في معنى السبق واللحوق وأقسامهما والمعيَّة
نمهِّد للحديث ببيان عدة نقاط:
-
(١)
أن فهم معنى القِدم والحدوث متوقِّف على فهم السبق واللحوق؛ ولهذا قدَّم المصنِّف ذلك.
-
(٢)
لكي يتحقَّق سبقٌ ولحوق بين شيئَين لا بد من توفُّر أركانٍ أربعة، وهي:
- الأول والثاني: وجود شيئَين أحدهما سابق والآخر لاحق.
- الثالث: أن يُوجَد مبدأ يقاس له السابق واللاحق، أو نسبة ينتسبان إليها؛ أي يشتركان في النسبة إلى مبدأ وجودي، كما نقول: الواحد قبل الاثنين؛ فالواحد سابق والاثنان لاحق، والمبدأ هنا هو الواحد، فينتسب إليه السابق واللاحق.
- الرابع: أن تكون النسبة مشتركة بين السابق واللاحق، والسابق متقدم واللاحق متأخر، وإلا إذا نُسب الواحد إلى شيء والاثنان إلى شيء آخر فلا يتحقَّق سبق ولحوق.
-
(٣)
المقصود بالمعية هو أن الشيئَين إذا لم يكن أحدهما سابقًا والآخر لاحقًا فلا بد أن يكونا معًا؛ أي في مرتبةٍ واحدة. ونسبة المعية إلى السبق واللحوق هي نسبة العدم والملكة؛ فالسبق واللحوق ملكة، والمعيَّة هي عدم السبق وعدم اللحوق، فهي عدم لهذه الملكة.
-
(٤)
أن أقسام السبق واللحوق إنما هي بالقسمة الاستقرائية لا العقلية؛ أي أن العقل لا يمنع من وجود أقسامٍ أخرى؛ فهي يمكن أن تزداد؛ حيثُ زاد المحقق الداماد وكذلك صدر المتألهين أقسامًا أخرى؛ فهي أقسامٌ مستفادةٌ من الاستقراء.
-
(٥)
إنما نبحث السبق واللحوق هنا لأنهما من عوارض الموجود بما هو موجود الذاتية، وهذا هو موضوع الفلسفة؛ أي إن البحث في الفلسفة الإلهية هو عن أحوال الموجود وعوارضه بما هو موجود. كذلك المعيَّة هي من أحوال الموجود بما هو موجود، وإن كانت أمرًا عدميًّا في قبال السبق واللحوق.
أقسام السبق واللحوق
للسبق واللحوق أقسامٌ ثمانية، وهي:
(١) السبق واللحوق الزماني
وهو السبق الذي يكون في الزمان وفي الزمانيات. والزمانيات: هي ما يقع في الزمان من حوادث. وفي السبق الزماني تكون النسبة للزمان؛ فالسابق لا يجامع اللاحق، فالساعة الواحدة لا تجتمع مع الثانية، وهكذا الحوادث التي تقع في الزمان، فالأولى لا تقع مع الثانية.
وعليه ففي هذا السبق نلاحظ الأمور بالنسبة إلى الزمان؛ إما بملاحظة الزمان نفسه أو الأشياء الزمانية، والزمان هو كمٌّ نحدِّد به امتداد الحركة؛ فهو غير مستقلٍّ عن الأشياء الزمانية.
(٢) السبق بالطبع
ويكون بالنسبة للوجود، فإذا لاحظنا أن وجود شيء مقدَّم على وجود آخر، فإن ذلك سابق والآخر لاحق، مثل تقدُّم العلة الناقصة على المعلول؛ فالعلة قسمان ناقصة وتامة، والتامة: ما يتوقف وجود المعلول على وجودها. والناقصة: ما لا يلزم من وجودها وجود المعلول، ولكن يلزم من انعدامها انعدام المعلول، فتشترك العلتان التامة والناقصة بأنه يلزم من انعدامهما انعدام المعلول؛ وعليه فمن غير الممكن وجود المعلول إلا بوجود العلة قبله.
وعلى هذا الأساس تكون العلة الناقصة متقدمة بطبعها على وجود المعلول. ومِلاك التقدم والتأخر هنا هو الوجود.
(٣) السبق بالعلية
الملاحظ هنا في السبق واللحوق هو النسبة إلى الوجوب لا الوجود؛ فالذي وجوبه متقدم هو السابق، والذي وجوبه متأخر هو اللاحق، وقد سبقَت الإشارة إلى أن الشيء ما لم يجب لا يُوجَد، فلا بد من سدِّ جميع أبواب العدم، لكي يُوجد الشيء، وعلى هذا الأساس ولكي يُوجد المعلول لا بد أن يكون وجوده مسبوقًا بوجوبه. وهذا الوجوب يحصل عليه المعلول من علته؛ فلا بد للعلة أن تكون واجبة لكي تمنح الوجوب لمعلولها، وإلا فإن فاقد الشيء لا يعطيه. ووجوب العلة إما بذاتها أو بغيرها، فلا بد من تحقق الوجوب للعلة أولًا ثم للمعلول ثانيًا، فيكون وجوب العلة سابقًا ووجوب المعلول لاحقًا.
