كل مجرد فهو عاقل
إن البحث في هذا الفصل أورده المصنِّف في ثلاث نقاط، والهدف الأساسي من هذا البحث هو بيان ما يُعرف باتحاد العقل والعاقل والمعقول؛ ففي النقطة الأولى يبيِّن معنى هذا الاتحاد. وفي النقطة الثانية أورد إشكالًا على عدم علم النفس بالمجردات، وحضور المجردات بتمامها لدى النفس، وأجاب على هذا الإشكال. وفي الثالثة يبيِّن أن هذا البرهان الذي ذكره إنما يجري في الجواهر المجردة دون الأعراض.
اتحاد العقل والعاقل والمعقول
العقل هنا بمعنى الإدراك، وليس التعقُّل الذي هو من أقسام العلم الحصولي؛ فإن علم المجرد حضوري. وإن ذات المجرد التامة حاضرة لذاته، بخلاف الصور النوعية والجسمية فإنها حاضرة للمادة لا لذاتها.
وإن كل مجرد هو عقل وعاقل ومعقول؛ أما أنه عقل فلأن المجرد أمرٌ فعليٌّ محض، يعني أن المجرد هو مجرد عن المادة، وحيثُ يكون مجردًا عن المادة فإنه لا قوة فيه، وحيثُ لا قوة فيه فهو فعليٌّ فعليةً محضة؛ لأن القوة في مقابل الفعلية، فإذا لم تكن هناك قوة فلا بد أن يكون هذا الموجود فعليًّا فعليةً محضة، فإذا كان فعليًّا فعليةً محضة فمعنى ذلك أن كل ما هو ممكنٌ له يكون فعليًّا له؛ أي ما يمكن أن يُوجَد ويحضُر لهذا الشيء المجرد بالإمكان إنما يكون له بالفعل؛ لأن هذا الشيء المجرد لمَّا لم يكن لديه قوة فليس له حالةٌ منتظرة؛ أي ليس فيه استعداد، ليس فيه قابلية، لكي يخرج من حالة القوة إلى حالة الفعل، فكل ما يمكن أن يكون للمجرد يكون ثابتًا له بالفعل.
إذن كل ما هو ممكن له يكون ثابتًا له بالفعل، فإذا كان ثابتًا له بالفعل فهو معقول له بالفعل؛ أي إذا كان ثابتًا للمجرد، فمعنى الثبوت له هو الحضور، ومعنى الحضور هو أنه حاضر للمجرد، يعني ذلك أنه معقول ومعلوم له؛ لأن العلم معناه حضور مجرد لمجرد، فإذا كان حاضرًا له يكون معلومًا ومعقولًا له، فالعقل أو قُل العلم متحدٌ مع المعلوم.
وبما أن هذا المعقول حاضر وثابت له فهو عقل أيضًا، يعني هو معقول من جهة وهو عقل من جهةٍ أخرى، أو بعبارةٍ أخرى من زاوية نعبِّر عنه بأنه عقل، ومن زاويةٍ أخرى نعبِّر عنه بأنه معقول.
ولما كانت ذات هذا الأمر المجرد حاضرة لذاته فهو عاقل لذاته، فأصبح عقلًا وعاقلًا ومعقولًا. وعلى هذا الأساس يُقال إن كل مجرد عقل وعاقل ومعقول.
وبعبارةٍ أخرى يمكن أن نقول: إن العقل والعاقل والمعقول هي مفاهيمُ ثلاثةٌ منتزَعة من وجودٍ واحد؛ فإن المصداق هو هذا الأمر المجرد، ولكن هذا الأمر المجرد من زاوية نعبِّر عنه بأنه عقل، ومن زاوية أخرى نعبِّر عنه بأنه معقول، ومن زاوية ثالثة نعبِّر عنه بأنه عاقل.
فهو عاقل لأنه يعقل ذاته ويعقل غيره، وهو معقول لأن ما يمكن أن يثبُت له يكون ثابتًا له بالفعل؛ لأنه ليس فيه قوة، وليس فيه حالةٌ منتظرة؛ ولذلك فإن حضور الأشياء له بالفعل يعني حضور المجردات له بالفعل، بمعنى أن هذا المعقول موجود لديه؛ لأن المعلوم هو حضورُ مجردٍ لمجرد، فمعنى حضوره هو أنه معلوم لديه، فهو إذن معقول، وهو عقل؛ لأن العلم متحد مع المعلوم، أو قُل العقل متحد مع المعقول، فهو عقل، فهذه مفاهيمُ ثلاثةٌ منتزَعة من وجودٍ واحد، فهنا اتحد العقل والعاقل والمعقول.
