الحركة الجوهرية
عنون المصنِّف هذا الفصل ﺑ «تعقيب على ما مر في الفصل السابق»؛ لأن ما مر كان بناءً على ما ذهب إليه المشَّاءون؛ إذ إنهم تبعًا لأرسطو قالوا بالحركة في المقولات الأربع، وأنكروها في باقي المقولات الست، ومنها مقولة الجوهر.
والمصنِّف هنا تبعًا لصدر الدين الشيرازي يقول بالحركة في مقولة الجوهر، وهذا ما يُعرف بالحركة الجوهرية في مدرسة الحكمة المتعالية.
وقد استطاع الطباطبائي أن يستنتج عدة نتائج مهمة من القول بالحركة الجوهرية، لأن ملا صدرا الذي بلوَر النظرية لم يبيِّن كافة النتائج والآثار التي تتفرَّع عليها، بينما استطاع الطباطبائي بيان عدة ثمرات لهذه النظرية.
لماذا نفى القدماء الحركة الجوهرية؟
يقوم هذا النفي — كما بيَّنَّاه فيما سبق — على أن موضوع الحركة وهو المتحرِّك لا بد أن يكون ثابتًا؛ لأن الحركة كالصفة بالنسبة للموصوف، أو هي كالعرض بالنسبة للمعروض؛ فما لم يكن المعروض ثابتًا لا يكون العرض ثابتًا له.
ولهذا قالوا: لا بد أن يكون الموضوع أي ما بالقوة هو عينه ما بالفعل، لكي تجري الحركة على موضوعٍ واحد لكن هذا الكلام غير صحيح؛ لأنه لو كانت الحركة مقولة من المقولات وماهية من الماهيَّات كالمقولات العرضية التسع لصَح هذا الكلام؛ لأن أي عرض يحتاج إلى معروض، فإذا انتفى المعروض انتفى العرض. أما مفهوم الحركة فليس مفهومًا ماهويًّا؛ أي ليس معقولًا أوليًّا، وإنما هو معقولٌ ثانويٌّ فلسفي؛ ولذلك لا يحتاج هذا المفهوم إلى موضوع ليُنتزع منه، وإنما يمكن أن يكون منشَأ انتزاع هذا المفهوم هو نفس الوجود الجوهري السيَّال المتحرك، بمعنى أنه يمكن أن يكون منشَأ انتزاع العرض هو نفس المعروض.
الدليل على الحركة الجوهرية
استدل ملا صدرا بأدلةٍ كثيرة على الحركة الجوهرية، كما في كتاب «المشاعر» و«الأسفار»، والمصنِّف كعادته في هذا الكتاب ينتخب ما هو الأخصَرُ والأسَدُّ من الأدلة؛ فقد اختار دليلَين من أدلة ملا صدرا على الحركة الجوهرية، وهما:
الدليل الأول
أن الأعراض متغيرة، كالتفاحة يتغير لونها وطعمها ووزنها، فتغيُّرات الأعراض لا بد أن تكون معلولة لطبيعتها الجوهرية؛ أي معلولة للفاعل الطبيعي القريب وهو الجوهر، وهو لا بد أن يكون متغيرًا بناءً على أن علة المتغيِّر متغيِّرة، إذن الجوهر متغير.
وقد أثبتنا في الفصل السابع بأن علة المتغيِّر لا بد أن تكون متغيرة، إذن لا بد أن يكون الفاعل الطبيعي أو الجوهر متغيرًا؛ لأنه لمَّا كانت الأعراض متغيِّرة، وهي معلولة للصور النوعية الجوهرية، وكل متغيِّر لا بد أن تكون علته متغيرة، إذن فالصور النوعية الجوهرية متغيِّرة كالأعراض.
وبعبارةٍ أخرى يمكن أن نُشكِّل هنا قياسًا استثنائيًّا فنقول هكذا: لو كانت الصور النوعية علة لوجود الأعراض لكانت متغيِّرة، لكنها علة لوجود الأعراض، إذن هي متغيِّرة. والصور النوعية هي الجوهر.
هذا هو البرهان الأول على الحركة الجوهرية، وأورَد المصنِّف على هذا البرهان ثلاثة إشكالات، وهي:
الإشكال الأول
نلاحظ الجوهر، فكيف صدر عن الفاعل الإلهي وهو متغيِّر، إذن لا بد أن يكون الفاعل الإلهي متغيرًا، بينما هو ثابت وليس بمتغير؛ لأن التغيُّر إنما يكون في عالم الطبيعة لا في المجردات.
وهذا الإشكال يقوم على ما تقدَّم في الفصل السابع، من أن علة المتغير لا بد أن تكون متغيرة، ولمَّا كانت الأعراض متغيرة ففاعلها الطبيعي، وهو الصور النوعية الجوهرية، لا بد أن يكون متغيرًا، ثم علة هذا الجوهر لا بد أن تكون متغيرة كذلك، فإذا كانت علة الجوهر متغيرة يلزم تغيُّر المبدأ الأول والمجرَّدات، بينما لا تغيُّر في المجردات؛ لأن التغير إنما هو في عالم الطبيعة خاصة.
