في المقولات التي تقع فيها الحركة
في هذا الفصل يشير المصنِّف إلى المقولات التي تقع فيها الحركة، وفي هذه المسألة يُوجَد خلافٌ بين المتقدمين وبين صدر الدين الشيرازي؛ فالمتقدمون منذ أرسطو قالوا بوقوع الحركة في المقولات العرضية الأربعة: الأين، والكيف، والكم، والوضع. بينما قال صدر المتألهين بوقوع الحركة بالإضافة إلى ذلك في مقولة الجوهر. وذلك يعني أن كل ما في عالم الطبيعة يكون متحرِّكًا ومتجدِّدًا وسيَّالًا.
الحركة في الأين
الحركة في مقولة الأين؛ أي الحركة المكانية، كحركة الأرض حول الشمس، والحركة الوضعية، كحركة الأرض حول نفسها. وإن الحركة المكانية التي محلُّها مكان الأجسام، إنما يُعتبر الأين مسافة لها؛ لأن الأين مقولة، ومسافة الحركة؛ أي هي المقولة التي تقع فيها الحركة، أو القناة التي تجري فيها الحركة.
وهذه الحركة الأينية من أوضح الحركات إدراكًا؛ فهي لا تحتاج إلى أدلة لإثباتها، كحركة هذا الكتاب من اليد إلى المنضدة، فحركته مكانية، والمقولة التي تقع فيها حركته هي الأين.
لقد أشار المصنف إلى أن الأين نوع من أنواع الوضع؛ لأن نسبة الجسم إلى الخارج تتغير في الحركة الأينية، كما أنها تتغير في الحركة الوضعية؛ لأن الوضع هو النسبة الحاصلة من نسبة الأجزاء بعضها إلى بعض، ثم نسبة الكل إلى الخارج.
إن الوضع قسمان؛ تمام المقولة، وجزء المقولة، وجزء المقولة قسمان أيضًا؛ القسم الأول هو الهيئة الحاصلة من نسبة أجزاء الشيء بعضها إلى بعض، والثاني هو الهيئة الحاصلة من نسبة أجزاء الشيء إلى الخارج، وهذا الأخير هو الأين.
ويتضح ذلك من مثالهم للحركة في مقولة الوضع بحركة الكرة على محورها، وحركة الفلك الأعلى، ومعلوم أن نسبة أجزاء الكرة والفلك بعضها إلى بعض لا تتغيَّر، وإنما تتغيَّر نسبة الأجزاء إلى الخارج.
الحركة في الكيف
أمَّا الحركة في الكيف فهي ظاهرة وواضحة، والكيف ينقسم إلى: كيفٍ فعلي وكيفٍ انفعالي، والمقصود بالكيف الفعلي، الحرارة والبرودة، أما الكيف الانفعالي فهو كاليبوسة. والفعلي إنما يُسمَّى فعليًّا لأن الصورة تفعل بواسطة هذا الكيف المادي، والكيف الفعلي قسمٌ من الكيف المحسوس.
كما أنه تُوجَد في الحركة في الكيف الفعلي عدة نظريات؛ فمثلًا في كيفية انتقال الحرارة إلى الماء عندما نسخِّنه. هناك ثلاثُ نظريات في الطبيعيات القديمة تفسِّر ذلك، وهي:
- الأولى: أن الماء يتسخَّن بانتقال ذرات من النار إلى الماء، وامتزاجها بالماء هو الذي يسخِّنه.
- الثانية: أن الحرارة أساسًا موجودة في الماء، ولكنها بالقوة؛ أي هي كامنة، والنار تُبرِز هذه الحرارة الكامنة.
- الثالثة: أن الماء عندما يتسخَّن، إنما يكون بعروض الحرارة عليه، ثم تشتد هذه الحرارة شيئًا فشيئًا بالتدريج.
وبناءً على الرأي الأول في تسخين الماء لا تُوجَد حركة؛ لأن ذرات النار تنفصل من النار وتندمج بالماء فلا تحصل حركة، وبناءً على الرأي الثاني لا تحصُل حركة أيضًا؛ لأن الحرارة موجودة في الماء منذ البداية، بينما على الرأي الثالث تحصُل حركة؛ لأن الحرارة تعرض على الماء ثم تزداد وتشتد بالتدريج، إذن فالكيفيات الفعلية تحصُل فيها الحركة على الرأي الثالث خاصة.
وأما الكيفيات غير الفعلية فإنها تحصل فيها الحركة؛ ولهذا قالوا: تقع الحركة في الكيفيات غير الفعلية، لكن الكيفيات الفعلية فيها خلاف.
أما الكيفيات المختصة بالكمِّيات، كالاستواء والاعوجاج، فالخط مثلًا، كمٌّ متصلٌ قارٌّ، والاعوجاج كيفيةٌ عارضةٌ على الكم، فإن في هذه الكيفيات حركة ظاهرة؛ لأن الخط المعوَج إذا تحقَّقَت فيه حركة فإنه يتحرك بالكيفيات القائمة به، كذلك السطح المقعَّر والمحدَّب إذا حدثَت حركة في كَمِّه فإن الكيفيات القائمة به تتحرك؛ أي إن هذا العرض — الكيف — يكون تابعًا في حركته لمعروضه الذي هو الكَم.
