الفصل الأول

في تعريف العلم وانقسامه الأوَّلي

تعريف العلم

إن وجود العلم لدينا وتصديقنا به أمرٌ بديهي، كما أن مفهوم العلم وتصوُّرنا له من الأمور البديهية، والأمر البديهي مستغنٍ عن التعريف؛ أي إن علم الإنسان بأنه عالم وجداني بديهي، وتصديقه بذلك ضروري.

أقسام العلم الأولية

ينقسم العلم إلى قسمَين رئيسيَّين، هما:

الأول: العلم الحصولي

ذكرنا في بحث الوجود الذهني أن الإنسان يعلم بالأمور الخارجية، يعني أن لديه علمًا بالجملة بالأمور الخارجة عنه؛ أي لديه معرفة بأن هناك أشياء موجودة في الخارج، وهذه الأشياء الموجودة في الخارج حاضرة بماهيتها عنده وليس بوجودها الخارجي، وإلا لو كانت النار حاضرة بوجودها الخارجي لدى الإنسان لترتَّبَت عليها الآثار الخارجية ولكانت محرقةً للذهن.

إذن هي حاضرة بماهيتها، ومن دون أن تترتَّب عليها آثارها الخارجية، وهذا هو معنى العلم كما بحثناه في مرحلة الوجود الذهني، بمعنى حضور ماهيَّات الأشياء لدى الإنسان، وهو العلم الحصولي؛ أي إن الأمور حاصلة بماهيَّاتها لدى العالم؛ هذا هو النوع الأول من العلم.

الثاني: العلم الحضوري

أما النوع الثاني من العلم، فهو أن الإنسان يعلم بذاته، أنت تقول «أنا»، فهذه الأنا تعني علمك بنفسك، فلا تغفل عنها في أي حال من الأحوال، فأنت سواء كنت نائمًا أم مستيقظًا، منتبهًا أم غافلًا، في أي حال من الأحوال لديك علمٌ بنفسك، وهذا العلم بالأنا ناشئ من حضور نفسك لديك، يعني حضور نفسك لنفسك؛ فإن النفس حاضرة بنفسها وليس الحاضر ماهية النفس، ولا صورة ذهنية عن النفس ولا مفهوم النفس؛ لأن المفهوم الذي يحضر عادةً في الذهن، فإنه بأي كيفية من الكيفيات فرضنا هذا المفهوم فلا يأبى الصدق على كثيرين، فإن المفهوم الحاضر في الذهن كيفما فُرض، سواء كان مفهومًا كليًّا عقليًّا أو جزئيًّا محسوسًا أو متخيَّلًا، فهو لا يأبى الصدق على كثيرين، ويتشخَّص بالاتصال بالوجود الخارجي كما في العلم الإحساسي والخيالي؛ أي دائمًا المفاهيم الذهنية مهما أخذنا فيها من قيود، فإن فيها قابلية الانطباق على كثيرين، وإن كان تعدُّد القيود يضيِّق من قابلية الانطباق؛ لأن كل قيدٍ إضافي يمثِّل تقييدًا لدائرة انطباقها على المصاديق؛ أي إن مصاديقها تكون أقل من كل قيدٍ إضافي، ولكن مع تعدُّد وتنوُّع القيود فإن أي مفهوم من المفاهيم الذهنية بأي كيفيةٍ من الكيفيات فرضناه، فهو قابلٌ للانطباق على كثيرين، وهذه حقيقةٌ لا إشكال فيها.

إذا كانت المفاهيم الذهنية قابلةً للانطباق على كثيرين، فإن النفس غير قابلة للانطباق على غيرها، نفسك لا يشاركك فيها أحد. وهذا يعني أنه لو كان حضور نفسك لديك بمفهومها لكانت فيها قابلية الشركة والانطباق عليك وعلى غيرك، أما عدم قابليتها للشركة فيعني أنها أمرٌ مشخص، والتشخُّص علامة الوجود الخارجي، وعلى هذا الأساس يكون علم الإنسان بنفسه بنحو حضورها، يعني أن الوجود الخارجي عينَهُ حاضرٌ للنفس.

والوجود الخارجي للنفس هو الذي تترتَّب عليه الآثار الخارجية، بينما حضور مفهوم الكتاب في الذهن، إنما هو بنحو حضور الأشياء بماهيَّاتها التي لا تترتَّب عليها الآثار الخارجية؛ ولذلك تقبل الشركة مع غيرها.

إذن حضور نفس الإنسان للإنسان هو علمٌ، وهذا العلم يُسمَّى بالعلم الحضوري.

وبهذا يتبيَّن أن العلم ينقسم إلى قسمَين؛ حصولي وحضوري، وهذه القسمة ليست استقرائية لا يمنع العقل من حصول قسمٍ ثالثٍ لها، وإنما هي قسمةٌ عقليةٌ حاصرةٌ دائرة بين النفي والإثبات، فليس لها قسمٌ ثالث.

