في أقسام الواحد
الواسطة في الثبوت
تُوجَد لدى الحكماء المسلمين عدة مصطلحات في الواسطة هي: الواسطة في العروض، والواسطة في الإثبات، والواسطة في الثبوت.
والمقصود بالواسطة في الثبوت، كما في أن النار واسطة في الثبوت لحرارة الماء مثلًا، ويعني ذلك أن الواسطة في الثبوت هي علة للوجود العيني.
الواسطة في الإثبات
أما الواسطة في الإثبات فإنها ترتبط بعالم الذهن وبعالم المعرفة؛ فعندما يكون شيءٌ ما سببًا لمعرفة آخر يكون واسطة في إثباته، ولا صلة لذلك بعالم الخارج وعالم الثبوت؛ أي إذا كان الشي واسطة في التعرف على شيءٍ آخر فهو واسطة في إثباته؛ ولذلك يعبَّر عن الحد الأوسط في القياس بالواسطة في الإثبات. وأحيانًا يمكن أن يكون المعلول واسطة في إثبات العلة، وأحيانًا بالعكس.
فإذا كانت العلة واسطة في إثبات المعلول يكون البرهان لميًّا. وإذا كان المعلول واسطة في إثبات العلة يكون البرهان إنيًّا.
الواسطة في العروض
هي أن ينقل الذهن حكم أحد المتحدَين إلى المتحد الآخر، بنحوٍ من المجاز ووجود نوعٍ من الوحدة بينهما، ثم يلاحظ الذهن حكم أحدهما فينقله إلى الآخر، وهذا مجازٌ عقلي. وعادةً بالتحليل العقلي يدرك الفيلسوف هذا المجاز.
ومن المعلوم أن بعض المجاز يكون واضحًا وبعضه يحتاج إلى تمعُّن وتحليل، فإذا سافر شخص بالسيارة أو السفينة مثلًا، نقول: سار فلان إلى البلد الفلاني أو عندما تتحرَّك السيارة أو السفينة في الماء نقول: فلان تحرَّك. ولكن عندما نتأمل سندرك أن سائق السيارة أو قبطان السفينة لا يتحرك بل المتحرك هو السيارة أو السفينة نفسها، غير أن العقل نقل حكم السفينة أو السيارة إلى قائدها، بنحوٍ من المجاز. وكذلك عندما نقول فلان ركب الطائرة وطار إلى البلد الفلاني؛ فهو في الحقيقة جالسٌ في الطائرة ولم يتحرك. والمتحرك في الواقع هو الطائرة، ولوجود اتحاد ينقل الذهن حكم أحدهما إلى الآخر، وهذا ما يعبَّر عنه بالواسطة في العروض؛ أي هناك اتحاد بين شيئَين ولأحدهما حكم، والذهن ينسب الحكم للآخر، وعندها نقول تحقَّقَت الواسطة في العروض. ويعبَّر عن هذه الواسطة أحيانًا، الحيثية التقيُّدية.
أقسام الواحد
الواحد ينقسم إلى: واحدٍ حقيقي وواحدٍ غير حقيقي.
الواحد غير الحقيقي
هو ما اتصف بالوحدة لا بنفسه، بل بعروض غيره؛ أي يتحد مع واحدٍ حقيقي، مثل زيد وعمر فإنهما واحدٌ بالإنسانية، والإنسان والفرس المتحدَين بالحيوانية.
فالواحد غير الحقيقي: هو الذي يتصف بالوحدة بعرض غيره؛ أي بواسطة في العروض، بمعنى يتحد نوع اتحاد مع واحدٍ حقيقي، نصطلح عليه اصطلاحاتٍ متعددة:
-
(١)
يُسمَّى تساويًا إذا كان اتحادًا في الكم.
-
(٢)
يُسمَّى تشابهًا إذا كان اتحادًا بين شيئَين من كيفٍ واحد.
-
(٣)
يُسمَّى تجانسًا إذا كان اتحادًا بالجنس.
-
(٤)
يُسمَّى تماثلًا إذا كان اتحادًا بالنوع.
-
(٥)
يُسمَّى تناسبًا إذا كان اتحادًا بالنسبة.
-
(٦)
يُسمَّى توازيًا إذا كان اتحادًا بالوضع.
الواحد الحقيقي
المراد من الحقيقة هنا هي الحقيقة العقلية، وهي عبارة عن إسناد الشيء إلى ما هو له، والمراد بغير الحقيقي المجاز العقلي، وهو إسناد الشيء إلى غير ما هو له، وليس المراد من الحقيقة والمجاز هنا هو في الكلمة؛ أي استعمال الشيء فيما وُضع له أو في غير ما وُضع له.
