في تقابُل التضاد
قلنا إن التقابل ينقسم إلى قسمَين؛ فتارةً يكون بين أمرٍ وجودي وآخرَ وجودي، وهذا يندرج تحته قسمان؛ المتضايفان والمتضادان، ومرةً يكون التقابل بين أمرٍ وجودي وأمرٍ عدمي، ويندرج تحته: المتناقضان والعدم والملكة.
فالتقابل في التضاد يكون بين الأمرَين الوجوديَّين، لكنهما أمران غير متضايفَين؛ أي لا يتوقَّف تعقُّل أحدهما على تعقُّل الآخر، وعليه فإذا كان تقابل الأمرَين بنحوٍ يتوقَّف تعقُّل أحدهما على الآخر وهما متصاحبان في الذهن كما في الخارج يكون التقابل بينهما تقابل التضايف، وإذا لم يكن كذلك يكون التقابل تقابل التضاد.
معنى التضاد
المتضادَّان: أمران وجوديَّان، متواردان على موضوعٍ واحد، داخلان تحت جنسٍ قريب، بينهما غاية الخلاف.
أحكام التضاد
(١) أنه لا تضاد بين الأجناس العالية
الجنس ينقسم إلى: عالٍ ومتوسط وسافل، والمقصود بالعالي كالجوهر بالنسبة للإنسان. والمقصود بالمتوسط هو الجسم المطلَق والنامي بالنسبة للإنسان، والمقصود بالسافل هو الحيوان بالنسبة للإنسان. والأجناس العالية هي المقولات العشر؛ أي مقولة الجوهر والمقولات العرضية التسع.
فلا تضاد بين الأجناس العالية؛ لأنك قد تجدها كلها أو بعضها مجتمعةً في شيءٍ واحد، كالتفاحة؛ فهي جوهر، ولها لونٌ معيَّن، وطعمٌ معيَّن، وهما كيف، وهي في مكانٍ معيَّن، والنسبة إلى المكان أين، وفي زمانٍ معيَّن، والنسبة إلى الزمان متى، … إلخ.
كما أن مقولات العرض يُمكِن أن تجتمع في محلٍّ واحد مثلما لاحظنا التفاحة، كذلك قد يجتمع في التفاحة جنسان أو نوعان إضافيَّان مثل الكيف؛ فإن لها لونًا ولها طعمًا، وهما كيف؛ وعليه فيُمكِن اجتماع جنسَين أو نوعَين في موضوعٍ واحد؛ ولهذا قيَّد المصنِّف التضاد بقوله: بين نوعَين أخيرَين مندرجَين تحت جنسٍ قريب.
لاحظ السواد والبياض فكلاهما مندرجان تحت اللون؛ فهما نوعان أخيران مندرجان تحت جنسٍ قريب هو اللون؛ فالتضاد لا يقع بين الأجناس والأنواع العالية، بل فقط تحت نوعَين أخيرَين مندرجَين تحت جنسٍ قريب.
وعلى هذا الأساس، فقد لاحظنا أن شيئًا واحدًا يُمكِن أن يكون جوهرًا أو كيفًا أو كمًّا … إلخ. كما أن الكيف العارض على جسمٍ كالتفاحة، يمكن أن يكون كيفًا محسوسًا وكيفًا مذوقًا وكيفًا مشمومًا … إلخ.
(٢) أنه يتحقَّق إذا كان هناك موضوعٌ واحد يتوارد عليه الضدَّان
لذلك قيل في تعريفهما: متواردان على موضوعٍ واحد. كما قيل: داخلان تحت جنسٍ قريب؛ فهذه الورقة هي موضوعٌ للسواد وللبياض، فيمكن أن تكون بيضاء ويمكن أن تكون سوداء، فلا بد أن يكون هناك موضوعٌ واحد ليتحقَّق التضاد؛ فلو فرضنا أن السواد كان في الورقة، والبياض كان في ورقةٍ أخرى فلا يتحقَّق التضاد، فلا بد أن يكون هناك موضوعٌ شخصي؛ أي جزئي حقيقي يتوارد عليه الأسود والأبيض، وإلا من دون موضوعٍ شخصي لا يمتنع أن تكون هذه الورقة بيضاء وتلك سوداء.
