في معنى الواحد والكثير
مفهوم الواحد والكثير من المفاهيم الواضحة البديهية، التي تنتقش في النفس انتقاشًا أوليًّا.
وبتعبيرٍ آخر إن المفاهيم تنقسم إلى قسمَين؛ مفاهيم ماهوية، وهي قابلة للتعريف ولها حد، كمفهوم الإنسان فيمكن تعريفه تعريفًا حقيقيًّا؛ أي إن له حدًّا مؤلفًا من جنس وفصل، فتقول في تعريف الإنسان: حيوانٌ ناطق.
وهناك نوعٌ آخر من المفاهيم هي المعقولات الثانية، كمفهوم الوجود، والعلة، والإمكان، والمعلول، ليست مفاهيمَ ماهوية، بل مفاهيمُ ثانويةٌ فلسفية، أو قُل: معقولاتٌ ثانيةٌ فلسفية. وهي لا حد لها؛ لأنها ليست مفاهيمَ ماهوية، والحد للماهية وبالماهية؛ ولذلك فهي غير قابلة للتعريف.
تعريف الواحد والكثير
إن مفهوم الواحد ومفهوم الكثير من المفاهيم البديهية المستغنية عن التعريف؛ فهما من المعقولات الثانية الفلسفية، التي يعرِّفها الذهن بذاتها وبلا واسطة، وليس كمفهوم الإنسان الذي نعرفه بواسطة الحيوان والناطق، أو مفهوم الحيوان الذي نعرفه بواسطة الجسم النامي والحسَّاس المتحرِّك بالإرادة.
وقد يُذكر تعريف لفظي لمفهوم الواحد، وهو ليس تعريفًا حقيقيًّا؛ لأن المعنى واضح في الذهن، ولكن اللفظ المستعمل ربما لم يكن معروفًا، فيستعمل لفظًا بديلًا عنه ومرادفًا له، كما في لفظ البشَر؛ فربما وُجد شخص لا يعرف على ماذا يدل هذا اللفظ، وإلا فمفهوم البشر واضح في ذهنه، فيُقال له: البشر يعني الإنسان؛ فكلمة إنسان ليست تعريفًا حقيقيًّا للبشر، بل هي تعريفٌ لفظي. وهكذا مفهوم الوجود فإنه من المفاهيم البديهية، لكن لنفترض أن لفظ الوجود غير واضحٍ لدى بعضٍ، فيقول: ما هو الوجود؟ فيُقال له: هو المتحقق أو الثابت العين.
فهذه الألفاظ البديلة تحكي عن ذلك المفهوم الواضح في الذهن؛ لأن بعض الألفاظ غير واضحة، فالتعريف اللفظي هو استبدال لفظ بلفظٍ آخر، وإلا فالمفهوم واضح في الذهن ولا لبس فيه.
وهكذا الحال في مفهوم الواحد والكثير، فإنهما من المفاهيم غير الماهوية، التي لا يمكن أن تعرَّف تعريفًا حقيقيًّا، بل نعرِّفها تعريفًا لفظيًّا؛ لأنها من المفاهيم البديهية المستغنية عن التعريف. ولهذا عرَّفها بعضٌ بهذا التعريف، فقال: الواحد ما لا ينقسم من حيثُ إنه لا ينقسم، والكثير: ما ينقسم من حيثُ إنه ينقسم.
التقييد بالحيثيات
في هذا التعريف يُوجَد تقيُّد بالحيثية، يُقال: لولا الحيثيات لبطلَت الفلسفة؛ أي إن المفاهيم في الفلسفة مبنية على الحيثيات؛ ولذا قالوا في التعريف هنا: من حيثُ إنه … أي إن هذا الكتاب إذا لاحظناه من حيثُ إنه لا ينقسم فإنه واحد، وإلا يمكننا أن نجزِّئه إلى عدة أوراق، فلا يعود واحدًا بل كثيرًا. فإذا لاحظناه من حيثُ إنه ينقسم فهو كثير. إما إذا لاحظناه من حيثُ إنه لا ينقسم فهو واحد.
فقيد الحيثية في التعريف مهمٌّ جدًّا؛ لأن هذا الواحد نفسه يمكن أن يكون كثيرًا لكن بلحاظٍ آخر وحيثيةٍ أخرى؛ فباختلاف اللحاظ يختلف المفهوم؛ فهذا الكتاب بلحاظ أنه لا ينقسم مفهومه واحد، وبلحاظ أنه يمكن تقسيمه وتجزئته يكون مفهومه كثيرًا؛ أي من حيثُ إنه ينقسم يكون كثيرًا؛ فباختلاف اللحاظ صار الكتاب واحدًا أو كثيرًا.
لزوم الدَّور من تعريف الواحد والكثير
إن هذا التعريف للواحد والكثير لو كان حقيقيًّا للزم منه الدور، وقد أشرنا إلى أن هذه التعريفات لفظية ولا يمكن أن تكون حقيقية؛ لأن مفهومَي الواحد والكثير من المفاهيم الثانية الفلسفية وليست مفاهيمَ ماهوية، فلا يمكن تعريفها تعريفًا حقيقيًّا.
أمَّا كيف يلزم الدَّور؟ فإن تعريف الواحد يتوقف على تعريف الكثير؛ أي لكي نعرف معنى الواحد نحتاج تصوُّر ومعرفة ما ينقسم، والشيء القابل للقسمة هو الكثير. كما أن تصوُّر الكثير يتوقف على تصور مفهوم المنقسم؛ وبالتالي فتصوُّر مفهوم الواحد توقَّف على مفهوم المنقسم، وتصوُّر مفهوم المنقسم توقَّف على الكثير.
