الفصل التاسع

في نفي القول بالاتفاق وهو انتفاء الرابطة بين ما يُعد غاية للأفعال وبين العِلل الفاعلية

في هذا الفصل يواصل المصنِّف الحديث حول العلة الغائية، وهو في هذا الفصل، كما مضى في الفصل الثامن، يناقش بعض الاتجاهات التي ذهبَت إلى نفي العلة الغائية؛ فمنهم من ذهب إلى وجود الاتفاق، ونفي الرابطة الضرورية بين العلة الفاعلية والعلة الغائية؛ ولذلك عنون المصنف هذا الفصل بهذا العنوان.

العلة لا تتخلف ولا تختلف

في هذا الفصل يشير المصنِّف إلى مَنْ يقول إن العلة قد تتخلف وقد تختلف؛ أي إن من الغايات المترتبة على الأفعال ما هي ليست مقصودة للفاعل، ولكن مع ذلك تتحقَّق مثل هذه الغايات، من قبيل أن يحفِر في الأرض لكي يصل إلى الماء ولكنه يعثر على كَنز، وهذا ما يعبَّر عنه بصاحب الحظ أو صاحب البخت السعيد، أو من قبيل معاكسة، كمن يأوي إلى جدار لكي يستظل به من الشمس فينهدم عليه الجدار فيموت، وهذا يعبَّر عنه بصاحب البخت الشقي.

إذن ذهب بعضٌ إلى أن العلة قد تتخلف وقد تختلف. والمقصود بالتخلف هنا هو أن المعلول يتخلف عن العلة؛ أي تتحقق العلة ولا يتحقق المعلول، والمقصود بالاختلاف هو أنه تتحقق العلة، يتحقَّق حفر البئر مثلًا، ولكن المعلول يختلف؛ فالمعلول المطلوب لهذا الفعل هو العثور على الماء، ولكن المعلول الذي يتحقَّق هو العثور على الكنز، وقد يستظل الإنسان بالجدار، فالمعلول المطلوب هنا هو الاستظلال بالجدار، لكن المعلول الذي يتحقَّق فعلًا هو انهدام الجدار وموت الشخص؛ فالمعلول هنا اختلف عن المعلول الذي تحقِّقه العلة.

والصحيح أن المعلول لا يختلف ولا يتخلف؛ لأن المعلول دائمًا موجود، وهو عندما تتحقَّق علته يتحقَّق أبدًا، فلا يختلف ولا يتخلف عن علته إذا وُجدَت علَّته التامة.

أقسام الأمور الكائنة

يمكن أن نقسِّم الأمور الموجودة إلى أربعة أقسام:

  • (١)

    ما هو دائمي الوجود، كوجود الضوء عندما تشرق الشمس.

  • (٢)

    ما هو أكثري الوجود، كما في كون المرأة غالبًا ما تلد طفلًا واحدًا، أو غالبًا ليد ورِجل الإنسان خمسة أصابع.

  • (٣)

    ما يحصل بالتساوي، وهو من قبيل قيام وقعود الإنسان.

  • (٤)

    ما يحصل في حالاتٍ قليلة أو نادرة، كالمرأة التي تلد توءمًا، أو وجود أكثر من خمسة أصابع للإنسان في يدَيه ورجلَيه.

الأمور كلها دائمية الوجود

عندما نصنِّف الأمور إلى: أكثرية الوجود، وأقلية الوجود، ودائمة الوجود، ومتساوية الوجود، فإنما يكون هذا التصنيف بالنظر العام غير الدقيق، ولكن بالنظر الدقيق نجد الأمور كلها دائمية الوجود؛ أي لو دققنا فإن كل الأمور موجودةٌ بشكلٍ دائمي، وليس منها ما هو أقلي أو متساوٍ أو أكثري؛ لأنه متى ما توفرت العلة التامة وارتفعَت تمام العوارض، وجب دائمًا أن يُوجَد المعلول.

لاحظ الإنسان الذي يكون له أكثر من خمسة أصابع في يدَيه أو رجلَيه، أو المرأة التي تلد توءمًا، فهذه حالاتٌ قليلة وليست كثيرة، وهي ليست دائمية الوجود بالنظر العام، ولكن هذه الحالات دائمية الوجود بالنظر الدقيق؛ لأنه لو لاحظنا حالة ولادة التوءم، فإنما تحصل هذه الولادة ويُخلق في رحم الأنثى أكثر من جنين إذا انقسمَت البويضة بعد إخصابها بالحيمن الذي ‏يُلقح هذه البويضة، فإذا وُجدَت الأسباب اللازمة لانقسام البويضة المخصَّبة لا بد أن تنقسم ويحصُل منها جنينان لا واحد. إذن دائمًا متى ما وُجدَت أسباب انقسام البويضة المخصَّبة يحصل التوءم، ومتى ما لم تكن كذلك لا يحصل التوءم.

كذلك الإنسان الذي له ستة أصابع في يده، لا بد أن ذلك نشأ من سببٍ معيَّن؛ فكلما وُجد السبب كانت الأصابع ستة وإلا لم تكن كذلك، وهذا الأمر دائميُّ الوجود، وإن كان بالنظر العرفي العام أقليَّ الوجود.

كذلك المتساوي يكون دائميَّ الوجود، فكلما أراد زيد القيام، وهو قادر على القيام، ولم يكن مانع من القيام، تحقَّق القيام، وهذا دائمًا؛ أي إذا تحقَّقَت العلة التامة يتحقق المعلول ولا يتخلف عنها، كما أنه لا يختلف.

كذلك الأمر الأكثري الوجود لا يكون أكثريًّا وإنما يكون دائميَّ الوجود.

