ينقسم العلم الحصولي إلى بديهي ونظري
معنى البديهي
المقصود بالبديهي: هو ما لا يحتاج في تصوره أو التصديق به إلى اكتساب أو تحليل ونظر؛ فعندما نريد تصوُّر مفهوم الوجود لا نحتاج إلى تأمُّل ونظَر؛ لأن تصوُّر مفهوم الوجود بديهي. كما لا نحتاج إلى دليل للتصديق بأن الكل أكبر من الجزء؛ لأن التصديق بذلك بديهي.
إذن العلم ينقسم إلى: تصوُّر وتصديق، وكلٌّ منهما ينقسم إلى: بديهي ونظري.
العلوم النظرية تنتهي إلى البديهية
إن البديهي هو الأصل، يعني أن التصديق البديهي تصديق بالذات، وأما التصديق النظري فلا بد أن يستند إلى التصديق البديهي.
وبعبارةٍ أخرى إن التصديق البديهي أقدم رتبةً من التصديق النظري، وإن التصديق البديهي بالنسبة إلى التصديق النظري كالواجب بالنسبة إلى الممكن؛ فإن الواجب وجوده بالذات والممكن وجوده بسبب وجود الواجب، يعني أوجده الواجب، كذلك التصديق البديهي يكون التصديق به بالذات، بينما التصديق النظري ينتهي إلى التصديق البديهي.
كذلك الكلام في التصوُّر البديهي والنظري؛ فإن التصور النظري ينتهي إلى التصور البديهي.
ولو لم نقُل إن ما بالعرض ينتهي إلى ما بالذات لنجَم عن ذلك التسلسل؛ لأنه إذا كان التصديق مثلًا بأن مجموع زوايا المثلث ١٨٠° يعتمد على قضيةٍ نظرية، يعني تحتاج إلى برهان، فإن كانت هذه القضية النظرية تعتمد على قضيةٍ نظريةٍ أخرى، وهكذا إلى ما لا نهاية، فيتسلسل، والتسلسل مُحال.
إذن لا بد أن ننتهيَ إلى تصديقٍ بديهي، نصدِّق به بالذات من دون حاجة إلى برهان، وكذلك لا بد أن ننتهيَ إلى تصورٍ بديهي، نتصوَّره بنفسه من دون حاجة إلى توسُّط سواه في تصوُّره.
أنواع البديهيات
إن البديهيات التي ذكروها في المنطق تنتهي إلى ست طوائف، وهي:
-
(١)
الأوليات.
-
(٢)
الفطريات.
-
(٣)
المحسوسات.
-
(٤)
المتواترات.
-
(٥)
التجريبيات.
-
(٦)
الوجدانيات.
وأوَّل هذه البديهيات، يعني أوضحها وأقدمها وأَوْلاها بالقبول والتصديق هي الأوليَّات، والأوليات إنما تُسمَّى قضايا أولية لأن العقل يصدِّق بها أولًا وبالذات، وهي متقدمة على غيرها من البديهيات بالتصديق بها، وهذه يكفي بالتصديق بها تصوُّر الموضوع والمحمول؛ ففي قضية «النقيضان لا يجتمعان، أو اجتماع النقيضين محال»، هذه قضيةٌ الموضوع فيها اجتماع النقيضَين والمحمول محال، فالتصديق بهذه القضية يتوقف على تصوُّر معنى اجتماع النقيضَين وتصوُّر معنى مُحال.
لكن قد يُقال: إذا كانت هذه القضية بديهية فلماذا أنكرها بعضٌ؟
الجواب: إن الإنكار ينشأ من عدم التصوُّر الصحيح للموضوع والمحمول، وإلا فلو تصوَّر هذا البعض الموضوع والمحمول تصورًا صحيحًا لما أصبحَت لديه شبهة؛ لأن المشكلة في القضايا العقلية غالبًا ما تنشأ من التباس تصوُّر هذه القضايا تصورًا صحيحًا دقيقًا.
أولى الأوليات
ثم إن هذه الأوليَّات نفسها هي مترتبة أيضًا؛ فإن هناك قضية تُعتبر أولى الأوائل، يعني هي أول قضية يصدِّق بها الذهن، وهي قضية استحالة اجتماع النقيضَين.