وقد تقدَّم توضيح ذلك في بيان المراتب المتعددة لتقرر وجود ماهيَّة الشيء، والتي حلَّلها العقل فحدَّد في هذه المراتب مرتبة الوجوب؛ أي عندما توجبُ العلةُ وجودَ المعلول يجب أن يُوجد المعلول.
(٤) السبق بالماهيَّة
وهذا السبق إنما يكون بناءً على القول بأصالة الماهية، وإلا فبِناءً على القول بأصالة الوجود لا يكون هذا السبق حقيقيًّا، بل يكون اعتباريًّا.
ويعبَّر عن هذا النوع بالتقدم بالتجوهر أو التقدم بالماهية، ومعنى ذلك أن الماهية مكوَّنة من جنس وفصل، فلكي تُوجد الماهية فإنها متوقفة على وجود أجزائها؛ إذْ إن وجود الكل متوقِّف على وجود أجزائه، بينما الجزء غير متوقِّف في وجوده على وجود الكل. وهذا السبق يكون حقيقيًّا على القول بأصالة الماهية واعتباريًّا على القول بأصالة الوجود.
(٥) السبق بالحقيقة
أي الحقيقة الواقعية، بمعنى السابق في وجوده الحقيقي على اللاحق. وبناءً على القول بأصالة الوجود فإن الوجود هو الأمر الواقعي، والماهية أمرٌ اعتباري؛ فالوجود هو الحقيقي وهو المتقدم، والماهية منتزعة من الوجود؛ فالموجود الحقيقي أولًا هو الوجود والموجود بالعرض ثانيًا هو الماهية. والواقعية تكون للوجود، فنقول: الوجود موجود، وتُنسب كذلك الواقعية إلى الماهية، فنقول: الإنسان موجود، ولكن في الواقع: الإنسان موجود بالوجود، فنسبة الواقعية للوجود والماهية صحيحة؛ لأنها نسبة للوجود أولًا وبالذات، وللماهية ثانيًا وبالعرض.
والحق أنه لا وجود إلا لواقعيةٍ واحدة، هي واقعية الوجود، أما واقعية الماهية فهي بالمجاز والعرض، فالوجود والماهية مشتركان بالواقعية، لكن الوجود متقدم والماهية متأخرة.
(٦) السبق بالدهر
ذكرنا سابقًا أن الوجود مؤلف من عوالم كما قالوا، وهي: عالم الطبيعة والمثال والعقل والعالم الربوبي.
وقد أضاف السبقَ بالدهر الميرداماد؛ فالحدوث الدهري هو مسبوقية وجود الشيء بعدمه في عالمٍ آخر غير عالم الطبيعة؛ أي في عوالم أعلى من عالم الطبيعة؛ فمثلًا هذا الكتاب كان في عالم الدهر معدومًا، وعالم الدهر متقدم على عالم الطبيعة.
هذا هو التقدُّم الدهري الذي قال به الميرداماد؛ لأن عالم الدهر له نحو تقدم على عالم الطبيعة. ولم يكن في التقدم والتأخر في الأقسام السابقة، كالتقدم بالعلية انفكاك، بين التقدم والتأخر، بينما هنا في التقدم الدهري تقدُّم انفكاكي طولي.
(٧) السبق بالرتبة
ويكون بالنسبة لمبدأ معيَّن ومحدد؛ فبالنسبة إلى سلسلة الأجناس لو أخذناها من الجوهر، وقلنا: جوهر، جسمٌ مطلَق، جسمٌ نامٍ، جسمٌ نامٍ حسَّاس متحرك بالإرادة، ثم إنسان، فإذا بدأنا من جنس الأجناس؛ أي الجوهر، يكون سابقًا ومتقدمًا على الذي يليه، وهكذا الذي يليه.
ومن جهة أخرى عندما بدأنا بالإنسان فيكون متقدمًا على الحيوان، والحيوان سابقًا للنبات، والنبات يكون سابقًا للجسم، والجسم يكون سابقًا للجوهر. وهذا نظير الإمام والمأموم؛ فمرةً نلاحظهما بالنسبة إلى الباب، لو كان يقع في الجهة المعاكسة لمحراب المسجد، فنقول المأموم أقرب إلى الباب، وإذا لاحظنا المأموم والإمام بالنسبة إلى المحراب فنقول: الإمام أقرب وأسبق إلى المحراب من المأموم.
ففي السبق بالرتبة: نقيس الأمرين بالنسبة لمبدأ محدَّد ومعيَّن، وهو المحراب في المثال السابق.
(٨) السبق بالشرف
النسبة هنا الفضل والشرف والمزية، فالمجتهد يكون سابقًا بالنسبة للمقلد، والمزية هنا هي العلم؛ فهو سابق ومتقدم بالعلم. كذلك البخيل والكريم في الكرم والسخاء؛ فأحدهما يتقدم على الآخر في المزية والشرف، فأحدهما سابق والآخر لاحق.