في أحكامٍ متفرقة
يتحدث المصنِّف في هذا الفصل في ثلاثة أمور:
- الأول: تقسيم المعلوم إلى ما بالذات وما بالعرض.
- الثاني: بيان أن العلوم الحصولية ترجع إلى علومٍ حضورية.
- الثالث: بيان أن العقول المجرَّدة عن المادة ليس عندها علمٌ حصولي وإنما العقول علمها علمٌ حضوري.
(١) المعلوم بالذات والمعلوم بالعرض
إن العلم الحصولي ينقسم إلى معلوم بالذات ومعلوم بالعرض، والمراد بالمعلوم بالذات هو نفس ما هو حاضر لدى العالم؛ فإن الصورة الحاضرة في الذهن هي المعلومة أولًا وبالذات.
أما المعلوم بالعرض فهو ذلك الشيء الخارجي غير الحاضر في الذهن، وهو معلوم بالعرض لوجود نحوٍ من الاتحاد بين المعلوم بالذات والمعلوم بالعرض؛ لأن المعلوم بالذات موجود في ماهيته في الذهن، ولكن هذه الماهية متلبِّسة بالوجود الذهني، والمعلوم بالعرض ماهيته بالخارج، وتلك الماهية متلبِّسة بالوجود الخارجي.
فلوجود هذا النحو من الاتحاد في الماهية بين المعلوم بالذات والمعلوم بالعرض يجد الذهن أن المعلوم بالذات هو نفس المعلوم بالعرض، وإلَّا فالمعلوم بالذات غير المعلوم بالعرض.
يعني أن الذهن عندما يقيس ما لديه مع ما في الخارج يجد أن الماهية الحاضرة لديه هي عين الماهية التي في الخارج. ومن هنا يرى أن ما هو معلوم بالعرض هو نفس ما هو معلوم بالذات، وإن كان المعلوم بالعرض هو الوجود الخارجي والمعلوم بالذات هو الوجود الذهني.
إذن ينقسم المعلوم في العلم الحصولي إلى معلوم بالذات ومعلوم بالعرض، والمعلوم بالذات هو نفس الصورة الحاصلة لدى العالم، والمعلوم بالعرض هو الأمر الخارجي الذي تكشف وتحكي عنه هذه الصورة.
إشكال
قد يُقال إن المعلوم بالعرض الذي هو الأمر الخارجي، إذا كان موجودًا في عالم الطبيعة فمما لا إشكال فيه أن كل ما هو موجود في عالم الطبيعة بناءً على القول بالحركة الجوهرية متغير، فهو في كل آنٍ غيره في الآن الذي يليه، فإذا كان الأمر كذلك فإن المعلوم بالذات؛ أي الصورة الحاصلة لدى العالم ثابتة؛ لأنها مجردة عن المادة، باعتبار الصور العلمية بمجموعها، سواء كانت صورة حسية أم خيالية أم عقلية فهي مجردة عن المادة، والمجرد ثابت، فإذا كانت الصورة ثابتة وما في الخارج متغيِّر، فكيف نقول إن ما في الذهن مطابقٌ لما في الخارج؟ يعني الشيء الذي نعلمه؛ أي شيء من الأشياء، كالكتاب الذي نعلمه، أو القمر، أو الأرض، أو الجدار، فما دام في دائرة عالم الطبيعة فهو متغيِّر؛ لأن كل عالم الأجسام، كما تقول نظرية الحركة الجوهرية، متجدِّد.
فإذا كان كذلك فالصورة العلمية الموجودة في الذهن سواء كانت صورة كلية أم جزئية، يعني محسوسة أم خيالية أم عقلية، فهذه الصورة ثابتة لأنها مجردة عن المادة. إذن كيف نقول: إن هذه الصورة هي ذلك الأمر الخارجي؟ فلا بد من حل لهذه المشكلة.
جواب الإشكال
يحلُّ المصنِّف هذه المشكلة بإرجاع العلوم الحصولية إلى علومٍ حضورية.
(٢) العلوم الحصولية ترجع إلى حضورية
كل ما يدركه الإنسان من معقولات هو مجرَّد عن المادة، فلا بد أن يكون أيضًا العاقل مجردًا عن المادة؛ أي النفس التي تدرك هذه المعقولات أيضًا لا بد أن تكون مجرَّدة عن المادة، فحينئذٍ تحضر لدى النفس المجردة عن المادة تلك الأمور المجردة عن المادة أيضًا.