جواب الإشكال الأول
لقد أجيب على هذا الإشكال بجوابٍ تقدَّم، وهو أن الجاعل إنما جعل الجوهر المتجدد؛ أي إن الجعل هنا، جعل الجوهر المتجدد، فيكون الجوهر هو الحركة وهو التجدد، ولم يجعل الجوهر ثم بعد ذلك جعل له الحركة، وإنما الجعل هنا بسيط.
وهنا نذكر مثالًا بسيطًا؛ فلو لاحظتَ على ثوبك بقعة زيت، قد تسأل عن سبب دسومة الثوب الذي هو بقعة الزيت، لكن لا تسأل عن سبب دسومة الزيت لأنها ذاتية له. والحركة هكذا ذاتيةٌ للجوهر كالدسومة للزيت.
الإشكال الثاني
لماذا نقول بأن الأعراض لما كانت متغيِّرة ومتجدِّدة فلا بد أن تكون مستندة إلى طبيعةٍ متجدِّدة ومتغيِّرة، وهذه الطبيعة هي الجوهر، وهو لا يستند إلى طبيعةٍ متغيِّرة ومتجددة وإنما هو متجدِّد ومتغيِّر بذاته، فلماذا لا نقول بأن الأعراض متجدِّدة بذاتها، من دون إرجاع تجدُّدها إلى تجدُّد الجوهر؟
جواب الإشكال الثاني
إن الأعراض مستندة في وجودها إلى الجوهر؛ أي إنها ليست مستقلة بذاتها؛ فإن وجود العرض من مراتب وجود الجوهر، بعد إثبات أصالة الوجود وبساطته، وإن العرَض والجوهر موجودان بوجودٍ واحد، بدليل الحمل، وبعد الالتفات إلى أن الحركة إنما هي نحو الوجود. وإن العرض هو الموجود في موضوع وليس الموجود المستقل بذاته، فوجوده مستند إلى وجود الجوهر (الصور النوعية الجوهرية)، والجوهر هو المبدأ القريب لوجود الأعراض؛ وعليه فالذاتية للجوهر، والعرَض قائم بالجوهر، والجوهر قائم بذاته.
الإشكال الثالث
يُقال بأن ارتباط الأعراض المتغيرة بالمبدأ الثابت، سواء كان جوهرًا أو غيره يمكن أن يبين بكيفيةٍ أخرى.
كأن هناك محاولة لنفي البرهان السابق، الذي يقول: لمَّا كانت الأعراض متغيِّرة ومتجدِّدة، وكل متغيرٍ لا بد أن تكون علَّته متغيِّرة، وعلة الأعراض هي الجوهر، فلا بد أن تكون الجواهر متغيِّرة، وتغيُّرها بذاتها.
والمحاولة هذه تقول بأن الأعراض المتجددة المتغيرة لا تستند إلى الجواهر المتغيِّرة، بل الجوهر ثابتٌ لا تغيُّر فيه، والتغيُّر إنما يحصُل للأعراض بسببٍ آخر غير الجوهر، ومنشأ التغيُّر هو أمرٌ خارجي؛ لأن الحركات تارةً تكون طبيعية وأخرى قسرية، والطبيعية كسقوط شيء من الأعلى للأسفل، والقسرية كرمي الكرة نحو الأعلى، فهذه المحاولة تقول بأن التغيُّر في الأعراض غير ناشئ من التجدُّد في الجوهر، وإنما بسببٍ خارجي، من قبيل التجدُّد الحاصل بالحركات القَسْرية أو الطبيعية أو النفسانية.
جواب الإشكال
وقد أجاب المصنِّف على ذلك هكذا، يقول: ننقل الكلام على قولكم بأن التجدُّد في الحركات القَسْرية والطبيعية سببُها أحوالٌ معينة، أفهذه الإرادات في الحركات النفسانية، والمراتب في الحركات الطبيعية، والأحوال في الحركات القسرية متغيرة أم ثابتة؟
الجواب: لا بد أن تكون متغيرة؛ لأن علة المتغيِّر متغيِّرة متجدِّدة، فإذا كانت بذاتها متجددة ننتهي إلى أمرٍ متجدِّد بذاته؛ ففي الحركات الطبيعية ننتهي إلى أنها متحرِّكة بذاتها، وكذلك في الحركات النفسانية.
إذن دائمًا هذه الأحوال والإرادات والمراتب تنتهي إلى حركاتٍ طبيعية، والحركة الطبيعية ذاتية وليست ناشئة من سببٍ آخر.
وعليه فجميع الإشكالات على البرهان الأول للحركة الجوهرية منقوضة.
الدليل الثاني على الحركة الجوهرية
إن وجود الأعراض هو من شئون وجود الجوهر؛ فتجدُّد الأعراض وتغيُّرها علامة على تجدُّد وتغيُّر الجوهر؛ لأن وجود الأعراض طورٌ من أطوار وجود الجوهر، وقد تقدَّم في الفصل الثالث من المرحلة الثالثة، بأن العرض والجوهر متحدان وجودًا، فالموجود في الخارج شيء واحد، لكنه لما كان متحركًا حركةً جوهرية فهو في حالةٍ تطوريةٍ تكاملية، وليست الأعراض إلا نحوًا من الوجود التكاملي والتطوري للجوهر؛ أي إن وجود الأعراض ليس مستقلًّا عن وجود الجوهر.
