في تقابل الواحد والكثير
إن التقابل في أصل استعمالاتهم يُطلَق على معنيَين:
-
(١)
مطلَق الغيرية.
-
(٢)
الغيرية الذاتية.
والمراد هنا في عنوان هذا الفصل هو المعنى الأول للتقابل، كما لا يخفى.
لقد ذكرنا فيما سبق أن الوحدة تساوق الوجود مصداقًا، وإن كانت تُباينه مفهومًا؛ فكل موجود من حيثُ إنه موجود هو واحد، وكل واحد من حيثُ إنه واحد هو موجود.
ثم قسَّمنا الموجود المطلق إلى: واحد وكثير، وفي الفصل الأول من هذه المرحلة قلنا إن للواحد اعتبارَين؛ فتارةً نعتبره في نفسه، وأخرى نعتبر مفهوم الواحد بالقياس، فإذا لاحظنا مفهوم الواحد في نفسه بلا قياس، فإنه يكون مساوقًا للوجود مصداقًا، وأما إذا لاحظناه بالقياس إلى غيره، فينقسم الموجود المطلق إلى واحد وكثير؛ فالواحد في نفسه بلا قياس يشمل الكثير، وأما الواحد بالقياس لغيره فيكون قسيمًا للكثير.
وهنا عندما نقول الواحد والكثير نعني به الواحد الذي يقع تحت الموجود المطلَق لا الواحد الذي يساوق الوجود مصداقًا؛ أي نعني الواحد بالقياس إلى الكثير، والواحد غير الكثير والكثير غير الواحد.
الاختلاف بين الواحد والكثير
هناك عدة آراء؛ منها أن الاختلاف بين الواحد والكثير هو من نوع التقابل؛ أي يُوجَد تغايرٌ بينهما بالذات فهما كالوجود والعدم، لكن المصنف يقول: لا يوجد تقابل بين الواحد والكثير؛ أي إنه لا تقابُل نقيضَين ولا تقابُل عدم وملكة بينهما. في تقابُل النقيضَين وتقابُل العدم والملكة لا بد من أمرَين أحدهما وجودي والآخر عدمي. بينما في الواحد والكثير، الواحد وجود، والكثير وجود.
لكن قد يُقال: إن بينهما تقابُلَ ضدَّين أو تقابُلَ متضايفَين؛ لأن المتضايفَين والضدَّين أمران وجوديان، والصحيح أنه ليس بينهما تقابل ضدَّين؛ لأنه لا بد أن يكون بين الضدَّين غاية الخلاف، ولا تُوجد غاية الخلاف بين الواحد والكثير، كما أنه ليس تقابُل التضايف؛ لأن تعقُّل الواحد لا يتوقف على تعقُّل الكثير، وإن كان تعقُّل الكثير يتوقف على تعقُّل الواحد.
وعليه فطالما لم يكن التقابل بينهما أحد أنواع التقابل الأربعة، فلماذا لا نقول إن التقابل بينهما هو قسمٌ خامس؟
الجواب: هذا قولٌ مرفوض أيضًا؛ لأن الحصر في الأقسام الأربعة للتقابل هو حصرٌ عقلي لا استقرائي، والعقل يمنع أن يكون هناك قسمٌ خامس للتقابل غير الأقسام الأربعة.
إذن لا تُوجَد غيريةٌ ذاتية بين الواحد والكثير.
اختلاف الواحد والكثير تشكيكي
إن الاختلاف في الواحد والكثير هو اختلافٌ تشكيكي، ففيما سبق تحدَّثنا عن أن الوجود واحد ذو مراتب، يعود ما به الاتحاد إلى ما به الاختلاف وما به الاختلاف إلى ما به الاتحاد؛ فما به الاتحاد بين مراتب الوجود هو الوجود، وما به الاختلاف هو الوجود.
وإن الوحدة والكثرة من مراتب الوجود؛ لأن الموجود المطلَق نقسِّمه إلى واحد وكثير؛ فما دامت الوحدة والكثرة من مراتب الوجود فهما مشمولان بما ذكرناه سابقًا، وهو أن ما به الاتحاد بينهما يعود إلى ما به الاختلاف، وما به الاختلاف يعود إلى ما به الاتحاد، وهو الوجود، فلا تقابل بينهما اصلًا. خلافًا للتقابل بين البياض والسواد، فإن ما به الاتحاد هو الوجود، وما به الاختلاف هو أن حقيقة البياض أو ماهيَّته غير ماهيَّة السواد.
وبعبارةٍ أخرى بعدما ثبت أن الوجود حقيقةٌ واحدةٌ ذات مراتبَ مشكِّكة، وليست بحقائقَ متباينة، لا يبقى مجال للقول بالتقابُل بين أقسام الوجود، وهو الغيرية الذاتية؛ لأن كل مرتبة لا تُغاير المرتبة الأخرى بعد كون كل مرتبة وجودًا لا غير.
تتمة: حقيقة التقابل
إن التقابل بين النفي والإثبات، أو الوجود والعدم، أو السلب والإيجاب ليس تقابلًا حقيقيًّا خارجيًّا؛ لأن التقابل نسبة، والنسبة جسرٌ يربط بين الطرفَين، ولا رابط بين الوجود والعدم؛ لأن هناك طرفًا واحدًا فقط وهو الوجود أما العدم فمنفي.
ففي مثل هذه الحالة إطلاق التقابل على تقابل التناقض، لا يكون من نوع التقابل الحقيقي الخارجي، بل هو تقابُل في الذهن بنوعٍ من الاعتبار العقلي.
أما التقابل بين المتضايفَين، فهما أمران وجوديَّان، وجود ووجود، وبينهما نسبةٌ هي التضايُف، والتقابل بين السواد والبياض هو تقابُل بين أمرَين وجوديَّين متضادَّين.
أما التقابل بين العدم والملكة فإن عدم الملكة مقيَّد، بينما العدم الذي هو نقيض الوجود في تقابل التناقض هو عدمٌ مطلَق؛ فالعدم المقيَّد كأنه شمَّ رائحة الوجود؛ أي إن العقل يتعامل معه كأنه موجود؛ ولذلك يُلاحظ العمى مثلًا كأنه أمرٌ موجود، فيلاحظ النسبة بينه وبين البصر وهي نسبة العدم والملكة، أما في التقابل بين النقيضَين فالعدم عدمٌ مطلَق ليس بموجود، والوجود فقط هو الموجود في الخارج، فهنا العقل يجعل هذا المفهوم مفهومًا اعتباريًّا؛ أي يعتبر مفهوم العدم كمفهوم العمى أو أي مفهومٍ اعتباري، وهذا المفهوم يتعامل معه العقل كأنه موجود، فتكون صورة في الذهن للعدم وصورة للوجود، ويلاحظ العقل النسبة بينهما، كما أن هناك مفهومًا وصورةً في الذهن للعمى ومفهومًا وصورةً للبصر، فتُلاحظ النسبة بينهما، وإن كان العمى الذي هو عدمٌ مقيَّد، كأنه شمَّ رائحة الوجود.
وبتعبيرٍ آخر: إن العقل يفترض أو يخترع أن للعدم شيئيةً ما، ويجعله مقابلًا للوجود، وهذا الاعتبار ليس من نوع الاعتبارات العُرفية أو الشرعية، بل هذا من الاعتبارات التي لها واقعية؛ أي إن هذا الأمر من الأمور النفس الأمرية، وبذلك لا نستطيع التصرُّف بها كما نتصرَّف بالاعتبارات الأخرى عادة؛ فهنا العقل يفرض للعدم نحوًا من التحقُّق، ثم يقابل بينه وبين الوجود.