الفصل السادس

في مفيض هذه الصور العلمية

في هذا الفصل يتحدث المصنِّف عن مسألةٍ مهمة، وهي مَنِ الذي أفاض هذه الصورة العلمية الموجودة لدى الإنسان، سواء كانت صورةً جزئية أو كلية؟ يعني أإنَّ النفس هي التي أوجدَتها أم أن الذي أوجدَها أمرٌ آخر؟ هذا الفصل معقود لبيان مصدر إفاضة هذه الصور العلمية.

وقد ذكر المصنِّف في عبارته «أما الصور العقلية الكلية فإن مُفيضها المخرج للإنسان مثلًا …» وإنما قال «مثلًا» للدلالة على عدم الاختصاص بالإنسان، والشمول لكل موجود له استعداد الاستفاضة كالجن.

ولبيان مصدر إفاضة هذه الصور العلمية تُوجَد ثلاثة احتمالات، سوف نُبطِل اثنَين منها ونُثبِت الاحتمال الثالث.

  • الاحتمال الأول: أن يكون السبب المُفيض لهذه الصور هو موجودٌ من الموجودات ‏المادية.
  • الاحتمال الثاني: أن تكون النفس بذاتها هي المفيضة لهذه الصور، النفس لديها حالةٌ خلَّاقية؛ أي هي التي تخلُق وتوجِدُ هذه الصور.
  • الاحتمال الثالث: أن الذي أفاض هذه الصور موجودٌ مجرَّد غير مادي، أقوى وجودًا من وجود النفس.

نبدأ بالاحتمال الأول الذي يفترض أن الذي أفاض هذه الصور هو موجودٌ مادي، فنقول: هذا الاحتمال باطل؛ لأن الصور بمجموعها، الحسية والخيالية والعقلية، أو قل الجزئية والكلية، مجرَّدة عن المادة، والمجرَّد عن المادة أقوى رتبةً في وجوده من الشي‏ء المادي، والمادي أضعف وجودًا من الشي‏ء المجرَّد، ولا يمكن أن يكون الأضعف علَّة للأقوى؛ لأن العلة أقوى من المعلول، يعني الأقوى وجودًا لا بد أن يكون علةً للأضعف وجودًا وليس العكس؛ هذا أولًا.

وثانيًا: أن عالم الطبيعة أو المادة حتى يكون علةً ماديةً لأمرٍ ما، فإن العلة الجسمانية عندما تؤثِّر وتُوجِد المعلول لا بد من وجود وضعٍ وهيئةٍ خاصة؛ لأن فعل المادة مشروطٌ بالهيئة والوضع الخاص.

وبعبارةٍ أخرى لا بد أن تكون الورقة مثلًا بوضعٍ خاص؛ أي قريبة من النار، أن تكون الورقة بوضعٍ يُمكِن أن تحترق بالنار، وإلَّا إذا فرضنا أنك تضع الورقة تحت النار وليس فوقها فلا تحترق.

إذن العلة الجسمانية والمادية لا تؤثِّر إلا مع وضعٍ خاص، ومما لا إشكال فيه أن المجرد ليس له وضعٌ خاص؛ لأن الوضع الخاص هيئةٌ موجودة في عالم المادة، أما غير عالم المادة فإنه لا وضع له.

وعلى هذا الأساس يكون الاحتمال الأول باطلًا.

الاحتمال الثاني: أن تكون النفس هي المُوجِدة لهذه الصور، لكن هذا الاحتمال أيضًا باطل؛ لأن النفس أساسًا فاقدةٌ لهذه الصور؛ فالنفس في مرتبة العقل الهيولاني غير موجودة لديها هذه الصور العلمية؛ وبالتالي فإن فاقد الشي‏ء لا يعطيه.

وعلى هذا الأساس ليست النفس هي المُوجِدة لهذه الصور.

الاحتمال الثالث: أن المُوجِد لهذه الصور لا بد أن يكون أمرًا مجردًا عن المادة، يعني وجودًا مجردًا وبعيدًا عن غواشي المادة. وهنا يقول المصنِّف بناءً على النظرية السابقة في تثليث عوالم الإمكان إلى: عالم الطبيعة والمثال والعقل، فيكون المُفيض للصور الكلية هو موجودٌ مجرَّد عن المادة وآثارها، وهذا الموجود المجرَّد عن المادة وآثارها هو العقل الموجود في عالم العقل. أما المُفيض للصور المجرَّدة عن المادة دون آثارها؛ أي الصور الجزئية الحسية والخيالية، فهو الجوهر المثالي المفارق للمادة، الذي فيه جميع الصور المثالية الجزئية على نحو العلم الإجمالي.

لكن قد يُقال: كيف تُفاض الصور؟

الجواب: قالوا إن النفس عادةً تتصل أو تتحد مع هذا الجوهر المجرَّد، وعندما تتحد معه يُفيض عليها الصور.

وهنا دخلوا في تفصيل وهو أإنَّ هذا الوجود الجوهري هو الذي يُفاض، أم أن هناك وجودًا رابطًا؟

يُقال إن هناك وجودًا رابطًا، والنفس تتحد مع هذا الوجود الرابط وليس مع الوجود المستقل. يعني أن هناك وجودًا رابطًا مجردًا قائمًا بالجوهر المجرَّد، وهذا الوجود الرابط هو نفسه تتحد معه النفس، فإذا اتحدَت معه النفس، فإن النفسَ تستفيضُ وتأخذ هذه الصور بقَدْر استعدادها.

إذن النفس تستفيض والعقل هو المُفيض، عندما تتصل النفس بعالم العقل؛ أي إن النفس تتحد مع الوجود الرابط للعقل وليس مع وجوده النفسي؛ إذ إن المجرَّد المُفاض هو شعاعٌ من وجود العقل وليس نفس العقل، وإلَّا فلا معنى لكون العقل مُفيضًا للصور.

فالنفس بالحركة الجوهرية تصبح مجرَّدة وتحصُل لديها صور عبْر انعكاس العقل فيها، وكأن جوهر النفس الذي كان بمثابة الرماد يصير بالحركة الجوهرية مرآةً تنعكس فيها صورة ما في العوالم العالية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