هو الذي يتصف بالوحدة بنفسه من دون واسطة بالعروض — كالإنسان الواحد — ينقسم إلى قسمين:
-
(١)
ذات متصفة بالوحدة، وهو الواحد غير الحق.
-
(٢)
ذات هي نفس الوحدة، وليست متصفة بالوحدة، وهي الوحدة الحقَّة. وهو الصِّرف من كل شيء، والوجود الواجب تعالى.
والذات المتصفة بالوحدة؛ أي الواحد غير الحق، ينقسم إلى قسمَين:
-
(١)
واحد بالخصوص، وهو واحد بالعدد.
-
(٢)
واحد بالعموم، وهو ينقسم إلى:
-
(أ)
واحد بالعموم المفهومي، وهو ينقسم إلى:
-
(١)
واحد نوعي كوحدة الإنسان.
-
(٢)
واحد جنسي كوحدة الحيوان.
-
(٣)
واحد عرضي كالماشي والضاحك.
-
(١)
-
(ب)
واحد بالعموم الوجودي، وهو الوجود السعي؛ أي الوجود المنبسط، كوجود عالم الإمكان.
-
(أ)
والواحد بالخصوص، ينقسم إلى قسمَين:
-
الأول: لا ينقسم من حيثُ الطبيعة المعروضة
للوحدة، كما لا ينقسم من حيثُ وصف الوحدة،
وهذا ينقسم إلى قسمَين:
- (أ) نفس الوحدة وعدم الانقسام.
- (ب) وغيره، ينقسم إلى:
- (١) وضعي كالنقطة الواحدة.
- (٢) غير وضعي كالمفارق المجرَّد عن المادة.
-
الثاني: القسم الآخر من الواحد بالخصوص، هو ما
ينقسم، وهو كذلك ينقسم إلى
قسمَين:
- (أ) يقبل الانقسام بالذات كالمقدار الواحد.
- (ب) يقبله بالعرض كالجسم الطبيعي الواحد من جهة مقداره.
هذا ملخَّصٌ عام للمبحث.
ومن الواضح أن التقسيم الذي يقوم به المصنِّف هنا هو من نوع القسمة العقلية الحاصرة، التي تدور بين النفي والإثبات، فيقول: الواحد إما حقيقي أو غير حقيقي. والواحد الحقيقي: هو الذي يتصف بالوحدة من غير واسطة بالعروض. والواحد غير الحقيقي: هو الذي يتصف بالوحدة بواسطة في العروض. وقد تقدَّم بيان المقصود بالواسطة في العروض.
والواحد الحقيقي إما ذاتٌ متصفة بالوحدة، أو ذاتٌ هي نفس الوحدة.
فالذات التي تتصف بالوحدة شيء والوحدة شيءٌ آخر، كالورقة وبياض الورقة، أو العارض والمعروض، بينما في الواحد بالوحدة الحقَّة تكون الذات هي عين الوحدة؛ أي لا تُوجَد هناك صفة وموصوف أو عارض ومعروض غير هذه الوحدة.
وعلى هذا الأساس فإن الواجب تعالى الذي حيثيته حيثية الوجود هو مصداق الواحد بالوحدة الحقة، وبما أن الوحدة مساوقة للوجود، فإن الواجب واحد.
فقد جاء في النصوص الشريفة: أنه واحد لا كالعدد؛ أي إن هذه الوحدة لا تقبل التثنية ولا تقبل التكرار؛ أي هي وحدة من المحال أن نفرض لها ثانيًا؛ فالوجود الواحد بالوحدة الحقة وحدته عين ذاته وليست زائدةً على ذاته.
والمصداق الآخر للذات التي هي نفس الوحدة، هو الصِّرف من كل شيء؛ فالصِّرف واحد بالوحدة الحقة، والصرافة هنا هي صرافة الوجود، والصِّرف هو الخالص المحض، الذي لا يخالطه شيء، فالصِّرف لا يتثنَّى ولا يتكرَّر؛ لأن التثنية والتكرار تحتاج إلى ما يميز به الثاني عن الأول، وذلك يحتاج مخالطة وانضمام شيء إلى تلك الحقيقة الصِّرفة، والصِّرف لا يخالطه شيء؛ ولذلك فالصِّرف واحد.
ويمكن القول إن وحدة الصرف من كل شيء إنما هو مثالٌ للواحد بالوحدة الحقة، وإلَّا فكل موجود فهو من حيث وجوده ومع قطع النظر عن ماهيته واحدٌ بالوحدة الحقة؛ حيث إن الوجود من حيث هو وجود ذات هو نفس الوحدة.