اتحاد العلم والعالم والمعلوم

لا إشكال في اتحاد العاقل والمعقول أو العالم والمعلوم في العلم الحضوري؛ لأن المعلوم هو عين العلم، أو قُل العلم عين المعلوم بالذات، ولما كان العلم ليس هو إلا حصول المعلوم، وحصول المعلوم هو حضوره، وحضور المعلوم هو وجوده، ووجوده هو نفسه، إذن يتحد العلم والمعلوم، فإذا حصل المعلوم للعالم يكون العالم أيضًا متحدًا مع ‏المعلوم.

إن اتحاد العلم مع المعلوم أو قُل العقل مع المعقول، إنما يعني إذا كان العالم والمعلوم واحدًا فالمعلوم والعالم أيضًا واحد؛ لأنه إذا حصل المعلوم لنا؛ أي إذا حصلَت في ذهنك صورة هذا الكتاب مثلًا، فحصولها لا يعني إلَّا اتحادك معها.

وبعبارةٍ أخرى إن النفس العالمة عندما يحصل لها المعلوم فلا يعني ذلك أنه كما يحصل العرض للجوهر؛ أي ينتقش ويرتسم بها المعلوم، كحصول البياض للورقة، وإنما يعني ذلك أن يكون المعلوم كمالًا أوليًّا للنفس، فتتسع النفس تبعًا لهذا المعلوم، ويكون المعلوم والنفس شيئًا واحدًا.

وهذا المعلوم الذي يحصل لدينا، إما أن يكون جوهرًا قائمًا بنفسه، أو أن يكون عرضًا قائمًا بغيره، فإن كان هذا المعلوم جوهرًا قائمًا بنفسه، كان وجوده لنفسه، وهو مع ذلك للعالم، فقد اتحد العالم مع نفسه، وإلَّا لزم كون شيءٍ واحدٍ لنفسه ولغيره، أي جوهرًا وعرضًا، وهو مُحال.

كما في علمنا بالكتاب فيكون وجود الكتاب لنفسه وللعالم وجودًا واحدًا، يعني يتحد العالم مع المعلوم؛ أي إنه في عالم الذهن ليس هناك وجودان وجود للنفس ووجود للكتاب، وإنما وجود النفس والكتاب واحد، كما أن وجود الشي‏ء الخارجي والخارج وجودٌ واحد؛ لأن معنى حصول صورة الكتاب للنفس هو اتساع وتمدُّد النفس، وليس كحصول البياض للورق؛ هذا إذا فرضنا أن ما حصل هو جوهر.

أما إذا فرضنا أن ما حصل في الذهن هو عرض من الأعراض؛ أي وجوده لغيره وليس وجوده لنفسه، فأيضًا ما يكون وجوده لغيره يكون متحدًا مع ذلك الغير، وما دام ذلك الغير متحدًا مع النفس، فيكون هو أيضًا متحدًا مع النفس؛ أي إذا كان المعلوم أمرًا وجوده لموضوعه، كطول الإنسان، والمفروض أنه موجود للعالم وهو النفس، فقد اتحد العالم وهو النفس مع موضوعه، وإلَّا فإذا كان العالم غير موضوعه، لزم كون عرضٍ واحدٍ حالًّا في موضوعَين، وهو مُحال.

العلم الحصولي علم حضوري في الحقيقة

العلم الحصولي يئول في حقيقته إلى علمٍ حضوري، فإن المعلوم في العلم الحصولي هو موجودٌ مجرد، وهذا الموجود المجرد يحضُر بنفسه وبوجوده الخارجي للنفس؛ ولذلك تعلم النفس به علمًا حضوريًّا.

وبعبارةٍ أخرى إن هذا الكتاب عندما تعلم به، فإن له وجودًا في عالم المثال، وله وجود في عالم العقل كما يقولون، فأنت مرةً تعلم بالكتاب الكلي فيحضُر في نفسك الكتاب الكلي الموجود في عالم العقل بنفسه، يعني‏ يحضر بوجوده الخارجي في نفسك وتتحد نفسك معه. ومرةً تعلم بالكتاب الجزئي فيحضر الكتاب الجزئي في عالم المثال؛ أيضًا بوجوده الخارجي بنفسه، وتتحد نفسك مع الوجود الخارجي للكتاب.