وهنا نلاحظ بأن العرض تارةً يعرض على الجسم مباشرة، كعروض الكَم على الجسم الطبيعي، وتارةً يعرض على العرض، كعروض الكيف على الكَم؛ فإنه طالما تحدُث حركة في الكَم تحدُث حركة في الكيف القائم بهذا الكَم.
كما تحصُل حركة في الكيف النفساني، كالحب الذي هو كيفٌ نفساني؛ فأنت تحب شخصًا ورعًا تقيًّا، وكلما اطلَعت أكثر على ورعه وتقواه ازداد حُبُّك إيَّاه، وهذا الازدياد في الحب هو حركة في الكيف النفساني.
وكذلك تحصُل حركة في الكيفيات المحسوسة، كاللون فهو يتغيَّر، ربما كان أصفر ثم يشتد صفاره، ثم يصير أحمر، وهكذا.
الحركة في الكم
الحركة في الكَم، كالحركة في طول النبات؛ فمثلًا كان طوله ١٠سم، ثم أصبح ١٢سم، ثم ١٤سم، وهكذا.
فالحركة في الكَم تمثِّل تغيُّر الجسم في كمِّه بنسبةٍ منتظمة بشكلٍ تدريجي، كما في زيادة حجم الحيوان مثلًا. وهذه الحركة ظاهرةٌ وواضحة.
إشكال
لو كان هناك نباتٌ طوله مترٌ واحد مثلًا، ثم ازداد طوله فأصبح مترًا ونصفًا، فهل يزداد بانضمام أجزاءٍ جديدة من الخارج إلى الأجزاء الأصلية، فيزداد حجمه، كما لو كان هذا النبات مؤلفًا من «١٠٠» جزء، ثم انضمَّت إليها «١٠» أجزاءٍ جديدة، فأصبح «١١٠» أجزاء، فالكَم الجديد «١٠» أجزاء يعرض على الكَم السابق، وهو النبات الذي طوله «١٠٠» جزء، فإذا لاحظنا الكم الكَبير والكَم الصغير فسوف نجد أن موضوع الأول مباينٌ لموضوع الثاني؛ لأن الكَم الكبير موضوعه الأجزاء الأصلية اﻟ «١٠٠» جزء مضافًا إليها الأجزاء العشرة المنضَمة إليها، بينما الكَم الصغير موضوعه الأجزاء الأصلية التي هي «١٠٠» جزء فقط.
وإذا تبايَن الموضوع تبايَن الكَم؛ وبالتالي لا تحصل زيادةٌ في الكَم نفسه، ولا تحصُل حركة في الكم ذاته. بينما ذكرنا أن الحركة الكَمية تعني تغيرًا في الكَم، وهو عينه تغيُّرٌ متصل بنسبةٍ منتظمة تدريجًا. أما هنا فلا يكون التغيُّر متصلًا ولا تكون النسبة منتظمةً تدريجية. إذن فلا حركة في الكَم، بل إن ما يحصُل هو اندثار كَمٍّ وحصول كَمٍّ آخر.
جواب الإشكال
نُسلِّم بأن هذا النبات إذا كان طوله «١٠٠» جزء وازداد عشرةً جديدة، فهذه العشرة الجديدة منضمَّة إليه من الخارج، ولا شك في ذلك، ولكن نقول: إن هذا الانضمام يعني أن الصورة النوعية لهذا النبات تتسع تدريجيًّا حتى تشمل الجزء الجديد.
وبعبارةٍ أخرى هذه الأجزاء العشرة سوف تندمج مع الأجزاء المائة السابقة، فيحصل امتزاج وامتصاص للأجزاء الجديدة، فتكون الصورة النوعية هي نفسها.
نذكر مثالًا بسيطًا على المسألة، فلو لاحظنا ولدًا صغيرًا بعمر سنة واحدة، ثم فارقناه لمدة سنتَين والتقيناه أفهو نفسه أم غيره؟ لا شك بأنه نفسه حتى لو كان في عمر السنة بوزن «١٠» كغم والآن «١٨» كغم، فإن العشرة القديمة امتصَّت هذه الثمانية الجديدة واتسعَت؛ أي الصورة النوعية تبدِّل الأجزاء إلى الأجزاء القديمة الأصيلة، فلا نحصل على شيءٍ آخر؛ فزيدٌ بعمر سنة نفسُه زيدٌ بعمر «٤٠» سنة، وكل ما يُضاف إليه يندمج مع أجزائه الأصيلة؛ أي إن الطبيعة تبدِّل الأجزاء المنضمَّة إلى أجزاءٍ أصلية؛ ولذا يُقال: إن الحركة الكمِّية هي تغيرٌ متصل بنسبةٍ منتظمةٍ تدريجية.
