الفصل السابع

ينقسم العلم الحصولي إلى تصوُّر وتصديق

التصوُّر والتصديق

الصورة إما أن تكون حاضرةً وحدها، فهذا هو التصوُّر، أو أن تكون الصورة معها إيجابُ شي‏ءٍ لشي‏ء أو سلبُ شي‏ءٍ عن شي‏ء، فهذا هو التصديق. والتسمية بالتصديق أتت من جهة الحكم؛ أي إن الإنسان يصدِّق. إذن من حيثُ الحكمُ نقول: تصديق، ونقول أيضًا قضية؛ لأن فيها قضاءً وفيها حكمًا.

وبعبارة أخرى إن التصديق هو صورةٌ لمعلومٍ معها حكمٌ بثبوت نسبةٍ تامة خبرية، سواء كان هذا الحكم حكمًا بثبوت شيء لشيء، أو بانتفائه عنه، كما في القضايا الحَمْلية، أو كان حكمًا بثبوت نسبة على تقدير أخرى أو انتفائها، كما في القضايا المتصلة، أو حكمًا بتعانُد النسبتَين أو عدم تعانُدهما كما في القضايا المنفصلة.

أجزاء القضية

قبل الدخول في بيان أجزاء القضية نشير إلى أن القضايا تارةً تكون نسبة المحمول إلى الموضوع فيها من نوع الهليَّات المركبة، وأخرى تكون هذه النسبة من نوع الهليَّات ‏البسيطة.

والهليَّات المركَّبة هي التي تعني ثبوت شي‏ء لشي‏ء، أما الهليَّات البسيطة فتعني ثبوت ‏الشي‏ء.

وبعبارةٍ أخرى إن القضية مرةً يكون المحمول فيها غير وجود الموضوع، كما في: زيد قائم، فإن القيام غير وجود زيد، وأخرى يكون المحمول فيها هو عين وجود الموضوع، فإذا كان المحمول غير وجود الموضوع فهذه القضية من الهليَّات المركبة، أو هي مفاد كان الناقصة، وإذا كانت هذه القضية المحمول فيها نفس وجود الموضوع، فهذه القضية مفاد كان التامة، أو هل البسيطة.

إذا اتضح هذا نقول: في الهليَّات المركبة أو مفاد كان الناقصة، تكون القضية الموجبة مؤلفة من أربعة أمور، هي:

  • (١)

    الموضوع «زيد».

  • (٢)

    المحمول «قائم».

  • (٣)

    النسبة الحكمية، يعني عندما نقيس المحمول إلى الموضوع، ونرى أن هذا المحمول هل يمكن أن يثبُت للموضوع أو لا يمكن أن يثبُت؛ أي قبل أن نحكم بثبوت القيام لزيد لا بد أن نقيس القيام إلى زيد، لنرى هل يمكن أن يثبُت القيام لزيد أم لا يمكن أن يثبُت القيام لزيد.

  • (٤)

    فإذا علمنا أن القيام يمكن أن يثبُت لزيد؛ أي إذا علمنا أن هذا المحمول يُمكِن أن يثبُت للموضوع وحكَمنا بذلك، وشاهَدْنا أن زيدًا في الخارج قائم بالفعل، فحينئذٍ يحصل الحكم باتحاد الموضوع مع المحمول، ويتحقَّق الجزء الرابع في هذه القضية.

إذن القضية الموجبة تتألف من أربعة أمور، هي: الموضوع، والمحمول، والنسبة الحكمية، والحكم باتحاد الموضوع مع المحمول.

أما القضية التي هي مفاد هل البسيطة أو مفاد كان التامة، والتي يكون فيها المحمول نفس وجود الموضوع، فأجزاء هذه القضية ثلاثة، وهي:

  • (١)

    الموضوع.

  • (٢)

    المحمول.

  • (٣)

    الحكم.

أما النسبة الحكمية فإنها غير موجودة؛ لأن النسبة الحكمية هي الوجود الرابط، والوجود الرابط لا بد أن يربط بين طرفَين، مثل زيد وقائم، أما زيد ووجوده، فإنه أمرٌ واحد، فهو هو، وهو وجوده، إذن لا معنى لأن يتخلل الوجود الرابط الذي هو نسبة بين الشي‏ء ونفسه؛ لأنه لا اثنينية بين الشي‏ء ونفسه، وإنما الشي‏ء ونفسه أمرٌ واحد، فالنسبة الحكمية إنما تكون في مورد الهليَّات المركَّبة لا في مورد الهليَّات البسيطة.

أما القضية السالبة فإنها مؤلَّفة من:

  • (١)

    الموضوع.

  • (٢)

    المحمول.

  • (٣)

    النسبة الحكمية السلبية.

لأن القضية السالبة ليس فيها حكمٌ أساسًا، وإنما الحكم فيها منفي، سلب الحكم هو عدم جعل حكمٍ وليس معناه جعل حكم عدميًّا؛ لأن الحكم هو إثبات شي‏ء لشي‏ء، كإثبات القيام لزيد، وأما في القضية السالبة فقد سلبنا القيام عن زيد، بل لم نثبِت شيئًا لزيد؛ أي ليس هناك شي‏ءٌ حتى نثبته.