من هنا يئول علمك الحصولي بالكتاب إلى علمٍ حضوري. وعلى هذا الأساس يقول المصنِّف: إن العلم الحصولي اعتبارٌ يصطنعه العقل؛ لأنه في الواقع العقل يعلم بموجوداتٍ مجردة مثالية أو عقلية حاضرة بوجودها الخارجي لديه؛ فكما أن النفس حاضرة بوجودها الخارجي لنفسها، كذلك هذه الأشياء، لكن يُحاوِل العقل أن يطبِّق هذه الموجودات مع هذا الموجود الخارجي، فيتخيَّل أنها صورة لهذا الكتاب الخارجي، وإلا فهي في الواقع ليست صورة لهذا الكتاب الخارجي، وإنما هي حقيقةٌ مجردة وغير مادية، بينما هذا الكتاب الخارجي كتابٌ مادي.

تجرُّد العلم والعالم

إن العلم أمرٌ مجرد، كما أن المعلوم أمرٌ مجرد، والعالم أمرٌ مجرد. وبعبارةٍ أخرى إن المفهوم متعدد ولكن الحقيقة واحدة؛ فالعلم والعالم والمعلوم أمرٌ واحد؛ أي إن العلم إذا حصل للعالم فيكون حصوله في كيفيةٍ معينة، يعني لا يكون حصوله كيفما اتفق وإنما يكون حصوله من نوع حصول المجرَّد عن المادة لما هو مجرَّد عن المادة، والمجرد إنما يكون بالفعل. إذن حصول ووجود العلم للعالم، إنما هو حصول أمرٍ فعلي فعليةً محضة؛ أي مجرد لا تشوبه قوة أصلًا، ولا يطرأ عليه تغيير؛ فالصورة العلمية من حيثُ هي صورةٌ علمية ليس بها قابلية التغيُّر إلى صورةٍ أخرى، يعني لا تقبل التغيير مطلقًا، حتى لو كانت الصورة خطأ فإن هذه الصورة الخطأ لا تتغيَّر، وإنما تأتي صورةٌ صحيحة غيرها.

وبذلك لا يكون حصول العلم للعالم كيفما اتفق، وإنما هو حصول أمرٍ فعلي فعليةً محضة لا تشوبها شائبة القوة إلى أمرٍ فعلي آخر؛ أي حصول مجرد لمجرد؛ ذلك أن النفس مجردة تجردًا كاملًا، فِعْلية محضة، والمعلومات الحاصلة لها هي أيضًا فعليةٌ محضة.

وعلى هذا الأساس فإن العلم هو حصول أمرٍ مجرد عن المادة لأمرٍ مجرد هو النفس؛ فالعلم لا يقبل التغيير؛ لأن ما يقبل التغيير لا بد أن تكون فيه شائبة المادة، فما دام العلم غير قابل للتغيير، فمعنى ذلك أنه فعليةٌ محضة لا تشوبه شائبة القوة وليس فيه قابلية التغيير؛ أي إنه ليس هناك هيولى في المقام.

فإن كان العلم نفسه ليس له قابلية التغيير؛ لأنه لا تشوبه شائبة المادة والقوة، والنفس العالمة غير قابلةٍ للتغيير، فيلزم أن يكون المعلوم أيضًا غير قابلٍ للتغيير؛ لأن المتحد مع ما لا يقبل التغيير أيضًا لا يقبل التغيير. إذن المعلوم غير قابل للتغيير، وهكذا النفس لا بد أن تكون غير قابلةٍ للتغيير؛ فإن حضور أمرٍ مجرد من المادة للنفس يقتضي كون النفس مجردة أيضًا؛ إذ لو كان العالم مادة أو ماديًّا، فيلزم أن يكون المعلوم الحاضر لديه ماديًّا؛ أي منسوبًا إلى المادة أيضًا. وهذا خلاف ما فرضنا أنه مجرد.

يتبين مما سبق أن العلم هو حضور موجود مجرد لمجرد؛ فالمعلوم أمرٌ مجرد والنفس أيضًا أمرٌ مجرد، سواء كان العلم علمًا حضوريًّا، كما في علم النفس بنفسها، أو كان العلم علمًا حصوليًّا كما لو علمنا بالكتاب، فإن علم النفس بالماهيَّات الخارجة عنها هو أيضًا علم بأمرٍ مجرد؛ أي حضور أمرٍ مجرد لها.

وكذلك يتضح أن المعلوم الذي يتعلق به العلم يجب أن يكون أمرًا مجردًا من المادة؛ أي فعليًّا محضًا، وليس فيه قابلية التغيُّر. وسيأتي في خاتمة الفصل الثاني بيانُ تعلُّق العلم بالأمور المادية.

وهكذا اتضح أن العالم أيضًا؛ أي النفس التي‏ يقوم بها العلم، يجب أن تكون فعليةً مجرَّدة من المادة، يعني غير قابلةٍ للتغيُّر، وإلا إذا كانت قابلة للتغير فمعنى ذلك أن العلوم تتغيَّر، وعلى هذا الأساس يكون العلم حضور شي‏ء لشي‏ء، أو قُل حضور أمرٍ مجرد من المادة لأمرٍ مجرد من المادة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