الفصل التاسع

ينقسم العلم الحصولي إلى حقيقي واعتباري

أهمية هذا المطلب

ينقسم العلم الحصولي إلى حقيقي واعتباري، وهذا التقسيم هو تقسيم للعلم الحصولي التصوري، فإن المقسم في هذا التقسيم هو العلم الحصولي التصوري، كما أنه ليس كل أقسام التصور وإنما هو خصوص العلم العقلي. ويُعتبر هذا المبحث من إبداعات الطباطبائي في الفلسفة الإسلامية.

فإن التفكيك بين الإدراكات الحقيقية والاعتبارية أمرٌ مهمٌّ جدًّا في العلوم، وبالذات العلوم العقلية؛ لأنه كثيرًا ما يقع الالتباس والخلط في توظيف العلوم الحقيقية في محل العلوم الاعتبارية، أو الإدراكات الحقيقية في موضوع الإدراكات الاعتبارية، وربما يجري العكس حينما يعتمد على الإدراكات الاعتبارية في مورد الإدراكات الحقيقية، فيقع كثيرٌ من الخلط والالتباس.

وهذا ما يُلاحظ بوضوح في علم أصول الفقه، فإن الإدراكات والمعاني في علم الأصول هي إدراكاتٌ اعتبارية، بينما يجري التعامل أحيانًا مع هذه الإدراكات على أساس أنها معانٍ حقيقية؛ ولذلك قد تستخدم براهين لا تُستخدم إلا في مورد الإدراكات والمعاني الحقيقية، فيقع الالتباس والخلط، وتنشأ المشاكل؛ إذ يعتمد على برهان الدور والتسلسل، بينما المورد ليس من الموارد التي يصح فيها برهان الدور والتسلسل.

أنواع المعاني

قبل أن ندخل في بيان معنى الإدراكات الحقيقية والاعتبارية، نسترجع مطلبًا ذكرناه غير مرة، ولأهميته وعلاقته بالمقام نذكره مرةً أخرى. وهو أن المعاني الموجودة في ذهن الإنسان قد قسمناها إلى: معانٍ حسية وخيالية وعقلية، أو قُل إن المعاني الموجودة في ذهن الإنسان يمكن تقسيمها إلى طائفتَين: معانٍ جزئية ومعانٍ كلية، والمعاني الجزئية هي المعاني الحسية والخيالية، بينما المعاني الكلية هي المعاني العقلية، أو قُل المعقولات؛ فالمعقولات هي الصور الكلية في الذهن. وهذه المعقولات تنقسم إلى قسمَين؛ معقولات أولية ومعقولات ثانية، والمعقولات الثانية تارةً تكون معقولاتٍ ثانيةً منطقية وأخرى تكون معقولاتٍ ثانيةً فلسفية.

والمعقولات الأولية هي الصور العلمية الكلية المباشرة للأشياء؛ أي التي يتلقاها الذهن بواسطة الحواس مباشرةً من الواقع. وبعبارةٍ أخرى المعقولات الأولية هي ماهيَّات الأشياء في الذهن. وقد أشرنا فيما سبق إلى كيفية حصول هذه المعقولات في الذهن، وبيَّنَّا الاختلاف بين ما ذهب إليه ابن سينا والخواجة نصير الدين الطوسي وبين ما ذهب إليه صدر الدين الشيرازي؛ فإن الأخير قال بأن الصورة الحسيَّة تتعالى وترتقي إلى صورةٍ خيالية، ثم الخيالية تتعالى وترتقي إلى صورةٍ عقلية. هذه هي المعقولات الأولية.

أما المعقولات الثانية فهي تلك المعاني الكلية، التي لا تمثِّل صورًا علمية للموجودات والأشياء الخارجية المنعكسة في الذهن، وإنما هي منتزعة من المعقولات الأولية؛ أي إن المعقولات الثانوية ليست الماهيَّات والمقولات، وإنما هي معانٍ منتزَعة من المعقولات الأولية. والمعقولات الثانية يصطنعها ويخترعها الذهن أساسًا.

والمعقولات الثانية تنقسم إلى: معقولاتٍ ثانيةٍ منطقية، وهي تلك المعاني الكلية التي يكون ظرف وجودها الذهن ولا صلة لها بالخارج؛ أي إنه ليس لها مصاديق في الخارج، مثل الكلية والجزئية، المحمول والموضوع.

أما المعقولات الثانية الفلسفية، فهي تلك المعقولات التي يكون مصداقها في الخارج، مع أنها ليست معقولاتٍ ماهوية؛ فهي من ناحية ليست صورًا للأمور والأشياء العينية كالمعقولات الأولية، كما أنها لا يتلقاها الذهن مباشرةً عن طريق الحواس، كما في المعقولات الأولية، وإنما ينتزعها ويخترعها ويصطنعها الذهن بطريقةٍ خاصة، فهي من هذه الناحية كالمعقولات الثانية المنطقية، ولكنها ذاتُ مصاديق في الخارج مثل العلة والمعلول، مع العلم أن المعقولات الثانية لها دورٌ مهم وأساسي في المعرفة البشرية.

