، وهو الذي له علم بفعله، وله إرادة لفعله، وبذلك يشترك الفاعل بالعناية مع الفاعل بالرضا والفاعل بالقصد، إلا أن الفاعل بالعناية له علمٌ تفصيلي في مقام ذاته، ومن هنا يختلف الفاعل بالعناية عن الفاعل بالرضا، فإن الفاعل بالعناية له علمٌ تفصيلي في مقام ذاته بينما الفاعل بالرضا له علمٌ إجمالي في مقام ذاته وتفصيلي في مقام فعله، لكن العلم التفصيلي للفاعل بالعناية زائد على ذاته وليس هو عين ذاته، وهذه هي نظرية المشَّائين في تفسير علم الواجب، وهي النظرية المعروفة عندهم بنظرية الصور المرتسمة، وهو أن للواجب تعالى علمًا تفصيليًّا بفعله قبل فعله، ولكنه ليس عين ذاته وإنما هو زائد على ذاته، وهذا العلم هو الذي يكون سببًا ومنشَأ لصدور المعلومات والموجودات في الخارج؛ لأن العلم — كما يقولون — ينقسم إلى قسمَين؛ علم انفعالي، وعلم فعلي، والانفعالي هو الذي يكون له معلوم في الخارج؛ أي يتلقى من الواقع الخارجي، أما العلم الفعلي فهو ذلك العلم الذي بسببه يتحقق الموجود الخارجي؛ أي ينشأ من هذا العلم تحقُّق الموجود الخارجي، فعلم الواجب هو علمٌ تفصيلي فعلي، حيثُ يتبعه تحقُّق الموجودات الخارجية، وهذا كما لو كان الإنسان واقفًا على شاهق، فبمجرد أن ينظر إلى الأسفل، وبمجرد أن ترتسم صورة السقوط للأسفل، وصورة أنه سوف يتهاوى، هذه الصورة نفسها تسبب حالة اضطراب واختلال لديه يؤدي إلى انهياره وسقوطه، فأصبح علمه بالسقوط سببًا لتحقُّق السقوط، وبالنتيجة تحقُّق الواقع الخارجي، فهذا علمٌ فعلي، وهو علمٌ تفصيلي قبل وقوع الفعل، وهذا العلم هو الذي يكون منشَأ لصدور الفعل في الخارج.
(٧) الفاعل بالتجلِّي
الفاعل بالتجلِّي، وهو ما تبنَّته مدرسة الحكمة المتعالية بالنسبة لعلم الباري تعالى بفعله.
والفاعل بالتجلِّي هو الذي له علمٌ تفصيليٌّ سابق بالفعل، وهذا العلم التفصيلي هو عين العلم الإجمالي بذاته. وليس المقصود بالعلم الإجمالي هنا هو نفس العلم الإجمالي في الفاعل بالرضا، والذي كان يعني الإبهام زائدًا الوضوح، وإنما العلم الإجمالي هنا غير الذي يقوله السهروردي، بل الإجمال هنا هو البساطة في مقابل التفصيل؛ لأن مصطلح الإجمال ينطبق على معنيَين؛ فإما أن يُراد به الإبهام، أو يُراد به البساطة في مقابل التركيب، وهنا عندما نقول: إن الواجب تعالى له علمٌ إجمالي، ليس المقصود بذلك أن علمه علمٌ مبهَم، وإنما المقصود بذلك أن علمه علمٌ بسيط، وهذا العلم البسيط في عين أنه بسيط هو جامع لكل العلوم التفصيلية؛ أي هو في عين أنه إجماليٌّ جامع لكل التفاصيل؛ ولذلك يُقال: له علمٌ سابق تفصيلي؛ فهو علمٌ محيطٌ بجميع الأشياء.
ويمتاز هذا الكلام عن الكلام السابق، وهو ما قاله المشَّاءون في الفاعل بالعناية، الذي يرى أن العلم التفصيلي زائدٌ على الذات، في أن ما تقوله مدرسة الحكمة المتعالية هو أن العلم عين الذات وليس زائدًا على الذات.
