في تقسيم التغيُّر
هذا الفصل كالسابق يمهِّد للحركة وبحثها، وهذا البحث يبتني على البحث السابق؛ فقد تبيَّن أن خروج الشيء من القوة إلى الفعل ينجم عنه تغيُّر؛ حيثُ تقدَّم فيما سبق أن الحوادث الزمانية وجودها يلازم التغيُّر دائمًا، وهذا التغيُّر إمَّا أن يكون في الجوهر إذا تغيَّر من صورة إلى أخرى، أو يكون التغيُّر في الأحوال إذا كان عرضًا؛ فمثلًا إذا تحولَت الورقة إلى رماد أو تراب، فهذا تغيُّر في الجوهر، وربما يحصل التغيُّر في الأعراض كتغيُّر لون الورقة من الأبيض إلى الأسود.
التغيُّر التدريجي والدفعي
وهذا التغيُّر إما أن يكون تغيُّرًا تدريجيًّا أو تغيُّرًا دفعيًّا. والمقصود بالتغيُّر التدريجي هو ما يقابل التغيُّر الدفعي، وهو الحركة، بينما التغيُّر الدفعي ليس بحركة، كالوصول والترك، والاتصال والانفصال.
وعليه كل تغيُّر تدريجي فهو حركة؛ ولهذا عُرِّفَت الحركة بأنها نحوٌ من أنحاء الوجود التدريجي للشيء. وعلى هذا الأساس قيل إن بحث الحركة يجب أن يكون ضمن الإلهيات لا ضمن مبحث الطبيعيات؛ لأنها من أحوال الموجود من حيثُ هو موجود؛ ولهذا نقل صدر المتألهين بحث الحركة إلى الإلهيات؛ أي إن الحركة من جهة كونها من أنحاء الوجود، فهي تندرج في الفلسفة الأولى، وأما من جهة كونها من أحوال الجسم الطبيعي فيُبحث عنها في طبيعيات الفلسفة.
وببيانٍ آخر: إن التغيُّر ينقسم إلى قسمَين؛ تغيُّر دفعي وتغيُّر تدريجي، والدفعي هو الذي يقع في أطراف الزمان؛ أي في الآن. وللآن معنيان: الأول عند العُرف، فنحن نقول الآن، ونقصد زمانًا معيَّنًا. لكن الآن في مصطلح الفلسفة لا يعني وقتًا معيَّنًا، بل هو أمرٌ خارج الزمان؛ فهو كالنقطة بالنسبة للخط، التي هي خارجة عنه؛ لأنها حد والحد خارج عن المحدد، فالآن أمرٌ عدمي، لكنه يمكن أن يشمَّ منه رائحة الوجود؛ لأنه حد للوجود؛ فالتغيُّر الدفعي هو الذي لا يقع في الزمان، بل في طرف الزمان الذي هو الآن، بينما التغيُّر التدريجي هو الذي يكون له امتدادٌ زماني؛ أي يكون واقعًا في زمانٍ معيَّن، والتغيُّر التدريجي هو الحركة.
إشكال
إذا قلنا بأن الحركة هي تغيُّر تدريجي، ومعنى التدريج كون الشيء في زمانٍ معيَّن في محلٍّ غير الآخر، والزمان والحركة متحدان ذاتًا مختلفان اعتبارًا، كالجسم الطبيعي والتعليمي، فالجسم التعليمي يعيِّن امتداد الجسم الطبيعي. وإذا لاحظنا هذا التغيُّر التدريجي، الذي هو مقدار للحركة يكون زمانًا؛ لأن الزمان هو مقدار امتداد الحركة.
ومن هنا إذا عرَّفنا الحركة بأنها نحو وجودٍ تدريجي للشيء، فهذا يعني أن معرفة الحركة تعتمد على التدريج، والتدريج يعتمد على الزمان، والزمان يعتمد على الحركة، وبالتالي يلزم من هذا التعريف الدَّور.
جواب الإشكال
لكن الصحيح أنه لا يلزم دور؛ لأن التدريج معنًى بديهي التصور، فلا يعتمد فهمه على شيءٍ آخر، بل المعنى النظري هو الذي يتوقف فهمه على غيره.