في إثبات ذاته تعالى
طرق الوصول إلى الله تعالى عديدة، ويمكن إيجازها بما يلي:
الطريق الأول
غير أن الفطرة ربما تتعرض للمسخ والتشويه، إثر عواملَ متنوِّعة، فينحرف الإنسان ويزيغ ويتردَّى في متاهات الشرك والإلحاد. لكن الله تعالى بعث إليه الأنبياء لينتشلوه من تلك المتاهات ويُعيدوه إلى توحيد الفطرة، إن شاء أن يستقيم.
الطريق الثاني
طريق الخَلقْ والآثار؛ فإن له تعالى في كل شيء آيةً تدل عليه:
ويمكن إجمال هذا الطريق فيما يلي:
الطريق الثالث
الطريق العقلي الفلسفي، وهو الأسلوب الذي اشتُهر بين الحكماء في الاستدلال على وجوده تعالى، وقد ذكر الطباطبائي في هذا الفصل برهانَين من البراهين التي استدل بها الحكماء عليه سبحانه.
ومن المعلوم أن هذه الطرق مترتبة في درجة شيوعها؛ فأولها أقربها للوجدان وأكثرها شيوعًا بين كافة الناس في كل زمان ومكان؛ فمهما تباينَت مستوياتهم واختلفَت عصورهم، لا يمكن أن تتعطل أو تموت فطرتهم.
أما الطريق الثالث فيظل في دائرة أصحاب النظر والتحقيق والتأمل العقلي، وقد يتعذر سلوكه لعامة الناس. وفيما يلي بيان لنموذجَين من أدلة هذا الطريق:
البرهان الأول: برهان الصدِّيقِين
يقول الحسين عليه السلام في دعاء عرفة: «كيف يُستدل عليك بما هو في وجوده مفتقر إليك؟ أيكون لغيرك من الظهور ما ليس لك حتى يكون هو المظهِر لك؟ متى غبتَ حتى تحتاج إلى دليل يدُل عليك؟ ومتى بَعُدتَ حتى تكون الآثار هي التي تُوصل إليك؟ عميَت عينٌ لا تراك عليها رقيبًا! إلهي أمرتَ بالرجوع إلى الآثار فأرجعْني إليك بكُوَّةِ الأنوار وهداية الاستبصار حتى أرجعَ إليك.»
-
(١)
حقيقة الوجود مرسلة، بمعنى أنها صِرفة ومطلقة غير مقيَّدة بأي قيدٍ وحدٍّ؛ لأن حقيقة الوجود بسيطة، ولا شيء من البسيط بمحدود، ولا شيء من المحدود ببسيط؛ لأن المحدود مركَّب من وجدان وفقدان.
فالإرسال هنا هو اللابشرط، والإطلاق. أما الصرافة فهي بشرط لا من الأغيار، بمعنى هي التجرد عن الأغيار. نعم الحقيقة المرسَلة عين الصِّرفة مصداقًا لكنهما متغايران مفهومًا.
-
(٢)
حقيقة الوجود الصِّرفة تأبى العدم في ذاتها، ويمتنع طروء العدم عليها بذاتها؛ لأن العدم نقيضها، فطروءُه عليها يعني اجتماع النقيضَين.
-
(٣)
إذن الوجود بذاته من المحال طروء العدم عليه، وهذا هو معنى الوجوب.
أما ملا صدرا فقد أوضح برهان الصدِّيقِين بتقريرٍ آخر، وهو ما ذكره المصنِّف في نهاية الحكمة، وَفْق ما يأتي:
-
(١)
التسليم بالواقعية، وأن هناك موجودًا ما.
-
(٢)
هذا الموجود إما ماهية أو وجود؛ أي إن الأصيل أحدهما، وقد تبيَّن أن الوجود هو الأصيل.
-
(٣)
الوجود حقيقةٌ واحدةٌ بسيطة.
