الفصل الثالث عشر

في الزمان

يُوجَد كلامٌ كثير حول الزمان عند القدماء وحتى في العلم الحديث في الفيزياء، خاصة نظرية أينشتاين في النسبية.

الآراء في تفسير حقيقة الزمان

الآراء في تفسير حقيقة الزمان كثيرة في التراث الفلسفي، وتدُل كثرتها على أهمية هذه المسألة، ونذكُر فيما يلي تسعة آراء بشكلٍ سريع في تفسير حقيقة الزمان، وهي:

  • (١)

    الزمان هو واجب الوجود.

  • (٢)

    الزمان هو جوهر مجرد.

  • (٣)

    الزمان هو جوهر جسماني؛ أي فلك من الأفلاك.

  • (٤)

    الزمان هو مقدار الوجود.

  • (٥)

    الزمان هو مقدار حركة الفلك الأقصر.

  • (٦)

    الزمان هو مقدار الحركة مطلقًا.

  • (٧)

    الزمان مُنتزَع من ذات الباري.

  • (٨)

    الزمان أمرٌ موهوم وخيالي؛ أي لا حقيقة له.

  • (٩)

    الزمان هو كَمٌّ متصلٌ غيرُ قارٍّ يعرض على الجسم بواسطة الحركة، وهذا هو الرأي المشهور بين الفلاسفة الإسلاميين.

وقد ذكرنا سابقًا بأن الكم أحد المقولات العرضية التسع، وهو ينقسم إلى: متصل ومنفصل، والمنفصل هو العدد، والمتصل ينقسم إلى: قارٍّ وغير قار، وغير القارِّ هو الزمان، أما الكَمُّ المتصلُ القارُّ فهو الخط والسطح والجسم التعليمي.

فالزمان ماهيةٌ مندرجة تحت مقولة الكَم، وهو كمٌّ متصلٌ غيرُ قارٍّ، إذن الزمان كمِّيةٌ وامتدادٌ معيَّن، والذي يعيِّنه الزمان هو امتداد الحركة.

الدليل على أن الزمان كمٌّ متصلٌ غيرُ قارٍّ

الدليل يمكن بيانه عبْر نقاط:

  • الأولى: أن الحوادث التي تقع تحت الحركة، كالمشي، والكلام، واللون، فإنها كلها تندرج تحت الحركة، والحوادث المندرجة تحت الحركة تقبل الانقسام؛ فالمشي ينقسم إلى خطوات، والكلام ينقسم إلى: ألفاظ، وهكذا.
  • الثانية: هذه الأجزاء والأقسام المفترضة للحوادث الواقعة تحت الحركة ليست مجتمعةً في فعلية الوجود؛ لأن الوجود الفعلي لكل جزء يتوقَّف على زوال الجزء السابق، فوجود كل خطوة في المشي يتوقَّف على تصرُّم وانقضاء الخطوة السابقة.
  • الثالثة: لو أخذنا كل خطوة وكل جزء فسوف نجدها قابلةً للانقسام في نفسها إلى قطعتَين، وهاتان القطعتان لا تجتمعان معًا؛ لأن الوجود الفعلي للجزء الثاني متوقِّف على تصرُّم وزوال الجزء الأول، لو أخذناه لوجدناه ينقسم إلى قسمَين لا يجتمعان معًا، وهكذا.

إذن القسمة لن تقف عند حد؛ لأن وجود القطعة اللاحقة منوطٌ بزوال القطعة السابقة. والنتيجة هي كيف يتحقَّق هذا الانقسام للحركة أو للحوادث الواقعة تحت الحركة؟

الجواب: يتحقق هذا الانقسام بعروض كميةٍ ومقدارٍ معيَّن، وهذا المقدار وهذه الكمية التي تحدِّد امتداد الحركة هي الزمان؛ لذلك نقول إنما يتحقق هذا الانقسام بعروض كمٍّ متصلٍ غيرِ قارٍّ يعرض للحركة، ويتعيَّن به امتداد الحركة، وهذا هو الزمان.

قد يُقال: لِمَ لا يكفي في قبول الانقسام امتداد الحركة، الذي هو امتدادٌ مبهَم؟

الجواب: المبهَم لا وجود له في الخارج، وإنما يُوجَد إذا تعيَّن، وتعيُّنه بالزمان.