إذن الأكثري الوجود والمتساوي الوجود كلها أمورٌ دائمية الوجود. أما بالنسبة للأمثلة التي ذُكرَت في المقام فإنه كلما حفر الإنسان أرضًا وكان تحتها في طريق الحفر كنز، فحتمًا ودائمًا سيعثر على الكنز، وكلما حفر الإنسان أرضًا ولم يكن هناك في مكان الحفر كنز، فلن يعثر على الكنز.

لكن المشكلة تنشأ من كون الإنسان ينسب أحيانًا المعلولات مجازًا إلى غيرها؛ ولهذا يتوهم أن تلك المعلولات لها عِلل غير العِلل الحقيقية.

كذلك بالنسبة للإنسان الذي يريد أن يستظل بالجدار فينهار عليه؛ فإنه كلما كان الجدار — دائمًا — بالغًا إلى درجةً من التداعي لا يقوى على البقاء معها، فسوف ينهار ويسقط في اللحظة الفلانية، سواء كان تحته أحدٌ أم لا؛ ولذلك يقدِّرون في هذه الأزمان مثلًا أن البناية الفلانية سوف تسقط — بسبب تداعيها — في الساعة كذا وفي الدقيقة كذا بشكلٍ دقيق.

وعلى هذا الأساس لا يصح ما ذهب إليه بعض علماء الطبيعة، كما يُنسب ذلك إلى ديمُقريطس اليوناني من أنه قال: إن عالم الطبيعة مؤلَّف من ذراتٍ صغيرة، تسبح في فراغٍ وخلاءٍ لا متناهٍ، وهي تتحرك بشكلٍ دائم ومستمر، وقد اتفق صدفةً أن التقى بعضها ببعضها الآخر، وفي هذا اللقاء تحقَّقَت الأجسام؛ فما كان من الأجسام كثيفًا بقي، وما لم يكن كذلك اضمحل، كاضمحلال وفَناء الغيم مثلًا.

وهذا الكلام غير تام؛ لأن هناك تلازمًا ضروريًّا بين الفاعل وفعله؛ فمتى ما انتفى الفاعل انتفى الفعل؛ أي توجد رابطةٌ ضرورية وحتمية بين الفاعل والفعل؛ فمتى ما تحقَّقَت تمام الشرائط وارتفعَت تمام الموانع فإن الأفعال تنتهي إلى تمام غاياتها. وعلى هذا لا يمكن أن تتحقَّقَ الشرائط وتنتفيَ الموانع ولا تتحقق الأفعال أو غايات الأفعال.

الفرق بين العلة الغائية والغاية

سيأتي الحديث في الفصل العاشر عن الفرق بين المادة والعلة المادية، والصورة والعلة الصورية، وهنا نشير إلى الفرق بين الغاية والعلة الغائية.

والفرق بينهما أن الغاية يكون لها وجودٌ ذهني ووجودٌ خارجي؛ أي إنك عندما تريد أن تأكل يكون لغايتك وجودٌ ذهني، الهدف من الأكل وهو تحقيق الشبع ورفع الجوع؛ فالغاية في وجودها الذهني تكون علَّة لفاعلية الفاعل، وأما الغاية بوجودها الخارجي، كتحقُّق شراء السيارة أو تحقُّق الشبع مثلًا، فتكون معلولة للفعل، فالشبع يكون معلولًا للأكل، وشراء السيارة يكون معلولًا لعقد البيع والشراء والذهاب لشراء السيارة.

إذن الغاية بوجودها الذهني تكون علَّة لفاعلية الفاعل، وبوجودها الخارجي تكون معلولًا للفعل، وعلى هذا الأساس، نعبِّر عن الغاية بوجودها الذهني والتي تكون علَّة لفاعلية الفاعل بالعلة الغائية، فنقول بأن الفعل عادةً ينشأ من علة فاعلية، والعلة الفاعلية للفعل، للأكل مثلًا، هو الإنسان نفسه الذي يأكل، وكذلك هذا الفعل له علةٌ غائية، وهي الوجود الذهني للغاية؛ أي تصوُّر الشبع، والذي هو الغاية التي تتحقَّق من هذا الأكل. وإذا لاحظنا الغاية من حيثُ وجودها الخارجي فإنها تكون معلولةً لفعل الفاعل كالشبع؛ فهنا لا نسميها علَّة غائية وإنما نسميها غاية.

ارتباط غايات الأفعال بفواعلها

هناك رابطة وعلاقة ونحو من الاتحاد بين الغاية والفعل الصادر من الفاعل؛ أي هناك رابطةٌ وجودية بين الكمال الذي هو الغاية بوجودها الخارجي، التي تكون معلولةً لفعل الفاعل، وبين الفعل الصادر من الفاعل؛ فهناك رابطةٌ وجودية بين الشبع والأكل الصادر من الفاعل، وهذه الرابطة أشار إليها المصنِّف بقوله: إن هناك نحوًا من الاتحاد بين ذلك الكمال الذي هو الغاية وبين الفعل.

الاتحاد الوجودي بين العلة والمعلول

إن هناك اتحادًا وجوديًّا بين العلة ومعلولها، أما نوع هذا الاتحاد، وكيفية تصوير هذا الاتحاد، فربما تأتي الإشارة إليه في مباحثَ قادمة. ولكن الحكماء أشاروا إلى أن المعلول هو العلة ولكن برتبةٍ أعلى، والعلة هي المعلول ولكن برتبةٍ أدنى؛ أي إن ما لدى المعلول من كمال فإنه تمتلكه بتمامه العلة وزيادة، فالكمال الموجود في ‏المعلول موجود في العلة مع زيادة؛ لأن ما يعطي الشي‏ء لا يكون فاقدًا له، وفاقد الشي‏ء لا يعطيه؛ هذا هو معنى الاتحاد الوجودي بين العلة ومعلولها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