الفصل الثالث

في تحديد الحركة

حد الحركة أو تعريفها

الحركة هي خروج الشي‏ء من القوة إلى الفعل تدريجًا. أو تغيُّر الشي‏ء تدريجًا.

ومن المعلوم أن المفاهيم تنقسم إلى قسمَين؛ مفاهيم ماهوية، ومفاهيم غير ماهوية. أو المعقولات تنقسم إلى: معقولٍ أوَّلي ماهوي، ومعقولٍ ثانوي غير ماهوي.

والمعقولات الماهوية فقط هي التي يمكن تعريفها تعريفًا حقيقيًّا؛ لأن التعريف للماهيَّة وبالماهيَّة؛ إذ نعرِّف ماهية بماهيَّة، والحركة نحو وجودٍ تدريجي للشي‏ء، فهي ليست أمرًا ماهويًّا وإنما هي أمرٌ وجودي، فلا تعريف حقيقيًّا للحركة؛ لأنها من المعقولات الثانية الفلسفية، فلا حد حقيقيًّا لها.

ولكن عُرِّفَت الحركة بعدة تعاريف؛ فقد قيل: هي خروج الشي‏ء من القوة إلى الفعل تدريجًا، وقيل: هي تغيُّر الشي‏ء تدريجًا؛ أي صيرورته شيئًا آخر.

والتدريج المأخوذ في تعريف الحركة مفهومٌ بديهي التصور؛ ولذلك لا يرِد ما قيل من الدور على تعريف الحركة؛ حيث قيل في تصوير الدور: إن التدريج هو وقوع الشيء في آنٍ بعد آن، والآن هو طرف الزمان، والزمان مقدار الحركة، فيلزم الدَّور.

تعريف أرسطو للحركة

وعرَّفها أرسطو: بأنها كمالٌ أول لما بالقوة من حيثُ إنه بالقوة.

لاحظ أنه قد أخذ في تعريف الحركة، القوة، الفعل، التغيُّر، التدريج، الشي‏ء.

والقوة والفعل قد بيَّنَّاهما فيما سبق، والتغيُّر والتدريج كما قال المصنِّف في الفصل السابق أمرٌ بديهي، والشي‏ء كذلك أمرٌ بديهي؛ ولذلك فتعريف الحركة يكون واضحًا.

أمَّا مصطلح الكمال في تعريف أرسطو للحركة فالمقصود به هو الفعلية. وللكمال معنًى آخر في الفلسفة، فيُطلَق الكمال الأول على الصور النوعية، كالترابية، والنارية، والفرسية … إلخ. بينما يُطلَق الكمال الثاني على الأعراض، كالبياض، والقعود، والعلم … إلخ؛ فالكمال الأول هو وجود الشي‏ء، والكمال الثاني هو أحوال الشي‏ء وصفاته.

ولكن الكمال الأول في التعريف الأرسطي ليس هو هذا المعنى للكمال، بل هو الفعلية؛ فعندما تطير حمامة من مكان إلى آخر، فطيرانها هذا هو كمال أول بالفعل، والكمال الثاني لها هو وصولها إلى المكان الثاني بالفعل.

معنى قيد الحيثية في تعريف المعلم الأول

عندما يأخذ أرسطو قيد الحيثية في تعريف الحركة، الذي قال فيه بأنها: «كمال أول لما بالقوة — بالنسبة إلى الكمالَين — من حيثُ إنه بالقوة — بالنسبة إلى الكمال الثاني —» فإنه يعني بقيد «من حيثُ» الاحتراز عن الصور النوعية للموجود المتحرك، لأن لكل موجود بالقوة صورةً نوعية هي كمالٌ أول له، لكن هذا الكمال الأول من جهة ما له من فعلية وليس من جهة ما له من قوة، ولا علاقة له بالحركة. أما كون الحركة كمالًا للجسم فهو بلحاظ ما له من قوة، وأما أنه أول فهو بلحاظ مقدميَّته للوصول إلى الغاية.

وبعبارةٍ أخرى احترز بهذا القيد عن الصورة النوعية؛ فإنها كمال أول للمتحرك الذي لم يصل إلى المقصود، كالحجر المتحرك، ولكن ليست كماليتها من حيث هو بالقوة؛ لأن الكمال الذي يتعلق به من حيث القوة لا بد أن يطرد القوة، وهي كانت حاصلةً له في أول الحركة، أو كان بالقوة بعدُ، وإذا خرج عن القوة لم يخرج بها بل بالحركة، وهذا بخلاف الحركة فإنها متعلقة بأن يبقى منها شيء بالقوة، بل كل شيء يفرض منها أمر بين صرافة القوة ومحوضة الفعل، وبألَّا يكون ما إليه الحركة حاصلًا بالفعل، بل هو أيضًا يكون بالقوة، وإلَّا لم تتحقق الحركة بالفعل.١
ولا يخفى عليك أن الكمال الأول والثاني يستعملان في موردَين، والصورة النوعية كمالٌ أول بأحد المعنيَين، والحركة كمالٌ أول بالمعنى الآخر.٢
أما قول المصنِّف: فإذا شرع في السلوك فقد تحقَّق له كمالٌ أول لكن لا مطلقًا، فإنه يعني أن المتحرِّك إذا شرع في الحركة فقد تحقَّق له كمالٌ أول؛ أي ليس الحركة هي الكمال الأول مطلقًا؛ لأن الكمال الأول يشمل الصورة النوعية أيضًا؛ فإنها كمالٌ أول والأعراض كمالٌ ثانٍ، بل الحركة هي الكمال الأول من حيث إنه بالقوة إلى الكمال الثاني.٣

شروط تحقُّق الحركة

لكي تتحقق الحركة لا بد من ستة أمور، سنشرح كلَّ واحدٍ منها في الفصول الآتية، ولكن نذكُرها هنا بإيجاز، هي:

  • (١)

    المبدأ، الذي تبدأ منه الحركة.

  • (٢)

    المنتهى، الذي تنتهي إليه الحركة.

  • (٣)

    الموضوع؛ أي موضوع الحركة، وهو الأمر المادي الذي يتلبَّس بالحركة.

  • (٤)

    الفاعل، وهو المحرِّك الذي يُوجِد الحركة.

  • (٥)

    المسافة، التي يقطعها المتحرِّك بالحركة، أو هي المقولة التي تقع فيها الحركة.

  • (٦)

    الزمان، وهو الامتداد الكمِّي الذي يتعيَّن به مقدار الحركة.

١  «شرح المنظومة»، ص٢٣٩.
٢  «شرح المنظومة»، ص٢٣٩.
٣  «نهاية الحكمة»، المرحلة ٩، الفصل الثالث، ص٣٧٩.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