المعاني الحقيقية

إن العلم الحصولي التصوري أو قُل المفاهيم والمعاني الموجودة في الذهن تنقسم إلى‏ نوعَين:

  • (١)

    المعاني الحقيقية.

  • (٢)

    المعاني الاعتبارية.

والمقصود بالمعاني الحقيقية هي المعقولات الأولية نفسها، أو قُل هي الماهيَّات. والمعقولات الأولية، هي تلك المعاني التي تُوجَد في الخارج بوجودٍ خارجي وتُوجَد في الذهن بوجودٍ ذهني؛ أي إن المعقول الأول هو ذلك المعنى الذي يكون لابشرط من حيثُ الخارجُ ومن حيثُ الذهنُ، يعني يمكن أن يوجد في الخارج ويمكن أن يوجد في الذهن، فإذا وجد في الخارج وُجِدَ بوجودٍ خارجي، وإذا وجد في الذهن وُجِدَ بوجودٍ ذهني، مثل ماهية الإنسان تُوجَد في الخارج بوجودٍ خارجي وتُوجَد في الذهن بوجودٍ ذهني. وعلى هذا الأساس يرتبط الإنسان بالخارج من خلال الماهيَّات الخارجية. وبعبارةٍ أخرى إن ما في ذهن الإنسان وما في الخارج هو أمرٌ واحدٌ متحد من حيثُ الماهيةُ؛ فإن ماهية الإنسان التي في الخارج مثلًا هي نفس ماهية الإنسان التي في الذهن، وإن كانت ماهية الإنسان التي في الخارج متلبِّسة بوجودٍ خارجي وماهية الإنسان التي في الذهن متلبِّسة بالوجود الذهني؛ هذا هو المفهوم الحقيقي.

إذن المفهوم الحقيقي هو ذلك المفهوم الذي يُوجَد تارةً بوجودٍ خارجي فتترتَّب عليه الآثار الخارجية، ويُوجَد تارةً أخرى بوجودٍ ذهني فلا تترتَّب عليه الآثار الخارجية لذلك الوجود؛ هذه هي المعاني الحقيقية.

ولعل التسمية بالحقيقية باعتبار وقوعها في جواب السؤال ﺑ «ما الحقيقية».

المعاني الاعتبارية

المدركات الاعتبارية بخلاف المدركات الحقيقية؛ فهي عبارة عن مفاهيم تكون حيثية مصداقها أنها في الخارج وتترتَّب عليها الآثار الخارجية، ولا يمكن أن تكون في الذهن، يعني مثل الوجود، فالوجود ليس في الذهن؛ لأن حيثية الوجود هي حيثية ترتُّب الآثار الخارجية. ولو فرضنا أنه في الذهن فيعني ذلك انقلابه. إذن الوجود وصفات الوجود الحقيقية، يعني ما يتصف به الوجود، كالوجوب والإمكان والوحدة، هذه المفاهيم حيثية مصداقها أنها في الخارج؛ فما دامت حيثية مصداقها أنها في الخارج فهي مفاهيم اعتبارية، وكذلك تلك المفاهيم التي حيثيتها أنها ليست في الخارج، كالعدم، فالعدم لا مصداق له في الخارج، كما لا مصداق له في الذهن؛ لأنه لا شي‏ء، بطلان محض. إذن مفهوم العدم أيضًا مفهوم اعتباري؛ لأن حيثيته أنه لا شي‏ء في الخارج، وهو مقابل للوجود، فليس له وجودٌ ذهني ولا وجودٌ خارجي.

من هنا يتضح أن المعاني الاعتبارية حيثية مصداقها أنها في الخارج، وتترتَّب عليها الآثار الخارجية، ولا يمكن أن تكون في الذهن؛ لأنها لو كانت في الذهن للزم من ذلك الانقلاب؛ لأن حيثيتها أنها في الخارج. وتلك المفاهيم التي حيثيتها أنها ليست في الخارج، كالعدم؛ ولذلك لا تكون في الذهن؛ لأنها لا شي‏ء.

إذن المفهوم الاعتباري هو ذلك المفهوم الذي حيثية مصداقه أنه في الخارج، ولا يكون في الذهن لأنه في الخارج؛ فلو جرَّدتَه من الخارجية لانقلب إلى غيره، أو حيثية مصداقه أنه ليس في الخارج فلا يحل في الذهن؛ لأنه لو فرضنا أنه حلَّ ووُجد في الذهن لانقلب من أمرٍ ليس بموجود إلى أمرٍ موجود.