(٨) الفاعل بالتسخير
الفاعل بالتسخير، وهذا الفاعل وإن كان يُذكر في عرض الأقسام السابقة كقسمٍ ثامن، ولكنه في الواقع ليس قسمًا آخر في مقابل الأقسام السابقة؛ لأن الفاعل بالتسخير ينطبق على الأقسام الأخرى؛ لأن الفاعل ينقسم إلى قسمين — كما في الأمثلة السابقة — فمرَّة يفعل الفعل ولكن له ولفعله فاعلٌ آخر، كما في المعدة تهضم الطعام، وهي مسخَّرة للنفس الإنسانية، فهذا الفاعل مع فعله له فاعلٌ آخر، أنت وفعلك لك فاعل هو الباري تعالى، وكل الموجودات الممكِنة وأفعالها لها فاعلٌ آخر هو الباري تعالى، فهو فاعلٌ لهذه الفواعل وأفعالها، ولهذا يُقال: إن الفاعل إذا كان من فوقه فاعل، يُسمَّى فاعلًا بالتسخير، الإنسان هو فاعل بالتسخير، والمعدة فاعلة بالتسخير، والفاعل الذي فوق يُسمَّى بالفاعل المسخِّر، الله تعالى فاعلٌ مسخِّر للإنسان، ولكل الفواعل في عالم الإمكان وأفعالها.
والفاعل المسخِّر الذي لا يسخِّره أحد هو الله تعالى. وكل فاعلٍ فوقه فاعل هو فاعل سُخِّر؛ ولهذا فكل فاعل في الأقسام السبعة للفاعل المتقدمة الذكر، سيكون فوقه فاعل، وهو الله تعالى.
وبذلك لا يكون القسم الثامن قسمًا مستقلًّا في عرض الأقسام الأخرى. وإنما تكون الأقسام سبعةً لا ثمانية؛ لأن هذا القسم الثامن ينطبق على الأقسام المتقدمة.
النفس وقُواها
يشير المصنِّف هنا إلى حقيقة النفس الإنسانية وقُواها، وبهذه المناسبة نشير إلى بعض النظريات التي فسَّرَت حقيقة النفس الإنسانية، وإن كان المصنِّف في كتابَي البداية والنهاية لم يدرُس علم النفس الفلسفي، بينما نجد في مدوَّنات الفلسفة الأخرى كالأسفار بحوثًا تفصيلية في علم النفس الفلسفي. كما نجد في مصنَّفات الفلسفة الأخرى نظريات الفلاسفة في تفسير حقيقة النفس الإنسانية، وهنا نشير إشارةً سريعة إلى بعض هذه النظريات بالقَدْر الذي يوضِّح المطلب.
نظرية المتكلمين
إن الإنسان له نفسٌ نباتية، ونفسٌ حيوانية، ونفسٌ إنسانية، والنباتية هي النفس النامية، والحيوانية هي النفس الحسَّاسة المتحركة بالإرادة، والإنسانية هي النفس الناطقة، وهذه النفوس ليس بعضها في عرض بعضها الآخر، وإنما بعضها في طول بعضها الآخر؛ أي بعض هذه النفوس مسخَّرة (بفتح الخاء) وبعضها مسخِّرة (بكسر الخاء)، النفس النباتية مسخَّرة للنفس الحيوانية، والحيوانية مسخِّرة للنباتية، والنفس الإنسانية مسخِّرة للنفس الحيوانية، وهذه النظرية هي التي نجدها في تراث بعض المتكلمين.
نظرية بعض الحكماء
النظرية الأخرى هي التي ذهب إليها بعض الحكماء، وهي تقول: إن للإنسان نفسًا واحدة، وهذه النفس لها قوًى متعددة، والنفس هي التي تسخِّر هذه القوى؛ فللنفس قوةٌ طبيعية، وقوةٌ نباتية، وقوةٌ حيوانية، وهذه القوى لا يسخِّر بعضُها بعضًا، بل إن كل هذه القوى مسخَّرة للنفس؛ ولهذا عندما يقول الإنسان: أكلتُ أو سمعتُ، فإنما يسمع بواسطة القوة السامعة، ولكن ينسب ذلك لنفسه من باب نسبة الشيء إلى ما هو لغيره، أو قل هنا يُوجَد لدينا فاعلٌ قريب وهو السامعة، وفاعلٌ بعيد وهو النفس، وعلى هذا الأساس ينطبق الفاعل بالتسخير في المقام، باعتبار أن النفس تكون مسخِّرة والقوى الثلاث تكون مسخَّرة لها.
نظرية ملا صدرا
النظرية الثالثة هي التي ذكرها صدر المتألهين في الجزء الثامن من كتابه «الأسفار الأربعة»، وهي تبتني على أساس أن النفس حقيقةٌ واحدة، ولكنها ذاتُ مراتبَ متعددة؛ فإن لهذه الحقيقة الواحدة مرتبةً في مرتبة القوة النباتية، ومرتبةً في مرتبة القوة الحيوانية، وثالثةً في مرتبة القوة الناطقة، وكل هذه المراتب تعود إلى حقيقةٍ واحدة.