من هنا لا بد أن نُذكِّر بما أشرنا إليه فيما سبق، وهو أن مدرسة الحكمة المتعالية ترى أن عوالم الإمكان تنقسم إلى ثلاثة عوالم، عالم العقل أو عالم الجبروت، وعالم المثال أو عالم الملكوت، وعالم الطبيعة وعالم المادة أو عالم الناسوت، وهذه العوالم بينها طولية، وأن الموجودات الموجودة في عالم الطبيعة موجودة أيضًا في تلك العوالم الأخرى، ولكن وجودها في عالم الطبيعة وجودٌ مادي، بينما وجودها في عالم المثال وفي عالم العقل وجودٌ مجرد بحسب تلك العوالم.
إذن من حيثُ الماهيةُ يكون الكتاب موجودًا في عالم العقل وفي عالم المثال وفي عالم الطبيعة، وتكون ماهيته ماهيَّة واحدة؛ أي إنه هو كتاب، ولكن نحو وجوده مختلف، يعني أن وجوده في عالم الطبيعة وجودٌ مادي، بينما وجوده في عالم المثال مجرد عن المادة دون آثارها، وفي عالم العقل مجرد عن المادة وآثارها.
وباعتبار أن مراتب الوجود حقيقةٌ واحدةٌ مشكِّكة، فمرتبة الوجود المجرد أقوى وأشد من مرتبة الوجود المادي، ولكن الحقيقة حقيقةٌ واحدة؛ أي الماهية هي نفسها ماهيةٌ واحدة، فماهية الكتاب واحدة، ولكن وجوده في عالم الطبيعة غير وجوده في عالم المثال، وغير وجوده في عالم العقل.
فما ينكشف لنا وما نعلم به ليس هو الموجود المادي؛ لأنه من المحال أن يحضر الموجود المادي لدينا بوجوده المادي؛ لأن النفس أمرٌ مجرد، وما هو حاضر للنفس لا بد أن يكون أمرًا مجردًا؛ فما دام العاقل «النفس» أمرًا مجردًا لا بد أن يكون المعقول أيضًا أمرًا مجردًا وليس ماديًّا.
من هنا يتضح أن ما يحصل عليه الإنسان بالعلم هو ذلك الموجود المجرد، وإن كان علمه علمًا جزئيًّا فإن النفس تتحد بعالم المثال ويحضُر لديها الوجود المجرد، وإن كان المعقول والمعلوم كليًّا فالنفس تتحد بعالم العقل، فتدرك ذلك الموجود المجرد الكلي.
ولكن هنا أيضًا قالوا إن النفس عندما تتحد بعالم المثال أو بعالم العقل، ففي الواقع إنما تتحد بوجود رابط، وهذا الوجود الرابط هو المفاض، وليس الجوهر العقلي عينه، يعني ليس نفس العقل الذي هو جوهرٌ عقلي، وإنما المفاض عليها هو الوجود الرابط من هذا الجوهر العقلي، فبسبب هذا الاتحاد تخرج النفس المجردة من كونها في مرتبة القوة، يعني في مرتبة التعقُّل بالقوة، إلى التعقُّل بالفعل؛ أي بواسطة الاتحاد مع تلك الموجودات المجردة تخرج النفس من حالة القوة إلى حالة الفعل، كما قالوا.
قد يُقال: إن هذه الموجودات المجردة التي هي عاقلة أيضًا، هل وجودها أقوى من النفس؟
وبعبارةٍ أخرى إن تلك الموجودات المجرَّدات الظاهرة للقوة العاقلة أي النفس، والتي تتحد مع النفس فتخرج النفس بسبب الاتحاد معها من القوة إلى الفعل، أهي أقوى في الوجود أم النفس أقوى في الوجود؟
يقول المصنف: إن تلك الموجودات المجرَّدة أقوى في وجودها من النفس التي تتحد معها؛ لأن هذه الموجودات مجردة ذاتًا وفعلًا، فهي في مقام ذاتها ليست محتاجة إلى المادة كما أنها في مقام فعلها ليست محتاجة إلى المادة، بينما النفس مجردة ذاتًا لا فعلًا؛ أي إنها في مقام ذاتها مجردة عن المادة، ولكنها في مقام فعلها ليست مجردة عن المادة، وإنما هي تفعل بواسطة الأعضاء والجوارح، فهي محتاجة إلى المادة.