وهذه هي المسألة المعروفة باتحاد العقل والعاقل والمعقول، والتي أوضحناها ببيان فيه شيء من التفصيل في بداية هذه المرحلة.
إشكال
يلزم من ذلك أن تكون النفس الإنسانية عاقلة لنفسها، ولكل مجرد من المجردات المفترضة باعتبار أن كل مجرد يكون عقلًا وعاقلًا ومعقولًا، يعني يكون عاقلًا لنفسه وعاقلًا لغيره، فحينئذٍ النفس الإنسانية باعتبارها مجردة فلا بد أن تكون عقلًا وعاقلًا ومعقولًا؛ أي هي عاقلة لنفسها، وعاقلة لكل مجردٍ مفترض، فتكون كل المجردات حاضرة لديها، بينما نحن نرى بالبداهة أن النفس الإنسانية ليست كذلك، وإنما علمها بالمجردات علمٌ اكتناهي؛ فهي تُحيط ببعضها فيما لا تُحيط بالبعض الآخر، فكيف نُجيب على هذا الإشكال.
جواب الإشكال
إن النفس الإنسانية لو كانت مجردة تجردًا تامًّا لصح هذا الكلام؛ أي تكون عاقلة لنفسها وعاقلة لغيرها، فيكون كل مجردٍ مفروضٍ حاضرًا لديها، ولكن النفس الإنسانية، كما قلنا، مجردة في مقام ذاتها ولكنها مادية في مقام فعلها؛ فهي من حيثُ هي مجردة في ذاتها تعقل ذاتها، باعتبار أن ذاتها مجردة فتكون ذاتها حاضرة لذاتها، أما تعقُّلها لغيرها فيتوقف على خروج هذه النفس من القوة إلى الفعلية بالتدريج، بحسب ما لديها من الاستعدادات المختلفة التي تكتسبها.
وببيانٍ آخر نقول: إن هناك فرقًا بين علم النفس بنفسها وبين علم النفس بغيرها؛ فإن الكلام المذكور إنما يجري في علم النفس بنفسها، نفسها تكون حاضرة لنفسها؛ لأن نفسها مجردة فتكون حاضرة لهذه النفس المجردة.
وعلم النفس بنفسها علمٌ حضوري، أما علم النفس بغيرها، فباعتبار أن النفس مجردة في ذاتها ومادية في فعلها؛ لذلك يتوقف تعقُّل النفس لغيرها على خروجها بشكلٍ تدريجي من حالة القوة إلى حالة الفعل، بحسب استعدادات النفس المختلفة من التعلم والارتياض، وحينئذٍ يُقال: إن النفس كلما تحرَّرَت من حالة القوة وتحرَّرَت من المادة واتجهَت نحو الفعلية والتجرد، أصبحَت أكثر قدرة على إدراك المجردات.
ومن هنا يقولون إذا تجرَّدَت النفس تجردًا تامًّا، وكانت مجردة في ذاتها وفي فعلها، وبلغَت ما عبَّرنا عنه سابقًا بالعقل المستفاد، فحينئذٍ تحضُر لديها المجردات، وتحصُل على جميع المعقولات، ويكون علمها بها علمًا بسيطًا، وهو الذي عبَّرنا عنه بالعلم الإجمالي؛ أي البسيط.
هذا البرهان يجري في الجواهر المجردة
إن هذا الكلام إنما يتم في الجواهر والذوات المجردة، التي يكون وجودها في نفسها لنفسها، وأما الأعراض التي يكون وجودها لغيرها، فإن العاقل للأعراض إنما يعقل المعقول الذي هو محلها، فالعاقل للأعراض إنما يكون عاقلًا للجواهر التي هي موضوع للأعراض، وتكون الأعراض معقولة لا بذاتها مباشرة، وإنما الذي يكون معقولًا هو موضوع الأعراض وهو الجوهر، لا الأعراض نفسها مباشرة؛ أي إن الأعراض لمَّا لم تكن موجودةً لنفسها لم تكن حاضرةً لنفسها فإن الحضور هو الوجود.
وكذلك كل النِّسب والارتباطات والأوضاع التي تكون وجوداتها في غيرها لا في أنفسها، إنما يكون إدراك العاقل وتعقُّله لها عبْر موضوعاتها لا بأنفسها مباشرة؛ لأن وجودها في نفسها لغيرها وليس وجودها في نفسها لنفسها.