ولهذا لا يوجد مسخِّر ومسخَّر؛ لأننا عندما نسمع شيئًا فالفاعل هو النفس، وعندما نأكل فالفاعل هو النفس؛ فالنفس هي التي تفعل الأفعال النباتية والأفعال الحيوانية والناطقية، وعندما نقول: سمعتُ أو أكلتُ فلا يكون ذلك من نسبة الشيء إلى ما هو لغيره، أو يكون لدينا فاعلٌ قريب وبعيد، وإنما يُوجَد فاعلٌ واحد وهو النفس.
وقد تبنى هذه النظرية صدر المتألهين والحكماء من بعده، ولهذا يعبِّر السبزواري في كتاب «المنظومة» بقوله:
النسبة بين الفاعل بالقصد وبين الفاعل بالعناية والجبر
يتأمل المصنِّف في كون الفاعل بالعناية والفاعل بالجبر مباينَين للفاعل بالقصد تباينًا تامًّا نوعيًّا؛ لأنه يرى أن الفاعل بالعناية والفاعل بالجبر والفاعل بالقصد ليس بينهم مباينةٌ نوعية، ويُفصِّل هذه المسألة في نهاية الحكمة من صفحة ١٧٣ إلى ١٧٥، وكذلك ذُكرَت هذه المسألة في الجزء الثاني من كتاب «الأسفار الأربعة»، ص٢٢٠ إلى ٢٢٣. ونذكُر هنا ملخصًا في هذا الموضوع، بالقَدْر الذي يرتبط بالمقام.
إن الفاعل بالجبر والفاعل بالعناية لا يمكن أن نعتبرهما قسمَين في قبال الفاعل بالقصد، وإنما هما أيضًا فاعلان بالقصد؛ فلو فرضنا أن هناك شخصًا جالسًا تحت جدار يستظل به مثلًا، أو شخصًا راكبًا في سفينة، فهذا الشخص تارةً ينزل من السفينة باختياره، ومرَّة أخرى يتحول من هذه السفينة؛ لأنه لاحظ فيها خرقًا، وتوقَّع غرقها في البحر، فتحوَّل منها إلى سفينةٍ غيرها، ومرةً ثالثة، يأتيه شخص ويُجبِره على التحوُّل إلى سفينةٍ أخرى؛ فعند ملاحظة هذه الحالات الثلاث، نجد الشخص في كل هذه الحالات تحوَّل من هذه السفينة إلى أخرى، ولكن في كل حالة من هذه الحالات عبَّرنا عن الشخص باعتباره فاعلًا بتعبيرٍ معين، مرَّة عبَّرنا عنه بالفاعل بالقصد، ومرَّة عبَّرنا عنه بالفاعل بالجبر، وأخرى عبَّرنا عنه بتعبيرٍ آخر هو الفاعل بالعناية، لكن لو لاحظنا هذا الشخص في كل هذه الحالات الثلاث، فإنه فاعل بالقصد؛ أي إنما فعل هذا الفعل بناءً على علم وقصد، وعلى هذا الأساس ففي الحالة الأولى وجد هو أنه من المناسب أن ينزلَ من هذه السفينة ويمتطيَ أخرى، وفي الحالة الثانية وجد أن هذه السفينة ستغرق فتحوَّل لأخرى، وفي الحالة الثالثة، عندما فُرض عليه أن يتحوَّل لسفينةٍ ثانية، تحوَّل أيضًا.
ففي الحالة الأولى نعبِّر عنه بالفاعل بالقصد؛ إذ قام باختياره بعد أن فكَّر وتأمل. وفي الحالة الثانية، عندما شاهد الخطر، خشيةً من الخطر تحوَّل، فنعبِّر عنه بالفاعل بالعناية؛ لأنه مجرد أن تصوَّر الغرق تحوَّل إلى مكانٍ آخر، وفي الحالة الثالثة، نعبِّر عنه بالفاعل بالجبر، عندما جاء شخصٌ وأجبَره على التحول.
وهذه الأقسام الثلاثة كلها لم يَغِب فيها القصد؛ فإن الفاعل بالقصد كما نجده في الحالة الأولى كذلك نجده في الحالة الثانية والثالثة.
تجدر الإشارة إلى أن هذا التفسير ينسجم مع تفسير المصنِّف للإرادة بالعلم، بينما يغدو هذا التفسير في غاية الإشكال على رأي الذي يجعل العلم غير الإرادة.