الفصل الخامس

في الغيرية والتقابل

الغيرية الذاتية وغير الذاتية

تقدم أن الغيرية هي من أحكام وعوارض الكثرة، وهي تنقسم إلى قسمَين:

  • (١)

    غيرية ذاتية.

  • (٢)

    غيرية غير ذاتية.

والذاتية هي كون التغاير بين شيئَين لذاته، كالاختلاف والمغايرة بين الوجود والعدم؛ فالمغايرة بينهما أن الوجود بذاته مغاير ومباين للعدم؛ أي أحدهما يطرد الآخر؛ فالوجود بذاته وبقطع النظر عن أي شي‏ءٍ آخر يكون طاردًا للعدم، وكذلك العدم.

والغيرية غير الذاتية يكون الاختلاف فيهما غير ذاتي، وهو إنما يكون لا لذاتهما بل لأمرٍ آخر خارج عن ذاتهما، كما في البياض والحلاوة؛ فالاختلاف بينهما يكون بسبب الموضوع الذي يحلَّان فيه؛ لأن البياض عرض والحلاوة عرض، والعرض يكون حالًّا بمعروضٍ معيَّن، فبسبب الموضوع يُوجَد اختلافٌ بينهما؛ فالبياض حالٌّ في القطن، والحلاوة حالَّة في التمر، فنقول الاختلاف بين البياض والحلاوة ليس بسبب الاختلاف والتغاير الذاتي بينهما، وإنما بسبب الاختلاف بين الموضوعَين الحالِّ كلٌّ منهما فيه؛ أي هناك اختلاف بين القطن والتمر؛ وعليه فيمكن أن يجتمع البياض والحلاوة في موضوعٍ واحد؛ ففي السكر الأبيض اتحد البياض والحلاوة في موضوعٍ واحد، فهنا حصل اجتماعٌ بينهما؛ لأن المغايرة بينهما لا تعود إلى أن أحدهما يطرد الآخر؛ أي لا يُوجَد طردٌ ذاتي بينهما، وإنما الطرد يُوجَد بين موضوعَيهما، فيُمكِن أن يجتمع الموضوعان فيكونا في موضوعٍ واحد، كالسكر أبيض وحلو. بينما نجد في حالةٍ أخرى لا يجتمع الموضوعان، كما في التمر والقطن، وعلى هذا الأساس تكون المغايرة هنا غير ذاتية؛ أي الغيرية غير ذاتية.

والغيرية الذاتية هي التقابل، بينما الغيرية غير الذاتية هي التخالف؛ ولذلك «لا يجتمع المتقابلان»، بينما المتخالفان يمكن أن يجتمعا في موضوعٍ واحد.

معنى التقابل

والتقابل أو الغيرية الذاتية هو عبارة عن امتناع اجتماع أمرَين، في محلٍّ واحد، من جهةٍ واحدة، في زمانٍ واحد. كالسواد والبياض لا يجتمعان في ورقةٍ واحدة؛ أي في محلٍّ واحد، ومن جهةٍ واحدة، فزيد من جهةٍ واحدة لا يمكن أن يكون أبًا وابنًا، ولكن من جهتَين يمكن أن يكون أبًا لبكر وابنًا لعلي، وفي زمانٍ واحد، بمعنى لا يمكن أن تكون هذه الورقة في زمانٍ واحد بيضاء وسوداء، أو هذا الكتاب في زمانٍ واحد لا يمكن أن يكون معدومًا وموجودًا.

أقسام التقابل

ينقسم التقابل إلى أربعة أقسام، وقد قال بعضٌ إنها ثابتة بالاستقراء، فيما قال آخرون إنها ثابتة بالقسمة العقلية الحاصرة.