وأولى الأوائل هذه قضيةٌ منفصلةٌ حقيقية؛ فإن القضية الشرطية تنقسم إلى: قضية منفصلة ومتصلة، والمنفصلة تنقسم إلى: حقيقية ومانعة جمع ومانعة خلو، والحقيقية يستحيل فيها الاجتماع والارتفاع، مثل: العدد الصحيح إما زوج أو فرد.
وإن هذه القضية تستند عليها كل قضية، حتى القضايا البديهية تعتمد على هذه القضية، من قبيل الكل أعظم من الجزء، فهذه القضية لا يصدِّق بها الإنسان إلَّا إذا سلَّم وصدَّق بقضية استحالة اجتماع النقيضَين.
تتمة: في مناقشة السفسطائيين والمشكِّكين
إن المصنف في هذه التتمة أشار إلى عدة نقاط، وهي:
السفسطة
يُقال إنه ظهرَت في اليونان القديمة في القرنَين السادس والخامس قبل الميلاد حركة مغالطة وشك، سمِّيَت بالسوفسيت، ومُعرَّبها هو السفسطة، وهذه الحركة كان يحترفها مجموعة من المحامين والمعلِّمين، وكانت هذه الحركة تنكر العلم والمعرفة، ولا تسلِّم بأي شيء. إلَّا أن الحكيم سقراط استطاع أن يهزم هذه الحركة ويدافع عن أسس التفكير الصحيح.
ويمكن مناقشة السفسطائي المنكر للحقائق بأن نقول له: أتسلِّم أنَّ هذا الارتياب والشك في الحقائق موجودٌ لديك أم لا تسلِّم؟
وبعبارةٍ أخرى نقول له: أنت تشُك في أن هذا كتاب، فهل تشُك في شكِّك هذا؟ فإن قال: لا أشك في شكي، فعلًا أنا شاكٌّ. نقول له: أنت اعترفتَ بأنك تعلَم بشكِّك، يعني أثبتَّ حقيقة من الحقائق، وهي تسليمك واعترافك بشكِّك، وحينئذٍ إذا سلَّم بذلك فيعني أنه سلَّم أيضًا في مرتبةٍ سابقة باستحالة اجتماع النقيضَين وارتفاعهما؛ لأنه لو لم يسلِّم بذلك لما اعترف بشكِّه. ومعنى ذلك أنه يعترف بمعلومتَين:
-
الأولى: أنه يعترف بأولى الأوائل، استحالة اجتماع
النقيضَين وارتفاعهما.
لكن قد يُقال: ما هي علاقة ذلك بهذه؟ فنقول: لو لم يؤمن بذلك ولم يسلِّم به، لكان معنى ذلك أنه يشُك ولا يشُك، فتصديقه بأنه يشُك يعني نفيه لتكذيبه بأنه يشُك، وهذا معنى اعترافه باستحالة اجتماع النفي والإثبات، فحينئذٍ إذا اعترف بذلك فسوف يصدِّق بأولى الأوائل.
-
الثانية: أنه يعترف ويصدِّق بشكه، يعني هو يعلم بأنه
يشك، فحينئذٍ ننتقل إلى باقي القضايا فنقول
له: أأنت موجود أم لا؟ قد يقول: إنا غير
موجود، فنقول له: إذا كنتَ غير موجود فما معنى
هذ الشك؟ أهو صادر منك أم من غيرك؟ فلا بد أن
يقول: هذا الشك صادرٌ من عندي. إذن آمن أيضًا
بوجود نفسه، وهكذا باقي الأشياء.
ولكن لو فرضنا أن هذا الذي يشك لم يعترف بأنه يشك، وقال: أنا أشك في شكي، أشك في كل شيء، فهذا من الناس المرتابين، وهو لا يدري بشيء، فحينئذٍ تسقط معه المحاجَّة.
منشأ الشك
هنا المصنِّف يشير إلى مسألةٍ مهمة، وهي أن هذا الشك ينشأ من أن بعض الناس، لا يعرف مقدِّمات العلوم، فيدخل في بعض العلوم من دون أن تتجلى مقدماتها له، فحينئذٍ يرى في مسألةٍ واحدة يمكن أن يُقام استدلال على المسألة وعلى نقيضها، فيُصاب بالاضطراب.