وعلى هذا الأساس فإذا كانت الأعراض متجددة، فلا بد أن يكون الجوهر متجددًا ومتغيرًا.
النتائج المتفرِّعة على القول بالحركة الجوهرية
يتفرَّع على القول بالحركة الجوهرية عدة نتائج يذكر المصنف هنا ثلاثًا منها، وهي:
(١) وحدة الصور الجوهرية الواردة على المادة
كان يقول المشَّاءون بأن الصور الواردة مختلفة ومتعدِّدة؛ فالمادة كانت متلبسة بالصورة الترابية ثم خلعَتها وتلبَّسَت بصورةٍ أخرى.
أما على القول بالحركة الجوهرية فليس هناك خلع ولبس، وإنما هناك لبس بعد لبس، أي إن الصور الواردة على المادة واحدة، الصور الطبيعية المتبدلة على المادة صورةٌ واحدة، ولكنها صورةٌ واحدة تدريجية سيَّالة. وهذه النتيجة تتم على أساس ما يلي:
- أولًا: بناءً على القول بالحركة الجوهرية.
- ثانيًا: بناءً على القول بأن الحركة أمرٌ واحدٌ متصل يتحقق بالتدريج، وأن انقسام الحركة إنما يكون بالقوة لا بالفعل.
- ثالثًا: أن معنى الحركة في كل مقولة، أنه في كل آنٍ يرِد على المتحرك نوعٌ من أنواع المقولة؛ فمعنى الحركة في مقولة الأين أنه يرِد على المتحرك نوعٌ من أنواع مقولة الأين.
- رابعًا: أنه في الحركة الجوهرية الصورُ الجوهرية المتعاقبة هي عين الحركة، والحركة نحو وجود هذه الصور.
ونذكُر مثالًا لتقريب الفكرة، وإن كانت هذه الأمثلة لا تنطبق تمامًا، ولكن لتقريب الفكرة؛ فلو كان لدينا حبلٌ طوله عشرة أمتار، المتر الأول لونه أحمر، الثاني أخضر، الثالث أسود، الرابع أبيض، وهكذا لكل مترٍ لونٌ خاص، فهذا الحبل واحد، ولكن من كل مترٍ ننتزع ماهيةً ولونًا مغايرًا للمتر الثاني. إذن الصور الطبيعية الجوهرية المتبدلة واحدةٌ متدرِّجة سيَّالة، ويُنتزع من كل حدٍّ من حدودها مفهومٌ مغاير لما يُنتزع من غيره، مغايرة بالشخص أو بالنوع.
(٢) أن الجوهر المتحرك بأعراضه يكون متحركًا بعموم هذه الأعراض
لما كان العرَض من مراتب وجود الجوهر، ووجود العرض قائم بالجوهر وتابع له، على هذا الأساس، يمكن أن يكون الجوهر متغيرًا والعرض ثابتًا.
نذكر لذلك مثالًا: افترِض أنك كنتَ نائمًا في باخرة، فأنت في حركة تبعًا لحركة الباخرة، وعلى هذا الأساس نقول بحركة الأعراض تبعًا لحركة الجوهر.
هذه حالة، والحالة الثانية، افترِض أنكَ كنتَ تلعب كرة السلة في الباخرة المتحركة، فأنت تتحرك وكذلك الباخرة تتحرك، فأنت في حركتَين، حركتك أثناء لعب الكرة وحركتك تبعًا لحركة الباخرة؛ أي هناك حركتان، وبتعبيرٍ آخر هنا حركة في الحركة. والحركة في الحركة من إبداعات الطباطبائي.
والحركة في العرض، كما في لون التفاحة؛ فإنه مرة يتحرَّك العرض تبعًا لحركة الجوهر، وأخرى هو يتحرَّك باعتبار تغيُّره من لون إلى لون، فهذه حركة في الحركة.
إذن جميع الأعراض تتحرك تبعًا لحركة الجوهر.
(٣) أن عالم المادة، أي العالم الجسماني، بمجموعه عبارة عن حقيقةٍ واحدة متجدِّدة سيَّالة
أي إن مَثَلَهُ مَثَلُ القافلة؛ فلو لاحظتَ من بعيدٍ قافلةً من مجموعة جمال، أو لاحظتَ سرب طيورٍ مهاجرة ومنتظمة هندسيًّا، للاحظتَها كأنها قطعةٌ واحدة.
فعالم المادة بمجموعه يتحرك حركةً واحدة كالقافلة الواحدة. وهو في هذه الحركة يتحرَّر تدريجيًّا إلى أن يصل إلى الفعلية والتجرُّد التام.
والمراد بالوحدة في قوله: حقيقة واحدة سيَّالة، هي الوحدة بالعموم، بمعنى السعة الوجودية — ويُعبَّر عنها بالوحدة السعية — لا الوحدة الشخصية.