في العلم الحضوري، وأنه لا يختص بعلم الشيء بنفسه
إن العلم الحضوري هو حضور المعلوم لدى العالِم، بينما العلم الحصولي هو حضور صورة المعلوم لدى العالِم. العلم الحصولي ينقسم إلى: تصوُّر وتصديق، بينما العلم الحضوري لا ينقسم إلى تصوُّر وتصديق. العلم الحصولي يُمكِن أن تُقام عليه البراهين، بينما في العلم الحضوري الشيء حاضر بنفسه، وهو أمرٌ وجداني.
العلم الحضوري لا يختص بعلم الشيء بنفسه
إن الجواهر المجردة باعتبارها فعليةً، ومجردةً عن المادة ولا تشوبها شائبة القوة، تكون حاضرة لنفسها، فإذا كانت حاضرة في نفسها لنفسها، والعلم هو الحضور، فحينئذٍ تكون عالمة بنفسها، ويكون علمها بنفسها علمًا حضوريًّا.
من هنا انبثق بحثٌ هو أن العلم الحضوري لا يختص بعلم الشيء بنفسه، وإنما العلم الحضوري أعم من ذلك، يعني أنه يشمل علم الشيء بنفسه وعلم الشيء بغيره، كعلم العلة بمعلولها، إذا كانت العلة مجردة والمعلول مجردًا، وعلم المعلول بعلته إذا كان المعلول مجردًا والعلة مجردة.
لكن يُوجَد خلاف في هذه المسألة بين الفلسفة المشَّائية والإشراقية؛ فالمشَّاءون قالوا: إن العلم الحضوري يختص بعلم الذات بذاتها، علم الشيء بنفسه، فيما ذهب الإشراقيون إلى أن العلم الحضوري أعم من ذلك؛ أي يشمل علم الشيء بنفسه، مضافًا إلى علم العلة بمعلولها وعلم المعلول بعلَّته.
مع العلم أن شيخ الإشراق لا يخص علم العلة بالمعلول علمًا حضوريًّا بما إذا كانا مجردَين، غير أن المصنِّف لمَّا لم يقل بحضور المادي خصَّه بما إذا كانا مجردَين.
وتوسع بعضٌ في بيان أقسام العلم الحضوري، فقالوا: إن العلم الحضوري يشمل علم النفس بنفسها، وعلم النفس بقواها الإدراكية وغير الإدراكية؛ أي بمجموع القوى التي للنفس، يكون علمًا حضوريًّا أيضًا، وكذلك علم النفس بحالاتها النفسية وأحوالها الروحية مثل الحب، البغض، الشوق، الإرادة، وغير ذلك.
وكذلك قالوا: من أقسام العلم الحضوري هو علم النفس بآثارها، يعني الأثر الذي يحصُل في أعضاء الإدراك من الأشياء الخارجية، كالصورة الحاصلة لديها؛ فإن الصورة الحاصلة لدى النفس، يكون علم النفس بها علمًا حضوريًّا.
وقالوا أيضًا: إن من أقسام العلم الحضوري هو علم النفس بالموجودات المثالية والموجودات العقلية كما تقدَّم، فإن هذا العلم يحصُل باتحاد النفس بالعقل أو باتحادها بالموجود المفارق المثالي، وحينئذٍ يحضُر ذلك الموجود في عالم العقل لدى النفس، أو يحضُر الموجود في عالم المثال لدى النفس بنفسه، فيكون علمها به علمًا حضوريًّا.
كما قالوا: إن هذا العلم إنما هو من علم المعلول بالعلة؛ لأنه علم بمبادئ وعلل وجود النفس، على اعتبار أن عالم العقل هو علة لعالم المثال، وعالم المثال علة لعالم الطبيعة، والنفس موجودة في هذا العالم.
إذن الإشراقيون توسَّعوا في العلم الحضوري، والمصنِّف، تبعًا لهم، اختار ذلك أيضًا، فذهب إلى أن العلم الحضوري أعم من علم الشيء بذاته، وعلم العلة بمعلولها، وعلم المعلول بعلته.
مع العلم أن شيخ الإشراق لا يخص علم العلة بالمعلول علمًا حضوريًّا بما إذا كانا مجردين، غير أن المصنف لما لم يقل بحضور المادي خصَّه بما إذا كانا مجردَين.
أما توجيه هؤلاء لكون العلم الحضوري أعم، فقد قالوا: أما علم الشيء بنفسه علمًا حضوريًّا فقد تقدم ذلك.
وأما علم العلة بمعلولها علمًا حضوريًّا، فلأن المعلول وجوده بالنسبة إلى العلة وجود رابط، يعني هو قائم بالعلة، وغير مستغنٍ عن العلة، كما مثَّلنا بهذا المثال البسيط في أن علاقة المعلول بالعلة كعلاقة الشعاع بالشمس؛ فلو غابت الشمس آنًا ما انقطع الشعاع، وبما أن المعلول وجوده وجود رابط، كوجود الأشعة بالنسبة للشمس، فهو قائم بالوجود المستقل الذي هو وجود العلة. إذن وجود المعلول حاضر بتمامه لدى العلة، والعلم معناه الحضور، يعني حضور مجرد لمجرد، وعلى هذا الأساس فإن العلة عالمة بمعلولها — إن كان مجردًا — علمًا حضوريًّا؛ لأنه ليس هناك فاصل وحائل يحول بين المعلول وعلته، وإنما المعلول قائمٌ بعلته ثابتٌ لها، يعني حاضر لديها، والحضور معناه العلم؛ لأن العلم هو حضور مجرد لمجرد، فإذا كانت العلة مجردة والمعلول مجردًا، والمعلول وجوده وجود رابط، فهو ثابت وقائم بالعلة وحاضر للعلة، والحضور معناه العلم، فتكون العلة عالمة بالمعلول علمًا حضوريًّا.
أما كون المعلول عالمًا بالعلة، فيمكن توضيحه بأن يُقال: باعتبار أن المعلول ليس بمستقل وإنما هو قائم بالعلة، وجوده وجود رابط، فإذا كان قائمًا بالعلة، إذن هو متحدٌ مع العلة، فتكون العلة حاضرةً بوجودها لمعلولها، فإذا كانت حاضرة، فالحضور هو العلم؛ لأن العلم هو حضور مجرد لمجرد، فإذا كان المعلول مجردًا والعلة مجردة، فمعنى ذلك أن المعلول يكون عالمًا بعلته، وعلمه بعلته هو علمٌ حضوري.
والفرق هنا بين علم العلة بمعلولها وعلم المعلول بعلته، هو أن علم العلة بمعلولها علمٌ تام لأنها محيطة بمعلولها، كما لو رسمنا دائرةً صغيرة ورسمنا من بعدها دائرةً كبيرةً محيطة بها.
أما علم المعلول بعلته فهو علمٌ اكتناهي، بحسب ما له من استعداد وبحسب قدرته على الخروج من القوة إلى الفعل وتجرُّده تجردًا تامًّا، فيكون قادرًا على اكتناه علته والإحاطة بها، فهو يُحيط بشيءٍ منها، وكلما تجرد يكون أكثر قدرة على الإحاطة بها، حتى إذا تجرَّد تجردًا تامًّا يكون مُكْتنِهًا لعلَّته وعالمًا بها.