وطريقة علاج مثل هذه الحالة، هي لا بد على هذا المضطرب أن يقرأ المنطق ليميِّز بين البراهين والمغالطات والجدل. ومن جهةٍ أخرى إن الإنسان الذي ينكر القضايا البديهية لا بد أن توضَّح له بشكلٍ جيد؛ أي يوضَّح له ما هو المقصود من الموضوع، حتى يتصوَّره تصورًا صحيحًا، وما هو المقصود من المحمول، حتى يتصوره تصورًا صحيحًا، فإذا تصوَّرهما تصورًا صحيحًا يصدِّق. ثم من المهم أن يتعلم مثلُ هؤلاء العلوم الرياضية.
طوائف المشكِّكين
بعد ذلك ذكر المصنِّف طائفةً أخرى من المشكِّكين وهؤلاء كما يقول يؤمنون بالإنسان وبإدراكاته، ولكنهم يرتابون ويشكُّون فيما وراء ذلك، فيقولون: نحن وإدراكاتنا ونشُك فيما وراء ذلك.
وطائفة غيرها يقول عنها المصنِّف: إن هؤلاء أفضل من الطائفة السابقة؛ لأنهم انتبهوا إلى قول «نحن وإدراكاتنا» فاعترفوا بأن هذا يعني اعترافًا بوجود الإنسان وإدراكاته، ويعني ذلك الاعتراف بالحقيقة الخارجية؛ وبالتالي الاعتراف بحقائقَ كثيرة، فقالوا بدل نحن أنا، وبدل إدراكاتنا إدراكاتي، وما وراء ذلك مشكوك.
مناقشة المشكِّكين
يناقش المصنِّف هؤلاء فيقول: نحن لا ننكر خطأ الإنسان في إدراكاته؛ فالإنسان في الواقع يخطئ في إدراكاته، كما إذا تخيل الإنسان أن الشيء الحار بارد، إذا كان مصابًا بالحمَّى، وأن الشيء البارد حار، أو اللون لا يراه على حقيقته، فهذه الحالة طبيعية يخطئ الإنسان في تفكيره أحيانًا، وأحيانًا مدركاته لا تكون كاشفة ومطابقة للواقع، ولكن هذا نفسه يستفيد المصنف منه دليلًا على وجود الحقائق؛ لأنه لو لم تكن هناك حقيقةٌ خارجية لما أخطأ الإنسان.
وبعبارةٍ أخرى يريد المصنِّف هنا أن يستدل على الحقيقة بالخطأ، فيقول: نحن متى نخطئ؟ الجواب: إذا كان هناك صواب. أي إن إدراكنا إنما يكون خطأ إذا كان إدراكنا الآخر مطابقًا للحقيقة، وإلا لو لم يكن إدراكنا الثاني حاكيًا عن الموجود الخارجي ومطابقًا للواقع، لحصلَت فوضى فكرية، ولاضطربَت معارف الإنسان، ولما وقف الإنسان على شيء.
إشكال
قد يُقال: دفاعًا عن موقف الشك والارتياب، إن قول المرتاب الذي يقول بعدم حكاية العلم عن الواقع وعدم مطابقة الإدراك للخارج، ليس من الشك في شيء، وإنما هو عبارةٌ أخرى عن فهمٍ علمي لعملية الإدراك؛ فلو لاحظنا الصوت مثلًا، فإن الصوت له حدٌّ أدنى من الذبذبات وله حدٌّ أعلى، يمكن أن تتلقاه الأذن. وبعبارةٍ أخرى إن مراد هؤلاء هو أن ما يحصل في الحواس من صور لا ينطبق مع الأمور الخارجية، ولا يكون حاكيًا عنها على صورتها الواقعية؛ لأن الصوت — على سبيل المثال — الذي يحصل في حاسة السمع لا يكون مطابقًا للوجود الخارجي للصوت؛ لأنه إذا وصلنا الصوت بدرجة ذبذبة كذا يمكن أن نسمعه، وإذا وصل الصوت بذبذبة كذا فلا يمكن أن نسمع. إذن هذه الحواس، كالأذن، هي التي تكون وسائط وقنوات من خلالها يمُر الإدراك، ولا تكون حاكية عن هذه الحقائق، ولا تكون أمينة في تصوير وحكاية الواقع بما هو.
