الفصل التاسع

في تقابُل التناقض

تقابُل التناقض هو تقابُل السلب والإيجاب؛ بحيث يرِد السلب على نفس ما ورَد عليه الإيجاب، كما في: زيد موجود، وزيد ليس بموجود؛ فهنا يرِد السلب على نفس ما يرِد عليه الإيجاب.

التناقض أصله في القضايا

التناقض في أصله إنما يكون في القضايا، ولكن ربما يتحول مضمون القضية إلى مفرد، فعندما نقول: زيد، ولا زيد، فهو اصلًا تناقض بين قضيتَين، لكن مضمون القضيتَين حوِّل إلى مفرد؛ أي إن قضية «زيد موجود» حوَّلناها إلى: زيد، و«زيد ليس بموجود» حوَّلناها إلى: «لا زيد»؛ فالتناقض يكون في القضايا ولكن قد تتحول أحيانًا القضية إلى مفرد، فيبدو التناقض كأنه بين المفردات، فيُقال: التناقض بين وجود الشي‏ء وبين عدم ذلك الشي‏ء.

نقيض كل شي‏ء رفعه

نقيض الإنسان هو اللاإنسان؛ أي هو ما يرفع ويُبطِل وينفي ويطرد الإنسان. إذن ما هو نقيض اللاإنسان؟ يُقال: نقيضه هو اللالاإنسان، وهذا اللالاإنسان لازمه هو الإنسان؛ فالإنسان هو لازم اللالاإنسان؛ لأن نفي النفي إثبات، وحينئذٍ لا يكون هذا نقيضًا بل من لوازم النقيض؛ أي إن الإنسان ليس نقيضًا إلى اللاإنسان، وإنما هو لازم النقيض.

بينما يقول المصنِّف: إن الإنسان واللاإنسان يُوجَد بينهما تناقض، والإنسان ليس لازمًا لنقيض اللاإنسان، وإنما هو نقيضُ اللاإنسان؛ لأن المراد بنقيض الشي‏ء هو الطارد لذلك الشي‏ء، والنافي لذلك الشي‏ء، والرافع لذلك الشي‏ء؛ فعندما نريد أن نرفع الإنسان نرفعه باللاإنسان، وعندما نريد أن نرفع ونطرد اللاإنسان نرفعه بالإنسان، وليس بلالاإنسان كما ذهب بعضهم.

النقيضان لا يجتمعان ولا يرتفعان

حكم النقيضين أنهما لا يجتمعان ولا يرتفعان، بنحو القضية المنفصلة الحقيقية؛ فإن القضية الشرطية لها عدة تقسيمات، وأحد تقسيمات الشرطية هو بحسب نسبتها، فتنقسم إلى: متصلة ومنفصلة، وبحسب كيفها تنقسم إلى: موجبة وسالبة، وبحسب الأحوال والأزمان تنقسم إلى: شخصية ومهملة ومحصورة … إلخ.

ومعنى القضية المنفصلة، هي القضية التي بين طرفَيها تنافٍ، فلا يجتمعان كما لا يرتفعان في الإيجاب. تقول في المنفصلة العنادية: العدد الصحيح إما أن يكون زوجًا أو فردًا، فهنا يُوجَد بين الطرفَين تنافٍ وعنادٌ حقيقي؛ أي إن ذات النسبة في كلٍّ منهما تُنافي وتُعاند النسبة في الآخر؛ فالعدد الصحيح كالأربعة لا يمكن أن يكون زوجًا وفردًا، كما لا يمكن ارتفاع الزوجية والفردية عن الأربعة، فهذه هي القضية المنفصلة الحقيقية، وهي ما يُحكم فيها بتنافي طرفَيها صدقًا وكذبًا في الإيجاب وعدم تنافيهما في السلب، بمعنى أنه لا يمكن اجتماعهما في الإيجاب ولا يمكن ارتفاعهما. بينما يجتمعان ويرتفعان في السلب. نلاحظ هذه القضية المنفصلة الحقيقية الموجبة، التي لا يمكن اجتماع الطرفَين، كالأربعة فإنها لا يُمكِن أن تكون زوجًا وفردًا، كما لا يُمكِن أن تكون الأربعة لا زوجًا ولا فردًا.