بيان الأقسام
قلنا إن الواحد إما حقيقي وإما غير حقيقي، والحقيقي إما ذاتٌ هي عين الوحدة، وإما ذاتٌ هي غير الوحدة، يعني متصفة بالوحدة. والذات التي هي عين الوحدة هي الواجب تعالى. وأما الذات المتصفة بالوحدة فإنها تنقسم إلى قسمَين؛ واحد بالخصوص، وواحد بالعموم.
الواحد بالخصوص
الواحد بالخصوص هو الواحد بالعدد. الوحدة عرض وهي تحتاج إلى معروض، والمعروض شيء والعرض شيءٌ آخر؛ ولذلك يُقال إن العارض (الواحد) تارةً يكون عارضًا على شيءٍ حيثيته عدم الانقسام، وأخرى يكون عارضًا على شيءٍ حيثيته الانقسام.
فتارةً العارض والمعروض كلاهما لا ينقسم، ولهذا أكثر من صورة، أما إذا كان المعروض لا ينقسم فهو نفس الوحدة والعارض هو الواحد، كما في السواد والأسود؛ فإن اللوحة — مثلًا — تتصف بالسواد، بينما السواد أسودُ بنفسه، لا أنه شيءٌ يتصف بالسواد؛ ولذا فإن المعروض تارة نفس الوحدة، والعارض هو الواحد، مثلما نقول: الوجود موجود والبياض أبيض، نقول: الوحدة واحدة.
أو يكون المعروض غير مفهوم الوحدة، فينقسم إلى قسمَين؛ إما أن يقبل الإشارة الحسية أو لا يقبل.
وما يقبل الإشارة هو النقطة، وهي ما ينتهي إليه الخط، وإنما لا تقبل النقطة الانقسام لأنها لا امتداد فيها.
وأما ما لا يقبل الإشارة الحسية كالمفارقات والمجردات، فإنها واحدة ولكنها لا تقبل الانقسام، المفارق في ذاته وفعله هو العقل المجرَّد كما قالوا، وأما ما هو مجرَّد في ذاته دون فعله فهو النفس.
والنوع الآخر هو الذي يقبل الانقسام بحسب طبيعته المعروضة؛ أي إن العارض لا يقبل الانقسام ولكنَّ المعروضَ الحالَّ فيه هذا العرض يقبل الانقسام، وما يقبل الانقسام أيضًا ينقسم إلى قسمَين: ما يقبل الانقسام بالذات، وما يقبله بالعرض.
وما يقبل الانقسام بالذات كالمقدار، نقول هذا مقداره مترٌ واحد أو كيلوغرام واحد؛ فإن حيثية المقدار هي حيثية الانقسام، كما لاحظنا ذلك في الكم، ولكن هذا ليس انقسامًا بالفعل؛ لأن القسمة بالفعل تؤدي إلى فَناء ذلك المقدار والكم، وإنما هو انقسام بالقوة لا بالفعل.
أما الذي يقبل الانقسام بالعرض فهو كالجسم الطبيعي الذي هو الامتداد المبهم في الأبعاد الثلاثة، فهو يقبل الانقسام عندما يعرض عليه الجسم التعليمي؛ لأن الجسم التعليمي هو الذي يعيِّن الأبعاد في الامتدادات الثلاثة؛ فالجسم الطبيعي يقبل الانقسام بواسطة الجسم التعليمي الذي عرض عليه.
هذا كله فيما يتعلق بالواحد بالخصوص بقسمَيه، العارض والمعروض كلاهما واحد، أو العارض واحد والمعروض ليس بواحد.
الواحد بالعموم
أما الواحد بالعموم، فتارةً يكون واحدًا بالعموم الوجودي، وأخرى يكون واحدًا بالعموم المفهومي، والمقصود بالعموم المفهومي: أن المفهوم واحدٌ لا متعدد، كمفهوم الحيوان فإنه يقبل الصدق على كثيرين، مع أنه مفهومٌ واحد.
وهذا تارةً يكون مفهومًا عرضيًّا كمفهوم الضاحك، وأخرى يكون مفهومًا ذاتيًّا كمفهوم الحيوان ومفهوم الإنسان.
أما المقصود بالواحد بالعموم الوجودي: فهو ما يعبَّر عنه بالواحد السعي؛ أي الذي له سعة وجودية، يستوعب كل عالم الإمكان. وهذا الكلي الوجودي السعي هو واحد بالوحدة الحقَّة الظلِّية، في مقابل الواجب تعالى الذي هو واحد بالوحدة الحقَّة الحقيقية. هذا الكلام كله في الواحد الحقيقي. بينما الواحد غير الحقيقي هو ما اتصف بالوحدة بعرض غيره، وهو ما تقدَّم بيانه قبل قليل.