العلاقة بين الحركة والزمان

إن الزمان هو الذي يعيِّن ويقدِّر امتداد الحركة، ويعرض على الجسم بواسطة الحركة. والحركة هي نحو وجود تدريجي للشي‏ء يخرج به الشي‏ء من القوة إلى الفعل بالتدريج؛ أي هي نحو وجودٍ متصلٍ غيرِ قارٍّ، لكنها لا يمكن أن تكون هي الزمان، مع أن الزمان هو أيضًا وجودٌ متصلٌ غيرُ قارٍّ؛ لأن امتداد الحركة مبهَم غير معيَّن، بينما امتداد الزمان غير مبهَم ومعيَّن. إذن العلاقة بين الحركة والزمان كالعلاقة ين الجسم الطبيعي المبهَم والجسم التعليمي المحدَّد والمعيَّن، وكما أن مقدار امتداد الجسم الطبيعي يحدِّده الجسم التعليمي الذي يعرض عليه، كذلك امتداد الحركة فإنه مبهَم وغير محدَّد، والزمان هو الذي يحدِّد هذا الامتداد؛ فالحركة نظير الجسم الطبيعي، والزمان نظير الجسم التعليمي.

الزمان من العوارض التحليلية للجسم

بما أن الزمان يعرض على الحركة، والحركة مفهومٌ ثانٍ فلسفي، فهي مفهوم مُنتزَع من وجود الشي‏ء، ولا وجودَ مستقلًّا لها، فالزمان كذلك أيضًا في عروضه على موضوعه، فإنه ليس من قبيل عروض الحرارة والسواد والحلاوة على موضوعاتها، وإنما هو أمرٌ مُنتزَع؛ فوجوده عين وجود الأشياء، بل لا عارض ولا معروض، وإنما الزمان من العوارض التحليلية الانتزاعية للجسم.

الزمان بُعدٌ رابع للجسم

كما أن للجسم ثلاثة أبعاد: «طول، وعرض، وارتفاع»، ولا يمكن تجريد أي جسمٍ منها، كذلك للأجسام بُعدٌ رابع بناءً على نظرية الحركة الجوهرية هو الزمان؛ أي لا يمكن سلب الزمان عن الموجودات الماديَّة؛ لأن حقيقة هذه الموجودات المادية في حركة وصيرورة؛ أي إنها حقيقةٌ سيَّالة، ووجودها نحو وجودٍ تدريجي وليس وجودًا ساكنًا، بناءً على القول بالحركة الجوهرية.

فوجود هذه الأشياء نحو وجودٍ تدريجيٍّ متحرِّك سيَّال، وكلما كانت هناك حركة فإن هناك زمانًا؛ لأن الزمان يعرض على الجسم بواسطة الحركة، فانفكاك الزمان عن الأجسام مُحال؛ لأنه بمنزلة انفكاك الشي‏ء عن ذاته.

وبكلمةٍ أخرى إن الظرف والمظروف هنا أمرٌ واحد؛ فطالما كانت الحركة هي ذات الجوهر، والحركة والمتحرك أمر واحد، والزمان هو الذي يعين امتداد الحركة، وهو عارض على الجسم بواسطة الحركة، فلا يمكن تجريد أي جسم من الزمان.

البرهان بالزمان على الحركة الجوهرية

هناك نكتة في المقام، وهي أنه يمكن البرهنة على الحركة الجوهرية بواسطة الزمان، وذلك وفق ما يلي:

  • أولًا: كل موجودٍ مادي له زمان؛ لأنه بُعدٌ رابع للأجسام.
  • ثانيًا: كل موجود له بُعد زماني تدريجي الوجود؛ لأن الزمان يعرض على الأجسام بواسطة الحركة، فكل جسمٍ له بُعد زماني يعني أنه متحرك؛ وبالتالي فهو تدريجي‏ الوجود.

إذن وجود الجوهر المادي تدريجي الوجود؛ أي إنه متحرك بذاته، وهذا هو معنى الحركة الجوهرية.