وهنا يُقال نفس الشي؛ فهذه قضيةٌ منفصلةٌ حقيقية، وهي: النقيضان لا يرتفعان ولا يجتمعان؛ أي لا يمكن أن يجتمع الإنسان واللاإنسان، ولا يمكن أن يرتفع الإنسان واللاإنسان؛ فالنقيضان هما على سبيل القضية المنفصلة الحقيقية.

استحالة اجتماع النقيضَين وارتفاعهما أولى الأوائل

امتناع اجتماع النقيضَين وارتفاعهما، قضيةٌ تصديقيةٌ بديهية لا نظرية، وهذه القضية البديهية من نوع الأوليات، والأوليات هي القضايا التي يصدِّق بها العقل لذاتها؛ أي بدون سببٍ خارج عن ذاتها، بل مجرد أن يتصوَّر الطرفَين ويلتفت إلى النسبة يكفي ذلك في التصديق والجزم والاعتقاد بها.

وهذه القضية — استحالة اجتماع وارتفاع النقيضَين — ليست هي من الأوليات فحسب بل هي أولى الأوليات؛ أي إن هذه القضية تمثِّل قضيةً تصديقيةً بديهية، وهي رأسُ مالِ عملية التفكير؛ لأن كل عملية تفكير تستند إليها، فكل نشاطٍ عقلي لا بد أن يستند إلى هذه القضية، بل نفس هذه القضية — استحالة اجتماع النقيضَين — تستند أيضًا إلى استحالة اجتماع النقيضَين؛ فهي لا يمكن أن تكون صادقة وكاذبة في آنٍ واحد. خذ أي قضية تجد أنها لا يمكن أن تكون صادقة وكاذبة في آنٍ واحد؛ أي إن عملية التفكير البشري تبدأ من هذه النقطة، والتصديقات التي يحصل عليها الإنسان تبدأ من هذه النقطة، وكل التصديقات الأخرى سواء كانت بديهية أو نظرية تستند إلى استحالة اجتماع النقيضَين، وإلا لو أمكن اجتماع النقيضَين لأمكن اجتماع النفي والإثبات، بمعنى الكذب والصدق، فتكون القضية كاذبةً وصادقةً في آنٍ واحد.

لا يخرج عن حكم النقيضَين شي‏ء

لا يمكن أن يخرج عن حكم النقيضَين شي‏ء على الإطلاق؛ فأي شي‏ء إما أن يصدُق عليه النفي أو الإثبات، خذ هذا الكتاب مثلًا، فإما أن يصدُق عليه إنسان أو لا إنسان، وهذه قضيةٌ بديهية، ونحن نستعملها في حياتنا بشكلٍ واسع، فقد تقول: أعطني قلمًا، ولكني أعطيك كتابًا، لكنك ستقول هذا ليس قلمًا؛ فالكتاب إما يصدُق عليه أنه قلم أو لا يصدُق.

فحكم النقيضَين أنه لا يُوجَد شي‏ء في الوجود إلا ويصدُق عليه أحد النقيضَين؛ فكل شي‏ء نفترضه إما أن يكون موجودًا أو غير موجود، إنسان أو لا إنسان، أبيض أو لا أبيض.

