في ارتباط المتغير بالثابت
إشكال
بناءً على القول بأن الفاعل القريب للحركة يجب أن يكون متغيرًا ومتجدد الذات، ينبثق إشكال وملخَّصه: أن هذه قاعدةٌ عقلية — وهي أن فاعل الحركة يجب أن يكون متغيرًا — والقواعد العقلية آبيةٌ عن التخصيص، فإذا كانت علة المتغيِّر متغيِّرة والعلة الأخرى والثالثة والرابعة لا بد أن تكون متغيرة، فيقع التسلسُل في العِلل المتغيرة إلى ما لا نهاية، والتسلسل محال، أو يحصل دَور وهو مُحال أيضًا، أو يُقال بأن علة الطبيعة المتغيرة، علتها أيضًا متغيرة إلى أن تنتهي إلى الواجب تعالى فيلزم تغيُّره، بينما الواجب تعالى منزَّه عن التجدُّد والتغيُّر.
إذن فيلزم من القول بأن علة المتغير متغيِّرة أحد ثلاثة لوازم كلها محالة.
جواب الإشكال
المصنِّف أجاب عن ذلك في ضوء مدرسة الحكمة المتعالية. والجواب على ذلك بسيط، وقبل الجواب نستذكر مسألةً أشرنا إليها أكثر من مرة فيما سبق، وهي: أن «كان» تارةً تكون تامة وأخرى ناقصة؛ أي الثبوت مرَّة يكون ثبوت الشيء، وهو مفاد كان التامة، ومرَّة يكون الثبوت ثبوت شيء لشيء، وهو مفاد كان الناقصة؛ فمرةً نقول: «كان زيد»؛ أي نُثبِت وجود زيد، ومرةً نقول: «كان زيد قائمًا»؛ أي نُثبِت القيام لزيد.
وارتباط المتغير بالثابت يكون مستندًا إلى علةٍ ثابتة تُوجِد هذا الأمر المتغير، وبعبارةٍ أخرى إن المتغير ينقسم إلى قسمَين؛ مرة المتغير أعراضٌ متغيرة، وأخرى جواهر متغيرة، فهذه الأعراض المتغيرة تستند في تغيرها إلى علةٍ متغيرة هي الجوهر المتغير أو المتجدد أو المتحرك، والجوهر المتحرك لا يستند تغيُّره إلى علةٍ متغيرة بل هو متغيِّر بذاته؛ أي إن الذي أوجد الجوهر لم يُوجِد الجوهر ثم يُوجِد له التغيُّر والحركة، وإنما أوجد الجوهر المتحرك بذاته؛ لأن الجوهر هو الحركة والحركة هي الجوهر، فالجوهر حقيقةٌ سيَّالة في حالة صيرورة، كما سيأتي.
وهذا جعلٌ بسيط. يقول ابن سينا: ما جعل الله المشمش مشمشًا، وإنما أوجده؛ أي أوجد ذات المشمش. كما أوجد ذات الإنسان فوُجدَت الحيوانية والناطقية، أوجد ذات الجوهر فوُجدَت الحركة.
وبعبارةٍ أخرى إن التجدد والتغير ينتهي إلى جوهرٍ متحرك بجوهره؛ أي في ذاته، فإن المادي ذاتيته هي النقص وعدم استيفاء جميع كمالاته في آنٍ واحد، وإن الموجود المادي سيَّال متقضٍّ في ذاته، فهو تدريجي الوجود وليس له وجودٌ قارٌّ؛ ولذلك إنما يتلبَّس بما يمكن له من الكمالات متدرجًا ولا يمكنه التلبُّس بها مجتمعة.
فيصح استناده إلى علةٍ ثابتة تُوجِد ذاته؛ لأن إيجاد ذاته عين إيجاد تجدُّده، فالخالق إنما خلق الجوهر المادي فقط، وأعطاه الوجود والتجدُّد ذاتي له، ولم يُعطِه إياه الفاعل، فإن «الذاتي لا يُعلل» كما سيصرِّح بذلك في الفصلِ الحاديَ عشر.