نتائج البحث

ذكر المصنِّف أنه يتبيَّن مما تقدم جملة نتائج، هي:

  • الأولى: أن لكل حركة زمانًا خاصًّا بالحركة هو مقدارها؛ فحركة السيارة بين مدينتَين، أو حركة النبات ونمُوه، أو حركتك ماشيًا، أو كلامنا، لكل حركة من تلك الحركات زمانٌ خاص بها، هو مقدارها وكمِّيتها التي تحدِّد امتدادها؛ فكما أن لكل جسمٍ طولًا وعرضًا وارتفاعًا؛ أي حجمًا خاصًّا به، كذلك لكل متحرك ولكل حركة زمانٌ خاص بها؛ لأن الزمان بُعدٌ رابع للأجسام المتحركة؛ ولهذا تتعدد الأزمنة الخاصة بعدد حركات الأجسام المادية الموجودة في العالم.

    فلو فرضنا أن عندنا مليار جسم متحرك، فإن هناك مليار زمان؛ لأن لكل حركة زمانًا خاصًّا بها. ولكن دأب الناس على قياس الحركات الخاصة بالزمان العام؛ ولذلك قالوا بأن السيارة تقطع المسافة بين طهران وقم بساعتَين؛ لأن الزمان العام، وهو الدقائق والساعات والأيام والشهور والسنون معروف عند الناس؛ ولذا جعلوه مقياسًا عامًّا لتقدير الحركات، وإلا ففي الواقع أن لكل حركة زمانًا خاصًّا. وبناءً على الحركة الجوهرية، فإن زمان الحركة الجوهرية، يتقدَّر به زمان الحوادث الزمانية.

  • الثانية: أن التقدُّم والتأخُّر بين أجزاء الزمان ذاتيان؛ أي إن الساعة الرابعة تتوقف فعليتها على زوال الساعة الثالثة، بل الدقيقة الثانية تتوقف فعليتها على زوال الدقيقة الأولى.

    فلو لم تنقَضِ الدقيقة الثانية لما أتت الدقيقة الثالثة؛ لأن الزمان كمٌّ متصلٌ متدرجٌ سيَّالٌ غيرُ قارٍّ، لا تجتمع أجزاؤه؛ ولهذا يكون التقدم والتأخر بين أجزائه ذاتيًّا.

  • الثالثة: الآن وهو طرف الزمان ليس زمانًا، وهو أمرٌ عدمي، الآن في مصطلح الفلاسفة غيره لدى العرف؛ ففي المصطلح العُرفي قد يساوي ثانية، وهي جزء من الزمان، أما في المصطلح الفلسفي فهو أمرٌ عدمي.

    لذلك فنسبة الآن للزمان كنسبة النقطة للخط، الآن أمرٌ يفصل بين الساعة الواحدة والساعة الثانية، وهو وجودٌ فرضي كالنقطة، وليس وجودًا حقيقيًّا خارجيًّا، فهو أمرٌ اعتباريٌّ فرضي لا وجود له في الخارج؛ ولذلك فهو أمرٌ عدمي.

  • الرابعة: أن تتالي الآنات والآنيات — التي تقع في الآن — مُحال، بناءً على أن الآن أمرٌ عدمي.

    إذ طالما أن الآن أمرٌ عدمي، فهو صفر، فإذا أضيف صفر إلى صفر إلى صفر إلى ما لا نهاية فلا يتحقق أمرٌ وجودي؛ فالآن هو طرف الزمان، والزمان ليس له أكثر من طرف؛ ولهذا فلا يكون للزمان طرفان أو ابتداءان؛ فالآنات لا تَتَتالى، وكذلك الآنيات.

  • الخامسة: أن الزمان لا أول له ولا آخر له. بمعنى أنه كما قلنا سابقًا في أن الحركة ليس لها أولٌ وآخر من سنخ الحركة؛ أي لا مبدأ ولا منتهى لها من سنخها، فبداية الحركة قوةٌ محضة ونهايتها فعليةٌ محضة، فالمبدأ والمنتهى كلاهما خارج عن الحركة؛ لأن الحركة هي امتزاج القوة بالفعل، كذلك الزمان فهو تدريجي لا أول له ولا آخر، وهو غير قابل للانقسام، وإلا لزم التناقض.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