قد يُقال: تقدَّم في الفصل الأول من المرحلة الخامسة، أن الماهية من حيثُ هي ليست إلَّا هي لا موجودة ولا معدومة، فهل يعني ذلك أن الماهية مستثناة من هذا الحكم؛ لأنها لا موجودة ولا معدومة؟

الجواب: إن الماهية إذا لاحظناها من حيثُ هي، وهذا القيد ضروري جدًّا؛ أي ماهية الإنسان لم يُؤخذ فيها قيدٌ زائدٌ على الجنس والفصل، الحيوان والناطق — فلم يُؤخذ فيها أنها موجودة أو معدومة أو طويلة أو عريضة أو بيضاء أو صفراء … إلخ، وإن كانت ماهية الإنسان وأية ماهية مفترضة في الواقع إما أن تكون موجودة أو معدومة؛ أي هي بالفعل إما موجودة أو معدومة، لكن حقيقة الماهية لم يُوخَذ فيها الوجود والعدم، فلا تقول: الإنسان يساوي حيوانًا ناطقًا زائدًا موجودًا أو معدومًا أو طويلًا أو أبيض، فحد الماهية التام أو التعريف الحقيقي للماهية، مأخوذ فيها ما يقوِّم الماهية، وهو الجنس والفصل فقط، وإن كانت في الواقع قطعًا إما أن تكون موجودة أو معدومة. خذ ماهيةً مفترضة، كالعنقاء مثلًا، فإنها معدومة، بينما ماهية الإنسان موجودة؛ فكل شي‏ء نفترضه لا يخرج من حكم النقيضَين؛ أي إنه إما موجود أو معدوم في الواقع.

وحدات التناقض

لكي يتحقَّق التناقض بين قضيتَين، بحيث تكون إحداهما كاذبة والأخرى صادقة، لا بد من توفُّر مجموعة شروط، وهذه الشروط هي التي يعبَّر عنها بوحدات التناقض، وهي معروفة — كما في كتب المنطق القديمة — بثماني وحدات، ولكن صدر المتألهين زاد عليها وحدةً أخرى فأضحت هذه الوحدات تسعًا.

وهذه الوحدات التي يجب توفُّرها ليتحقق التناقض بين قضيتَين فتكون إحداهما صادقة والأخرى كاذبة هي:

  • (١)

    وحدة الموضوع.

  • (٢)

    وحدة المحمول.

  • (٣)

    وحدة الزمان.

  • (٤)

    وحدة المكان.

  • (٥)

    وحدة القوَّة والفعل.

  • (٦)

    وحدة الكل والجزء.

  • (٧)

    وحدة الشرط.

  • (٨)

    وحدة الإضافة.

أما الوحدة التي زادها صدر المتألهين فهي وحدة الحمل، والمقصود بها أن يكون الحمل فيهما معًا من نوع الحمل الأوَّلي أو الحمل الشائع، في القضية الموجبة الحمل أوَّلي مثلًا، وكذلك في السالبة، فحينئذٍ تكون إحداهما صادقة والأخرى كاذبة.

أما إذا كان الحمل في أحدهما حملًا أوليًّا وفي الأخرى شائعًا فلا يُوجَد تكاذب بينهما؛ فعندما نقول: الجزئي جزئي، والجزئي ليس بجزئي، فلا تناقض بين هاتَين القضيتين، وإن كانت في القضية الأولى والثانية متوفرة الوحدات الثماني للتناقض، لكن الوحدة التاسعة وهي وحدة الحمل غير متوفرة؛ إذ الحمل في إحداهما حملٌ أوَّلي وفي الأخرى حملٌ شائع؛ ولذلك كلاهما تكون صادقة، أما لو كان الحمل في كلتَيْهما حملًا واحدًا فتكون إحداهما صادقة والأخرى كاذبة.

فالجزئي جزئي بالحمل الأوَّلي، والجزئي ليس بجزئي بالحمل الشائع؛ لأن مفهوم الجزئي في الذهن ليس مصداقًا للجزئي، وإنما مفهوم الجزئي في الذهن هو مفهومٌ كلي، ينطبق على كل المصاديق الجزئية؛ أي إن مفهوم الجزئي في الذهن ليس مفهومًا جزئيًّا، بل هو مفهومٌ كلي، فلا تناقض بين القضيتَين بل كلاهما صادقة، لاختلاف وحدة الحمل بين القضيتَين.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