جواب الإشكال
إن الإدراكات لو قبلنا أنها لا تحكي عن الواقع، وغير كاشفة عن الواقع، فنحن نسأل: هل تعتقدون بهذا القول؟ يقولون: نعم نعتقد أن الإدراكات غير حاكية عن الواقع، فنقول لهم: من قال لكم إن هناك واقعًا خارجيًّا، وهذا الواقع الخارجي لا تحكي عنه الإدراكات؟
وبتعبيرٍ آخر أنتم تقولون إن الصوت بذبذبة عشرين إلى درجة ألفين يمكن أن تتلقاه الأذن، ولكن أقل من هذه الذبذبة أو أعلى لا يمكن أن تتلقاه الأذن، نقول لهم من قال لكم إن هناك — واقعًا — للصوت ذبذباتِه تبدأ من عشرين إلى ألفين، بينما الأعلى والأوطأ لا تسمعها الأذن؟ أليس هذا نفسه إدراكًا أم أنه ليس بإدراك؟ أتشكُّون بذلك أم لا؟ إن قالوا: لا نشك بذلك. فنقول إذن نحن نثبت أن هناك حقائق تؤمنون بها، وهذه الحقائق التي تؤمنون بها هي هذا الإدراك، وهذا الإدراك لا بد أن يكون كاشفًا عن الحقائق، وإلا لو لم يكن الإدراك كاشفًا عن الحقائق، فمن الذي قال إن حقيقة الصوت التي هي خارج دائرة السمع، يعني دون العشرين وأعلى من الألفين، حقيقةٌ موجودة في الخارج؟ إذن هذا يدل على أن هناك حقائق تؤمنون بها في الخارج، وهذا الإيمان هو الإدراك؛ فالإدراك يكون كاشفًا عما وراءه وحاكيًا عن الخارج.
مناقشة أخرى
ثم مضافًا إلى كل ذلك يقول المصنِّف في مناقشة حركة الشك والارتياب، إن هذا الكلام نفسه الذي يقوله الإنسان الارتيابي، عندما يقول يجوز أن ينطبق شيء من إدراكاتنا على الخارج، فهذا نفسه لو لاحظناه أهو حقيقة أم لا؟ يعني أيشك به أم يعلم به؟ فإن قلت: يعلم به، إذن هو في الواقع يؤمن بحقيقة من الحقائق، ومعنى ذلك أن هذه الحقيقة يمكن أن ينتقل منها إلى الإيمان بحقائق أخرى، وإذا قلت: إنه مرتاب بنفس هذه الحقيقة، يعني هو مرتاب أن الإدراكات غير مطابقة للخارج، إذن هذه القضية باطلة، والإدراكات تكون مطابقة للخارج.
إن الشاك لا بد أن يذعن بأن مَعْلومَهُ من الوجدانيات؛ إذ لا بد من أن يعترف بأنه شاك، أي إنه يعلم بشكه، لكون الشك من الوجدانيات، فإذا أقر بذلك يلزم أن يُقر ببعض الإدراكات الوجدانية الأخرى … وهكذا.
يعني الشاك بمثابة مَنْ يقول: كل كلامي كذب، فنقول له: كل كلامك كذب، وهذه القضية نفسها هي كلامك أيضًا، وهذا الكلام لا يخرج من أحد احتمالَين: إما أن يكون صادقًا أو كاذبًا، فإن كان كاذبًا، فمعنى ذلك أن كلامك الآخر لن يكون كله كذبًا؛ لأن هذه القضية التي تقول كل كلامي كذب قضيةٌ كاذبة وليست صادقة، وإن كانت هذه القضية صادقة «كل كلامي كذب» فمعنى ذلك أن بعض كلامك الذي هو نفس هذه القضية «كل كلامي كذب» لا يكون صادقًا، ففي الصورتَين لا يكون الحكم لصالحك.