إذن يكون مفهوم المنقسم متوقفًا على مفهوم المنقسم، وهذا هو توقُّف الشيء على نفسه، وهو دَور، والدَّور محال؛ وعليه فهذا التعريف للواحد والكثير ليس تعريفًا حقيقيًّا.
تنبيه: الوحدة تساوق الوجود
إن الوحدة والكثرة هي وحدةٌ وكثرةٌ مفهومية؛ فلو لاحظنا الوحدة من حيثُ المصداقُ؛ أي الوحدة في الخارج، فإن العلاقة بين الوحدة والوجود هي علاقة تساوق، بمعنى أن الوجود يساوق الوحدة والوحدة تساوق الوجود. كما هو الحال في الوجود والخارجية فإنهما متساوقان أيضًا؛ أي الخارجية هي الوجود والوجود هو الخارجية. كذلك الوحدة والوجود، فكل ما يصدُق عليه أنه موجود يصدُق عليه أنه واحد وبالعكس. والمساوقة، كما سبق في المرحلة الأولى، معنًى أعلى من التساوي.
فعندما نقول الوحدة تساوق الوجود، والوجود يساوق الوحدة، نعني أن الواحد من حيثُ إنه واحد هو وجود، والوجود من حيثُ إنه وجود هو واحد، ولكن هذا التساوق المصداقي لا يعني أن مفاهيمهما متساوقة ومتطابقة وواحدة، وإنما مفهوم الوجود في الذهن غير مفهوم الواحد في الذهن.
إشكال
عندما نقول الموجود يساوق الواحد والواحد يساوق الموجود يلزم إشكال، وهذا الإشكال هو: أن الواحد من أقسام الموجود، بينما هنا أصبح الواحد نفس الموجود؛ أي صار قسمًا لنفس القسيم.
ولكي يتضح المطلب نذكُر هنا مثالًا وهو: أن الكلمة تنقسم إلى: اسم وفعل وحرف؛ فالِاسْم أخص من الكلمة، فإذا قلنا: إن الاسم هو الكلمة والكلمة هي الاسم، يصبح القسم نفس المقسم، والعكس كذلك.
وهنا نقول: الواحد نفس الموجود والموجود نفس الواحد، ثم الموجود نقسمه إلى الواحد والكثير. والكثير مباين للواحد بالبداهة لأنهما قسيمان، فيصبح لدينا أن بعض الموجود — وهو الكثير — من حيثُ إنه كثير ليس بواحد، وهذا يناقض أن الموجود يساوق الواحد.
وبعبارة أخرى: عندما نقول كل موجودٍ واحد، فهذه موجَبة كلية، تناقضها السالبة الجزئية، هي: بعض الموجود ليس بواحد؛ لأننا قسَّمنا الموجود إلى واحد وكثير. وقلنا إن الوحدة تساوق الوجود، فيلزم من ذلك اجتماع النقيضَين؛ لأن بعض الموجود ليس بواحد — أي الكثير — وكل موجود واحد؛ لأن الوحدة تسوق الوجود، فيلزم اجتماع النقيضَين، وهو محال، فلا بد أن تكون إحدى هاتَين القضيتَين صحيحة والأخرى كاذبة.
جواب الإشكال
إذا اختلفت القضيتان في وحدة الحمل فلا تناقض بينهما، وعلى هذا الأساس تم حل بعض القضايا المتناقضة ظاهرًا، مثل الجزئي جزئي والجزئي ليس بجزئي.
وهكذا الأمر هنا؛ فإن الوحدة في قولنا: كل موجود واحد، هي غير الوحدة التي هي محمول في قولنا: بعض الموجود ليس بواحد. فإذا كان المحمول متغايرًا في القضيتَين، فلا تناقُض.
فالواحد تكرَّر بنفس اللفظ، لكنه في القضية الأولى غير ما هو في القضية الثانية في المعنى؛ ففي القضية الأولى نلحظه من حيثية وزاوية نظر غير الحيثية وزاوية النظر التي نلحظه بها في القضية الثانية؛ فتارةً نلحظ الواحد بما هو هو من دون أن نقيسه لغيره، وأخرى نلحظه بالمقارنة وبالقياس لغيره الذي هو الكثير؛ ففي اللحاظ الأول نلاحظه بقطع النظر عن الغير، فهذا الواحد مساوق للوجود. ومرةً أخرى نلاحظه بالنظر لغيره، فيكون الواحد مقابلًا للكثير، فأصبح الواحد هنا غير الواحد هناك.
وهذا بمثابة قولنا: كل موجود خارجي، وكل خارجي موجود، ومرَّة أخرى نقول: الموجود ينقسم إلى ذهني وخارجي، فتصبح لدينا موجبة كلية هي: كل موجود خارجي، وسالبة جزئية هي: بعض الموجود ليس بخارجي. وهناك تناقض بين الموجبة الكلية والسالبة الجزئية، فلا بد أن تكون إحداهما صحيحة والأخرى ليست بصحيحة. بينما في هذا المثال كلاهما صحيحة؛ لأن المقصود بالخارجي مختلفٌ في القضيتَين؛ فالخارجي في الأولى بمعنى الخارجية إذا لاحظناها بنفسها، وأما الخارجية في القضية الثانية فبالقياس للذهني.