إشكال
من هنا تفرَّعَت على هذا الكلام مسألة، وهي أنه يلزم من القول بتوارد الضدَّين على موضوعٍ واحد ألَّا يتحقَّق تضادٌّ بين الجواهر؛ لأن الجوهر ليس له موضوع؛ فهو موجود لا في موضوع؛ وعليه لا بد أن يتحقَّق التضاد في الأعراض فقط دون الجوهر.
ولكن قد يُقال: إننا نرى تضادًّا بين الصور النوعية الجوهرية، كالتضاد بين الصورة النارية والصورة الثلجية، وكالتضاد بين التراب والنبات، فلا بد من حل هذا الإشكال، ما دمنا نشعر بهذا التضاد بين الصور النوعية الجوهرية، والصور النوعية هي أحد أقسام الجوهر الخمسة.
جواب الإشكال
إن المقصود بالموضوع هنا ليس الموضوع الاصطلاحي؛ أي ليس المقصود بالموضوع هو الذي يحلُّ فيه العرض، أو قُل: ليس هو المعروض للعرض، وإنما المقصود بالموضوع المحل؛ أي ما هو أعم، وما يشمل الموضوع والمحل.
وقد أشرنا إلى الفرق بين الموضوع والمحل فيما سبق، فقلنا إن الموضوع هو المحل الذي يستغني عما يحلُّ فيه، أما المحل فهو الموضوع الذي لا يستغني عما يحل فيه، وإنما يكون محتاجًا للشيء الذي يحل فيه. الموضوع كالورقة تكون محلًّا لما يعرض عليها؛ أي للبياض العارض عليها، بمعنى أنها مستغنية عن البياض العارض عليها، فإذا لم تكن الورقة بيضاء فإنها تبقى ورقة. أما المحل فهو كالمادة، فالمادة لا تستغني عن الصورة التي تحل فيها، فالمادة محتاجة إلى الصورة النوعية؛ ولهذا كنا نقول إن المادة ليست موضوعًا للصور النوعية وإنما هي محلٌّ لها؛ لأن المادة لا تستغني عن الصورة النوعية، بل تكون فعلية بالصورة.
وعليه قالوا: أن المقصود ﺑ «يتواردان على موضوعٍ واحد»، الموضوع هنا بالمعنى الأعم؛ أي ما يشمل المحل، وبهذا تخلَّصوا من الإشكال.
التضاد بالذات لا بالعرض
إن التضاد بين الصور النوعية هو تضاد بالذات؛ لأن المحل قابل للصور النوعية؛ فالمادة الأولى — الهيولى — تمثِّل استعداد قبول الصور، ولمَّا كانت قابلةً للصور النوعية، فيُمكِن أن تتوارد الصور النوعية على هذا المحل الواحد وهو المادة. وبذلك لا تجتمع صورتان نوعيتان على مادةٍ واحدة.
(٣) أن يكون بين الضدَّين غاية الخلاف
الأسود والأبيض مثلًا بينهما غاية الخلاف؛ لأن اللون الأسود من هذا الطرف لا لون وراءه، ومن ذلك الطرف الأبيض لا لون وراءه. أما الألوان الأخرى كالأخضر والأصفر والأحمر، فليس بينها غاية الخلاف؛ ولذلك لا يقع بينها تضاد.
وقد قيل لماذا لا يقع تضاد بين الأنواع التي ليس بينها غاية الخلاف؟ أي لماذا لا يقع تضاد بين الأخضر والأصفر بينما يقع التضادُّ بين الأبيض والأسود؟
إن المصنف أشار في حاشيته على كتاب «الأسفار» إلى هذه المسألة، فقال: إذا كان الاختلاف بين الضدَّين بحسب النسب والاعتبارات فليس هناك تضادٌّ حقيقي، وإذا كان الاختلاف بين أمرَين ليس بحسب النسب والاعتبارات فيكون تضادٌّ حقيقي؛ فالأصفر مثلًا عندما تنسبه إلى الأسود له حكمٌ معين، وعندما تنسبه إلى الأبيض له حكمٌ آخر؛ فالأصفر إنما هو بحسب اللون الذي ينتسب إليه، بينما الأسود والأبيض، لا يختلف حاله بحسب النسب والاعتبارات؛ ولذلك فبين الأسود والأبيض تضادٌّ حقيقي، بينما الأصفر إذا نُسب إلى الأسود فله حكم، وإذا نُسب إلى الأبيض فله حكمٌ آخر.