إذن المفاهيم الظاهرة للنفس مجردة تجردًا تامًّا، وهذا التجرد أعم من أن يكون تجردًا عقليًّا أو تجردًا مثاليًّا، والتجرد العقلي هو بالنسبة إلى الصور الكلية، والتجرد المثالي هو بالنسبة إلى الصور الجزئية. أما النفس التي تتحد مع هذه الموجودات المجردة فإنها مجردة تجردًا ناقصًا لا تامًّا؛ لأنها مجردة في مرتبة ذاتها لا في مرتبة فعلها، ومما لا إشكال فيه أن المجرد تجردًا تامًّا أقوى من المجرد تجردًا ناقصًا.
وبعبارة أخرى إن النفس تَستَكمِل إذا اتحدت بهذه الموجودات المجردة، يعني تخرج من أنها تتعقل بالقوة إلى أنها تتعقل بالفعل؛ أي إن النفس تستكمل عندما تتحد بهذه المجردات، وعندما تتلقى هذه المفاهيم. ومن الواضح أن المستكمِلَ أضعف وجودًا من المُستَكمَل به، يعني يُوجد شيء يُكمل النفس، وهذا الشيء الذي يُكمل النفس أقوى وجودًا من النفس؛ لأن النفس كانت ناقصة وكَمُلت بهذا الأمر، فما كمَّلها هو أقوى وجودًا منها.
ثم إن النفس عندما تتحد مع هذه الموجودات المجرَّدة:
-
(أ)
فإذا كان ما تدركه جوهريًّا، اتحدَت النفس مع ذلك الجوهر في وجوده المجرد:
-
(١)
في عالم العقل إذا كانت الصورة كلية.
-
(٢)
وفي عالم المثال إذا كانت الصورة جزئية.
-
(١)
-
(ب)
وإذا كان ما تدركه عرضًا اتحدَت مع موضوع العرض.
يعني إذا كان إدراكها للون التفاحة مثلًا، فإنها تتحد مع الجوهر نفسه؛ أي التفاحة، الذي هو موضوع لهذا اللون؛ لأن النفس لو اتحدت مع نفس العرض للزم أن يكون العرض موجودًا بوجودَين، مرةً يكون موجودًا لموضوعه الذي هو التفاحة، الجوهر، ومرةً أخرى يكون موجودًا للنفس، والشيء الواحد لا يمكن أن يكون موجودًا لموضوعين، فإن وجوده لموضوعه فقط.
إذن النفس تتحد مع الجوهر المجرد عن المادة، فإذا اتحدت مع الجوهر كانت عالمة بالعرض، يعني تتحد النفس بالصورة الجوهرية، وعندما تتحد بالصورة الجوهرية تكون عالمة بالعرض، الذي هو حالٌّ بالجوهر.
(٣) العقول المجردة ليس لديها علمٌ حصولي
إن العقول المجردة عن المادة ليس عندها علمٌ حصولي؛ لأنها مجرَّدة عن المادة في ذاتها وفي فعلها، وكل ما هو موجودٌ لديها هو علم حضوري؛ لأن الذي يكون له علمٌ حصولي هو الناقص كالنفس، فهذه النفس تستكمل بالاتحاد مع الصور العلمية، ولكن العقول ليست ناقصة، وإنما كل ما هو ممكنٌ لها موجودٌ لها بالفعل، فليس لها شيء بالقوة أصلًا، ولا قوة فيها؛ لأن القوة تحتاج إلى مادة، بينما هي مجرَّدة عن القوة.
إذن كل ما هو ممكنٌ لها فهو فعليٌّ لها، موجودٌ لها بالفعل؛ لأنه لا قوة فيها لتجرُّدها عن المادة، فليس لها علمٌ حصولي؛ لأن ما له علمٌ حصولي، لا بد أن يكون له استعداد، لا بد أن يكون ناقصًا، لا بد أن تكون فيه قابلية وقوة، فيخرج من القوة إلى الفعل، ويستكمل بالاتحاد مع الصور العلمية، أما العقول فلا تحتاج إلى ذلك، وكل ما يمكن لها هو موجودٌ لها بالفعل، فهي لا تخرج من القوة إلى الفعل لتستكمل بالاتحاد مع المفاهيم.