وقد قال المصنف إن هذه الأقسام ثابتةٌ بالعقل وليس بالاستقراء؛ ولذلك لا يمكن أن يكون لها قسمٌ خامس. وهذه الأقسام الأربعة هي أن يكون المتقابلان:

  • أولًا: وجوديَّين، وتقابُلهما على قسمَين:
    • (أ) تقابُل المتضايفَين: وهو أن يكون كل واحدٍ منهما متعقلًا بالنسبة إلى الآخر؛ أي بالمقارنة إلى الآخر، كما في الزوج والزوجة، والأخ وأخيه، فالمتضايفان وجوديَّان نتعقل أحدهما بالقياس إلى الآخر، والتقابُل بينهما تقابُل التضايف.
    • (ب) تقابُل التضاد: وهو أن يكون المتقابلان وجوديَّين، كالسواد والبياض؛ فكلٌّ منهما أمرٌ وجودي، لكن لا يتوقف تعقُّل أحدهما على تعقُّل الآخر؛ فالسواد والبياض متضادَّان، والتقابل بينهما هو تقابل التضاد.
  • ثانيًا: أحدهما وجودي والآخر عدمي، وهذا التقسيم على نوعَين هما
    • (أ) تقابل العدم والمَلكة: وهو الذي يكون فيه موضوعٌ قابل لكلٍّ منهما كالعلم والجهل؛ فإن هناك موضوعًا هو الذهن قابل للعلم والجهل، وكالعمى والبصر؛ فإن العين قابلة للعمى وللبصر؛ لأن العمى هو عدم البصر في الموضع القابل للبصر؛ فالبصر أمرٌ وجودي، والعلم أمرٌ وجودي، أما العمى فهو أمرٌ عدمي وكذلك الجهل، ولكلٍّ منهما موضعٌ قابل للبصر، والعلم كذلك.
    • (ب) تقابُل التناقض: وهو أن يكون أحدهما وجوديًّا والآخر عدميًّا، ولا يُشترط أن يكون هناك موضوعٌ قابل لكلٍّ منهما، كالوجود والعدم.

وقد يُقال: لماذا لا نقول بالتقابل بين العدميَّين؟ الجواب: لا يمكن أن يُوجَد تقابل بين أمرَين عدميَّين، بل إما أن يكون التقابل بين أمرَين وجوديَّين، أو بين أمرٍ وجودي وآخرَ عدمي.

وقد قال بعضٌ بوجود تقابُل بين الواحد والكثير، بينما نفى المصنف أن يكون هناك تقابل بين الواحد والكثير.

من أحكام مطلَق التقابل

من أحكام مطلَق التقابل أنه لا بد أن يتحقَّق بين طرفَين؛ لأن التقابل هو نسبة بين المتقابلَين، والنسبة لا بد أن تتحقَّق بين الطرفَين، وبعبارةٍ أخرى إذا لاحظنا مفهوم التقابل، وإن كان هذا المفهوم ينطبق على الموارد الأربعة المتقدمة لكن المصداق يكون مندرجًا تحت خصوص التضايف.

وبكلمةٍ أخرى قد يُقال: إذا كان التقابل يتحقق بين طرفَين لأنه نسبة، والنسبة لا تتحقق إلَّا بين طرفَين، فكيف يمكن تحقُّق تقابل بين الوجود والعدم؛ فالعدم ليس بطرف؟ وكيف يكون هناك تقابل بين العدم والملكة، فإن الملكة طرف لكن عدمها ليس‏ بطرف؟

الجواب: هذا العدم سواء كان عدمًا مطلقًا أو عدم ملكة، هو نفسه يمكن أن نلاحظه بلحاظَين؛ فمرة نلاحظه بما هو مفهومٌ وصورةٌ ذهنية، فيكون أمرًا وجوديًّا بالحمل الشائع؛ أي مصداقًا للوجود؛ لأن مفهوم العدم في الذهن لا يكون عدمًا وإنما يكون وجودًا، فهو مصداقٌ للوجود، فهو موجود بالحمل الشائع، ومرةً نلاحظ العدم بالحمل الأولي فيكون عدمًا، فنقول العدم بالحمل الشائع؛ أي مفهوم العدم، يكون أمرًا وجوديًّا، فيصح أن يلاحظ العقل التقابل بين الوجود والعدم، وإلا لو لم يكن للعدم مفهوم وصورة في الذهن فكيف نقول إن العدم يقابل الوجود، أو إن اجتماع الوجود والعدم مُحال؟

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