في العقل المفارق وكيفية حصول الكثرة فيه لو كانت فيه كثرة
الماهية المجردة لا تتكثر تكثرًا أفراديًّا
قال المصنف: إن العقل المجرد نوعٌ واحد، ولكن هذا النوع الواحد منحصرٌ بفرد؛ أي له مصداقٌ واحد.
فمثلًا العقل الأول يقولون عنه هكذا: بما أنه مجرد فهو نوع بنفسه، وهو منحصر بفرد. وكذلك العقل الثاني والثالث إلى العقل العاشر، فكل واحد من هذه العقول يقولون هو نوعٌ برأسه وليس له أفراد سوى هذا الفرد.
ولقد مرَّ البرهان عليه في الفصل السادس من المرحلة الخامسة، وهنا يُبرهِن عليه المصنِّف مع فارق في أسلوب الاستدلال.
وقد استدلوا على ذلك بما يلي:
كل ممكن زوج تركيبي من ماهية ووجود، والعقل المفترَض هنا مركَّب من ماهية ووجود، وهو لا يتكثر؛ لأن التكثر إنما يتم بمقارنة المادة، والعقل مجردٌ مفارقٌ للمادة.
ويقولون لو فرضنا أن العقل المجرد متكثر، بمعنى له أفراد كثيرة، فهذه الكثرة لا تخرج من ثلاثة احتمالات:
-
(١)
إما أن تكون تمام ذات الماهية.
-
(٢)
أو بعض ذات الماهية وجزء الماهية.
-
(٣)
أو خارجة من ذات الماهية، وإذا كانت خارجة من الذات فهي إما لازمة كالزوجية أو مفارقة.
والأقسام الثلاثة كلها مستحيلة؛ لأنه لو فرضنا أن الكثرة تمام الذات أو جزء الذات، أو لازمة للذات، فيعني ذلك أنه كلما وُجد فرد فلا بد أن يكون كثيرًا؛ لأن الكثرة هي تمام ذات الماهية أو جزء ذات الماهية أو لازمة لذات الماهية، فكل كثيرٍ مؤلف من أفراد، وكل فرد يجب أن يكون كثيرًا، ثم هذه الكثرة مؤلَّفة من أفراد، وكل فرد يجب أن يكون كثيرًا، وهكذا يتسلسل الأمر إلى ما لا نهاية، ولن نصل إلى فردٍ واحد. وبالنتيجة لا يتحقق فردٌ أبدًا، وإذا لم يتحقَّق فردٌ فلا كثير؛ لأن الكثير هو مجموع الأفراد. وهذا خُلف ما فرضنا أنه كثير.
إذن الاحتمالان الأول والثاني باطلان، فلا يبقى إلا الاحتمال الأخير، وهو أن تكون الكثرة خارجة عن ذات الماهية، مفارقة، وهذا الكلام أيضًا غير تام لأن الشيء اللاحق لا بد أن تكون الذات قابلة له، وحتى تكون الذات قابلة له لا بد أن تكون مادية؛ لأن المادة هي التي تقبل أن تكون لها حالةٌ منتظرة؛ أي تقبل الأعراض، بينما المجرد مجرد عن المادة، وعلى هذا الأساس فلا يمكن أن تكون الكثرة خارجة مفارقة.
إذن كل ماهية كثيرة الأفراد تكون مادية، وهذا ينعكس بعكس النقيض إلى أن كل ماهية غير مادية، ومجردة لا تكون كثيرة الأفراد؛ فالماهية المجردة ليس لها أفراد كثيرة، وإنما هي نوعٌ منحصر بفردٍ واحد.
إمكان الكثرة الأفرادية في العقل المفارق
لو فرضنا أن فردًا من أفراد النوع المادي، — كالإنسان — يتحرك بالحركة الجوهرية، أي يتكامل بفعل ارتياضٍ روحي وعبادات، فهو يتصاعد ويطوي مدارج الكمال من عالم المادة إلى عالم المثال، ومن عالم المثال إلى عالم العقل؛ لأن الحركة الجوهرية تقتضي التحرُّر من المادة والقوة وبلوغ الفعلية، والوصول إلى التجرُّد التام، فإذا تجرد تجردًا تامًّا وأصبح عقلًا مستفادًا، فحينئذٍ لا يكون نوعًا منحصرًا في فرد، فزيد مثلًا الذي بلغ هذه الحالة، — حسبما يقولون — لا يكون نوعًا منحصرًا في فرد، وإنما يبقى مصداقًا من مصاديق الإنسان، يعني تُمكِن الكثرة الفردية فيه؛ لأنه يستصحب تميُّزه الفردي الذي له عندما كان ماديًّا.
الكثرة النوعية في العقل المفارق
إذا كانت الكثرة الفردية في العقل المفارق مستحيلة، ولم تكن له أفراد، فهو نوعٌ منحصر في فرد. نعم يمكن أن تُوجَد منه أنواعٌ متباينة، وكل نوعٍ منحصر في فرد، وهذه الكثرة النوعية، والأنواع المتعددة، يمكن أن نتصوَّرها على وجهَين:
-
(١)
طولية: يعني العقل الأول هو النوع الأول منحصر في فرد، ثم هذا يصدُر منه عقلٌ ثانٍ، والذي هو نوع ثانٍ أيضًا منحصر في فرد أيضًا، ويصدُر منه ثالث ورابع وخامس إلى العاشر، كما قال المشَّاءون بذلك.
-
(٢)
عرضية: بمعنى يُوجَد عقل في عرض عقلٍ آخر، وكلٌّ منهما نوعٌ مستقل برأسه، كما قال الإشراقيون؛ أي ليس بينهما عليَّة ومعلولية، بمعنى ليس بينهما طولية؛ لأن الطولية تعني العليَّة والمعلولية هنا.
فالكثرة العرضية أن تكون هناك عقولٌ متعددة، وكل واحدٍ منها نوعٌ مباين للنوع الآخر، وكلٌّ منها في عرض الآخر؛ أي في رتبةٍ واحدة وعلى صعيدٍ ومستوًى واحد، بمعنى لا يكون أحدها علة للآخر ولا بعضها معلولًا للآخر، وإنما هي بمجموعها معلولة لعقلٍ واحد فوق هذه المجموعة بتمامها.