فالمفاهيم الاعتبارية هي ‏المفاهيم التي حيثية مصداقها أنها في الذهن وليست في الخارج، وهي من قبيل الكلي والجزئي، والجنس والفصل، وكافة المعقولات الثانية المنطقية. وهكذا المعقولات الثانية الفلسفية التي حيثية مصداقها أنه في الخارج، كالوجود وصفاته الحقيقية، مثل الوحدة والفعلية والخارجية.

كيفية ظهور المعاني الاعتبارية

المعاني الحقيقية يتلقاها الذهن مباشرة من الخارج، ونسبة الذهن أو النفس إلى المعقولات الأولية أو قل المعاني الحقيقية هي نسبة الانفعال؛ أي إن النفس لا توجِدُ هذه المفاهيم وإنما توجَدُ فيها فتنفعل بها، وتتلقى منها النفس بقَدْر استعدادها؛ أي إن المستفيض يأخذ من المُفيض بقَدْر ما لديه من الاستعداد، يعني هذا الوعاء يمتلئ بقَدْره؛ ولذلك يكون تلقي النفوس للعلوم مختلفًا، حسب الوعاء، وحسب الاستعداد.

بينما نسبة النفس إلى المفاهيم الاعتبارية ليست نسبة الانفعال، وإنما هي نسبة الفعل، يعني أن النفس هي التي تخترع وتصطنع المعاني والإدراكات الاعتبارية، ولكن هذا الاختراع ليس عملًا موهومًا وجزافيًّا، وإنما هو يجري وَفْق قوانينَ ذهنيةٍ دقيقة، حلَّلها المصنِّف تحليلًا علميًّا مفصلًا في كتابه «أصول الفلسفة».

لكن في بداية الحكمة لم يفصِّل هذه المسألة، واكتفى بأن أشار إليها إشارةً عابرة، لكي يمهِّد للبيان الوافي الذي ذكره في نهاية الحكمة. المهم أنه لا بد أن تكون هذه المسألة واضحة؛ فإن الفرق بين المفهوم الحقيقي والاعتباري، هو أن نسبة الذهن إلى الإدراكات الحقيقية ليست نسبة الفعل، وإنما هي نسبة الانفعال، يعني يتلقاها الذهن. بينما نسبة الذهن والنفس للمعاني والإدراكات الاعتبارية نسبة الفعل والاصطناع والاختراع والإيجاد. طبعًا هذا إنما يتحقق ضمن شروطٍ وأحوالٍ وآليةٍ محدَّدة، وليست العملية جزافية.

نسبة المعاني الحقيقية والاعتبارية إلى مصاديقها

إن نسبة المفاهيم الحقيقية إلى مصاديقها هي بنحو نسبة الكلي إلى أفراده؛ أي كنسبة الماهية إلى مصاديقها، بينما نسبة المفاهيم الاعتبارية إلى مصاديقها هي ليست نسبة الماهية إلى أفرادها ومصاديقها.

إذن المعنى والمفهوم الحقيقي يمثِّل تمام ماهية الفرد، ومأخوذ في ماهية وحدِّ الفرد، أما المعنى الاعتباري فإنه كمعنى الوجود عندما ينطبق على مصداقه في الخارج، فليس هو بنحو انطباق الماهية على فردها؛ أي ليس هو بنحو يكون جزءًا للمصداق كانطباق الإنسان على زيد.

وبعبارة أخرى عندما نقول: «زيد موجود»، فليست الموجودية مأخوذة في حدِّ زيد؛ لأن حدَّ زيد هو الإنسانية، والإنسانية مأخوذة فيها الناطقية والحيوانية. من هنا يقولون إن المعنى الحقيقي صدقُه على مصاديقه بنحو صدق الكلي على أفراده، بينما نسبة المعنى الاعتباري إلى أفراده هي نسبة المفهوم إلى مصداقه.

نتائج

إذا اتضح ذلك فالمصنِّف يذكر بعض النتائج، التي تترتَّب على تصنيف المعاني إلى حقيقية واعتبارية:

  • (١)

    لو عثَرنا على مفهومٍ يُحمل على الواجب والممكن، يعني هو مشتركٌ معنوي، كما في قولنا: الباري موجود، والإنسان موجود، أو الباري حي، والإنسان حي، أو الباري عالم، والإنسان عالم، فإن هذا المفهوم الذي يُحمَل على الواجب والممكن لا يمكن أن يكون مفهومًا ماهويًّا؛ أي لا يمكن أن يكون معنًى حقيقيًّا، وإنما هذا المفهوم مفهومٌ اعتباري.