الحركة الوضعية
مثل حركة الأرض حول نفسها، هي الحركة المكانية عينها، ولكن في المكانية الشيء بمجموعه تتغير نسبته إلى المكان، بينما في الوضعية أجزاء الشيء يتبدَّل حالها بعضها إلى بعض والمجموع بالنسبة إلى الخارج — المكان — ولهذا فإن الحركة المكانية تعود إلى الحركة الوضعية؛ فالأرض عندما تتحرك يحصل لدينا الليل والنهار.
هذا ما عليه القدماء بحصول الحركة في المقولات الأربع، بينما قال المصنِّف: بأن الحركة تقع في المقولات الثلاث؛ لأن الأين يعود إلى الوضع.
الحركة في مقولتَي الفعل والانفعال
أما المقولات الأخرى: المتى، والفعل، والانفعال، والإضافة، والجدة، والجوهر، فإنها لا تقع فيها حركة على رأي القدماء؛ لأنه في مقولة الفعل والانفعال أخذ في تعريفهما ما دام يتأثر أو يؤثِّر، ومعنى «ما دام» التدريج، فليس للفعل أو الانفعال فردٌ آنيٌّ دفعي الوجود؛ أي إن أي فرد من أفراد مقولة الفعل لا يكون آنيًّا دفعيًّا؛ لأنه تدريجي الوجود، فكل جزء منه يكون تدريجيًّا؛ وبالتالي لو قلنا بوقوع الحركة في الفعل، لاقتضَى ذلك تقسيم الفعل أو الانفعال إلى أقسامٍ دفعية الوجود، بينما ليس لهما أفرادٌ أو أجزاءٌ آنية الوجود، تقتضي فرضَ حدودٍ آنيَّة فيها، يُنتزع من كل حدٍّ منها نوع من المقولة. قال في شرح المنظومة، ص٢٤٧: فالحركة عبارة عن أن يكون في كل آنٍ مفروضٍ فرد مما فيه الحركة للموضوع غير ما في آنٍ قبله وآنٍ بعده، فلا بد أن يكون ذلك الفرد أمرًا قارًّا.
الحركة في مقولة المتى
أمَّا مقولة المتى فلا تحصل فيها حركة؛ لأن المتى هو الهيئة الحاصلة من نسبة الشيء إلى الزمان، وهذه الهيئة تدريجية؛ لأن الزمان أمرٌ تدريجي؛ وبالتالي فهي كالفعل والانفعال من التدريجيات، والأمور التدريجية لا يمكن الحصول على فردٍ دفعيِّ الوجود لها. ولمَّا لم يكن للمتى فردٌ آنيٌّ دفعيُّ الوجود، فلا تحصُل فيها حركة؛ لأن أي فرد نأخذه من المتى يكون تدريجي الوقوع تبعًا لتدريجية الزمان.
الحركة في مقولة الإضافة
أما الإضافة فأيضًا لا تحصل فيها الحركة؛ لأن الإضافة هي هيئةٌ حاصلة من تكرُّر النسبة بين شيئَين، فهي أمرٌ انتزاعي؛ أي ماهيَّته تُنتزع من طرفَين، كزيد وعلي ننتزع منهما الأخوَّة إن كانا أخوَين. وإذا كانت الإضافة أمرًا انتزاعيًّا فليس لها استقلال وراء طرفَيها، وإنما هي تابعة لطرفَيها. إذن لا يمكن أن تتصف بشيء كالحركة؛ ولهذا قال بعضهم: إن الإضافة ليست مقولة، بل هي معقولٌ ثانٍ فلسفي، وعلى هذا الأساس فلا تقع فيها الحركة.
الحركة في مقولة الجدة
أما الجدة فهي هيئةٌ حاصلة من إحاطة شيء بشيء؛ بحيث ينتقل المحيط بانتقال المُحاط، مثل شخصٍ يرتدي جوربًا أو قميصًا، فهل يحصل فيها تغيُّر وحركة؟
الجواب: نعم يحصل تغير، لكنه ليس فيها، بل هو في موضوعها؛ فالتغيُّر فيها تابع لتغيُّر موضوعها.
الحركة في الجوهر
أما مقولة الجوهر فقد قالوا لا تقع الحركة في الجوهر أيضًا؛ لأن وقوع الحركة فيه يعني تحقُّق الحركة بلا موضوعٍ ثابت، والموضوع شرط وركن للحركة كما تقدم؛ أي إن ما بالقوة لا بد أن يكون هو نفسه ما بالفعل للحركة التي تجري عليه، وإلَّا فلو كان ما بالقوة غير ما بالفعل فهذا يعني عدم تحقُّق الحركة؛ لأن ما بالقوة بقي على ما هو، بينما هذا الذي بالفعل أصبح غيره.
لكن ملا صدرا كما سيأتي برهَن على تحقُّق الحركة في مقولة الجوهر.