-
(٤)
حقيقة الوجود الواحدة لها مراتبُ متعددة؛ أي إن التعدد والكثرة هو في مراتب الوجود، فهو حقيقةٌ مشكِّكة ذاتُ مراتبَ من الشدة والضعف والكمال والنقص.
-
(٥)
إذن حقيقة الوجود واجبة وليست ممكنة؛ لأنها إن كانت ممكنة تستند إلى غيرها ولا غير للوجود.
أما وجود الممكن فهو من حيثُ هو ليس بوجود؛ لأن حيثيته تعني الفقر والحاجة، فهو وجود بحيثيةٍ واعتبارٍ آخر؛ أي باعتباره قائمًا بغيره ومُفاضًا من الواجب، وبما أن حقيقة الوجود لا ثاني لها، فإنها لا تقوم بغيرها وإنما هي قائمة بذاتها، فهي واجبة.
وببيانٍ آخر إن حقيقة الوجود الواحدة الأصيلة صِرفة لا يخالطها غيرها؛ لأنه لا غير للوجود، فهذه الحقيقة تعادل الوجوب الذاتي الأزلي. يعني أن حقيقة الوجود من حيثُ هي تعني وجوب الوجود.
أما وجود الممكن فقد يُقال: إن الممكن أيضًا موجود فلماذا لا يكون واجبًا؟
الجواب: إن وجود الممكن من حيثُ هو ليس وجودًا صرفًا خالصًا، وإنما وجود الممكن ظلٌّ وتجلٍّ لوجوده تعالى؛ لأن وجود الممكن هو وجود باعتبار ارتباطه بوجود الواجب؛ أي إن وجود الممكن من حيثُ هو وبذاته لا يُعتبر وجودًا، وإنما هو وجود باعتبارٍ وحيثيةٍ أخرى؛ لأن حيثية وجود الممكن أنه محدود، ومتأخر في وجوده، ووجوده وجود ضعيف فقير، وهذه المحدودية تنشأ من كونه معلولًا؛ أي إن مرتبة وجود الممكن مرتبةٌ تتصف بالحاجة والفقر والإمكان والمحدودية؛ وبالتالي فإن حقيقة الوجود هي الوجود الواجبي دون وجود الممكِن.
البرهان الثاني: برهان الإمكان
ويمكن إيضاحه بهذه الخطوات:
- أولًا: أن هناك موجودًا ما، أو قُل هناك موجوداتٌ في هذا العالم. وهذه مسألةٌ بديهية؛ فالعالم ليس عدمًا محضًا وخيالًا، وإنما في هذا العالم موجوداتٌ وأشياءُ كثيرة.
- ثانيًا: الموجود بحسب الحصر العقلي؛ إما أن يكون واجبًا أو ممكنًا لأن المواد ثلاث؛ إما وجوب أو إمكان أو امتناع، فالموجودات قطعًا ليست بممتنعة، فهي إذن إما واجبة أو ممكنة.
- ثالثًا: الممكن من حيثُ هو بحاجة إلى علة تُوجِب وجوده، فالممكن من حيثُ هو يستوي وجوده وعدمه، فلكي يُوجَدَ الممكن لا بد من علةٍ تُوجِب وجوده؛ لأن الشيء ما لم يجب لا يُوجَد.
- رابعًا: هذه العلة إما أن يكون وجوبها بالذات أو بالغير، فإذا كانت بالذات فهو، وإذا لم تكن بالذات فلا بد أن يكون وجوبها بالغير، فإذا كان وجوبها بالغير احتاجت إلى علة لإيجادها؛ لأن الشيء ما لم يجب لا يوجد، وهكذا الذي يوجبها إما واجب بذاته، فهذا يعني أننا وصلنا إلى الواجب بالذات، أو ليس واجبًا بذاته، فيكون واجبًا بالغير، فحينئذٍ ننتقل إلى الرابعة، وهكذا، وبالنتيجة لا بد أن نقف على واجب بالذات، لاستحالة الدور والتسلسل، كما برهنَّا فيما سبق.