وقد يُقال: إن القضية السالبة تشتمل على حكم؛ لأن الحكم هو إيجابُ شيءٍ لشيء أو نفيه عنه، وتعريف المصنِّف للحكم بأنه جعلُ شيءٍ شيئًا مما تفرَّد به هو.

وإن الحمل غير الحكم؛ فالمنفي في القضية السالبة هو الحمل، وأما الحكم والقضاء فغير منفي، وإلَّا لم يفرق بين القضية السالبة التي هي علمٌ تصديقي وبين الشك الذي هو جهل.

ثم قال المصنف إنه لا فرق بين القضية الموجبة في مورد الهليَّات المركَّبة والهليَّات البسيطة؛ أي إنه كما أن القضية في مورد الهليَّات البسيطة تتألف من ثلاثة أجزاء، موضوع ومحمول وحكم، كذلك هي في مورد الهليَّات المركَّبة تتألف من ثلاثة أجزاء، من موضوع ومحمول وحكم، أما النسبة الحكمية فنحتاج إليها في مورد الهليَّات المركَّبة في القضايا، من جهة الحكم، باعتبار أن الحكم فعلٌ من أفعال النفس، لا بما هو جزء القضية، فإن الحكم إنما يكون جزءًا للقضية من جهة أنه علمٌ وإدراكٌ وحكايةٌ للواقع، لا من جهة أنه فعلٌ من أفعال النفس؛ لأن القضية علم وإدراك وجزئية الحكم لها من جهة كونه علمًا.

وبعبارةٍ أخرى نحتاج إلى تصوُّر النسبة الحكمية، باعتبار أن النفس هي التي تفعل الحكم، فتحتاج إلى النسبة الحكمية من جهة الحكم، وليس النسبة الحكمية جزءًا من أجزاء القضية، ولكن بما أن الحكم فعلٌ من أفعال النفس؛ لأنه يمثل إذعانًا وجزمًا، فهذا الإذعان حالةٌ نفسية تتحقَّق إذا تصوَّر الإنسان النسبة الحكمية.

إذن الحكم يتوقف على تصوُّر النسبة الحكمية، لكن النسبة الحكمية بين الموضوع والمحمول ليست ركنًا في القضية، وإنما هي أمرٌ ضروري لتحقُّق الحكم، فهي مقدمة للحكم وليست مقدمة لتحقُّق القضية. وعلى هذا الأساس فإن الأجزاء في مورد الهليَّات البسيطة والمركَّبة ثلاثة أجزاء فقط، هي الموضوع والمحمول والحكم.

نتائج مما سبق

  • (١)

    أن القضية الموجبة تتكون من ثلاثة أجزاء، سواء في مورد الهليَّات البسيطة أم المركَّبة، والقضية السالبة تتكوَّن من جزأَين، من الموضوع والمحمول، أما النسبة الحكمية فإنما تحتاج إليها النفس في فعل الحكم، ولا تحتاجها النفس من حيثُ القضية، لكي تكون جزءًا للقضية.

  • (٢)

    أن الحكم فعلٌ من أفعال النفس، بمعنى أن الحكم يصدُر من النفس وتفعله هي، وليست النفس منفعلة؛ فحضور صورة زيد في ذهنك يعبِّر عن انفعال النفس بهذه الصورة، أما بالنسبة إلى الحكم فهو أمرٌ تفعله النفس؛ فالنفس بالنسبة إلى الحكم فاعلة وليست‏ منفعلة.

    وبتعبير آخر إن النفس بالنسبة إلى الصور الخارجية تكون قابلة لها، أما بالنسبة إلى الحكم فتكون فاعلة؛ أي هي التي تُوجِد الحكم.

    ثم إن هذا الحكم الذي هو فعل النفس ليس فعلًا محضًا للنفس، وإنما هو فعلٌ يحكي عن الخارج؛ أي إن له ما بإزاء في الخارج.

    وبكلمةٍ بديلة إن فعل النفس على نحوَين:

    • (أ)

      تفعل النفس بعض الأفعال التي ليس لها مطابقٌ خارجي، يعني لا تحكي عن الخارج أي شي‏ء ليس له حكاية عن الواقع الخارجي، من قبيل تصوُّر إنسانٍ له أجنحة، فهذا لا يحكي عن الواقع الخارجي.

    • (ب)

      فعل النفس الذي يحكي عن الخارج، مثل الحكم على زيد بالقيام، في قولنا «زيد قائم»، فإن هذا الحكم فعل من أفعال النفس، ولكنه في نفس الوقت الذي يكون فيه فعلًا من أفعال النفس يحكي ويعبِّر عن الواقع الخارجي.

  • (٣)

    أن التصديق يتوقف على تصوُّر الموضوع والمحمول؛ فلا تصديق إلا عن تصوُّر، يعني التصديق فرع التصوُّر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