  • (٢)

    بعض المفاهيم تُحمل على أكثر من مقولة، كالحركة، فإنها تصدُق على أكثر من مقولة؛ إذ تصدُق على مقولة الكيف «الحركة الكيفية» فنقول: هذا الكيف يتحرك، يعني اللون يتغير من أصفر إلى أحمر مثلًا، وتصدُق على حركة الكم، «الحركة الكمية»، فنقول: هذا طوله يزداد، وهكذا باقي المقولات. إذن الحركة تصدُق على مقولاتٍ متعددةٍ متباينةٍ بتمام الذات، وهذا يعني أن الحركة مفهومٌ اعتباري وليس مفهومًا حقيقيًّا، وإلا لو كانت مفهومًا حقيقيًّا للزم أن تكون الحركة في آنٍ واحد كيفًا وكمًّا وجوهرًا وعرضًا، وكما قرأنا فيما سبق أنه لا يمكن أن يكون الشي‏ء الواحد مجنسًا بجنسَين، فالإنسان لا يمكن أن يكون جوهرًا وكمًّا مثلًا.

  • (٣)

    أن المفاهيم الاعتبارية ليس لها حد، يعني لا يمكن أن نحصل لها على تعريفٍ حقيقي؛ لأن الحد عادةً يتألف من الجنس والفصل، وهذان يرتبطان بالماهية؛ ولذلك قالوا: إن الحد بالماهية وللماهية، يعني إذا كانت هناك ماهية يكون لها حد؛ حيثُ نُحلِّل هذه الماهية ونجزِّئها إلى أجزائها التي هي الجنس والفصل؛ لأن الحد والتعريف كما قلنا فيما سبق هو التجزئة والتحليل، وإذا لم يكن هذا المفهوم مفهومًا ماهويًّا فهو مفهومٌ بسيطٌ غير قابل للتجزئة والتحليل.

إذن المفاهيم الاعتبارية، يعني المعقولات الثانية، لا حد لها؛ لأن الحد للماهية، وهذه المعقولات ليست مفاهيم ماهوية، كما أنها لا تكون حدًّا لشي‏ء، يعني لا تُؤخَذ في حد ماهية؛ لأن الحد كما أنه للماهية هو أيضًا بالماهية؛ فعندما تريد أن تأخذ أمرًا ما في حدِّ أمرٍ آخر فلا بد أن يكون هذا الحد ماهية، تأخذ الجنس، كالحيوان مثلًا في تعريف الإنسان.

مصطلحاتٌ أخرى للاعتباري

  • (١)

    نستعمل الاعتباري في مقابل الأصيل، كما قلنا فيما سبق في بحث أصالة الوجود، إن الأصيل هو ما يكون منشَأ لترتُّب الآثار؛ ولذلك كان الوجود أصيلًا؛ لأنه منشَأ لترتُّب الآثار، أما الاعتباري فما لا يكون منشَأ لترتب الآثار؛ فهذا المعنى الذي ذكرناه هنا للاعتباري غير المعنى الذي ذكرناه في أصالة الوجود.

  • (٢)

    الاعتباري هو الذي ليس له وجودٌ منحاز؛ أي إن المعنى الاعتباري هو المعنى الانتزاعي الذي يكون له منشَأ انتزاع، مثل الزوجية، فإن الزوجية كزوجية لا جود مستقلًّا لها، وإنما وجود الزوجية بوجود منشَأ انتزاعها، ومنشَأ انتزاع الزوجية هو الزوجان.

    إذن الاعتباري بهذا المعنى هو ما ليس له وجودٌ مستقل منحاز، وإنما له منشَأ انتزاع، وهو معنًى انتزاعي منتزَع من منشأ انتزاعه، فالاعتباري بهذا المعنى يُرادف الانتزاعي، وهو ما ليس له بحذاء، وإنما الموجود منشَأ انتزاعه، بينما غير الاعتباري بهذا المعنى هو الحقيقي الذي له وجودٌ مستقلٌّ منحاز.

  • (٣)

    أحيانًا يُطلَق الاعتباري على بعض الأمور بالتشبيه والمناسبة، من قبيل إطلاق الرأس على زعيم القوم، تقول مثلًا: زيد رأس وبكرٌ مرءوس. ففي الواقع أن زيدًا لم يُضَف له شي‏ء، وبكر لم يُنقَص منه شي‏ء، ولكن هذا الأمر الاعتباري يعني أن زيدًا وصفناه بأنه رأس، تشبيهًا له بالرأس بالنسبة إلى بدن الإنسان، فهذه المناسبة هي المصحِّحة للاستعمال، والمصحِّحة لهذه النسبة. ونسبة الرأس إلى القوم كنسبة الرأس إلى اليد؛ ولذلك عبَّرنا عنه بالرأس.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