في فاعل الحركة وهو المحرِّك
يتحدَّث المصنِّف عن الركن الثالث من أركان الحركة، وهو فاعل الحركة؛ أي المحرك، وهذا المبحث يُعتبر من المباحث المهمة في فلسفة أرسطو؛ لأن برهان الحركة في إثبات الخالق يستند إلى هذه المسألة. والبحث هنا في نقطتَين:
- الأولى: في بيان أن المحرِّك غير المتحرك.
- الثانية: في بيان أن الفاعل القريب للحركة هو أمرٌ متغيِّر وليس ثابتًا.
المحرِّك غير المتحرِّك
إن المحرِّك شيء والمتحرِّك شيءٌ آخر. والمصنِّف استدل على هذه المسألة بدليلَين:
-
الأول: أن المتحرك لو كان هو الذي يحقِّق ويُوجِد
الحركة في نفسه، لعنَى ذلك أن هذا الشيء يكون
علَّة ومعلولًا؛ أي فاعلًا وقابلًا من جهةٍ
واحدة. طبعًا لا مانع من كون شيء واحد علَّة
ومعلولًا من جهتَين؛ فلو كان المتحرك هو
المحرِّك لكان علة ومعلولًا، وفاعلًا وقابلًا
من جهةٍ واحدة، وهذا غير ممكن؛ لأن حيثية
الفاعل حيثية الوجدان، وحيثية القبول هي حيثية
الفقدان؛ فالخشب فيه حيثية لقبول صورة الورقة،
فحيثية القبول هذه هي حيثية فقدان؛ إذ هو فاقد
الصورة الورقية الآن، بينما حيثية الفعلية هي
حيثية الوجدان، كالورقة بالفعل فهي واجدةٌ
لصورة الورقية.
وحيثية الوجدان غير حيثية الفقدان؛ فلا يمكن لشيءٍ واحد من جهةٍ واحدة أن يكون واجدًا وفاقدًا؛ لأنه يلزم من ذلك اجتماع المتقابلَين الملكة والعدم.
وخلاصة الدليل الأول على أن المحرِّك غير المتحرِّك، أنه لو كان المحرِّك عين المتحرِّك للزم من ذلك أن يكون شيئًا واحدًا فاعلًا وقابلًا من جهةٍ واحدة، ولا يمكن لشيءٍ واحد أن يكون من جهةٍ واحدة فاقدًا وواجدًا؛ لأنه يلزم من ذلك اجتماع العدم والملكة، واجتماعهما مُحال.
-
الثاني: أن المحرك هو فاعل الحركة في المتحرك؛ لأن
المتحرك إنما يكون بالقوة بالنسبة للفعل الذي
يفعله، كالنطفة فهي بالقوة بالنسبة للإنسانية؛
لأن فيها إمكان الإنسانية، النطفة فاقدة
للإنسانية، وإنما فيها إمكان الإنسانية؛ أي
إنه بالفعل غير موجود، وفاقد الشيء لا يعطيه
ولا يُوجِده، فلا يمكن أن تكون النطفة هي
المُوجِدة للإنسانية.
بل لكي تتحرك النطفة وتعطي الإنسانية لا بد من محرِّك يحرِّكها من حالة إنسان بالقوة إلى حالة إنسان بالفعل؛ لأن ما بالقوة لا يفيد فعلًا، باعتباره أضعف مما بالفعل، والعلة لا بد أن تكونَ أقوى من معلولها.
الفاعل القريب للحركة أمرٌ متغير
هنا نشير إلى نقطةٍ مهمة؛ فقد أوضحنا في مباحث العلة والمعلول أن الفاعل ينقسم إلى قسمَين؛ الفاعل الطبيعي والفاعل الإلهي، والطبيعي هو العِلَل الطبيعية، والإلهي هو الباري، والمجرَّدات كما قالوا.
والفاعل الإلهي هو الذي يفيض وجود الشيء، أما العلل الطبيعية فلا تُوجِد الشيء بل تغيِّر حالة الشيء من حالةٍ إلى أخرى؛ ولذلك تختص بالأمور الطبيعية.
وهنا يُقال: إن العلة القريبة أو الفاعل القريب؛ أي العلة الطبيعية، لا بد أن تكون متغيرة فلو لم يكن الفاعل القريب متجددًا ومتغيرًا للَزِم من ذلك انقلاب الحركة إلى السكون؛ لأن العلة التامة إذا وُجدَت لزم وجود المعلول بتمامه؛ أي بتمام أجزائِه، والحركة غير قارَّة؛ أي إن أجزاءها غير مجتمعة الوجود، فإذا قلنا بأن علة الحركة ثابتة، يعني ذلك أن تكون الحركة موجودةً بتمام أجزائها، وعندها تنقلب الحركة إلى سكون. فلا بد أن يكون الفاعل القريب للحركة متحركًا ومتغيرًا، وإلَّا تحوَّلَت الحركة إلى سكون.
وبعبارةٍ أخرى لو لم يكن فاعل الحركة متغيرًا متجدِّد الذات؛ أي لو كان أمرًا ثابتًا لزم وقوع جميع الحركة — جميع أجزاء الحركة المفروضة — دفعةً واحدة، ولزم أيضًا وجوب بقاء الأجزاء السابقة وعدم زوالها، فلم تكن الحركة حركة، فوجب كون الفاعل القريب للحركة أمرًا تدريجيًّا، حتى يكون تحقُّق كل مرتبة منه سببًا لتحقُّق المرتبة المقارنة لها من الحركة.