الفصل الحادي عشر

في العقول الطولية وأول ما يصدر منها

ذهب الحكماء إلى أن الصادر الأول منه تعالى لا بد أن يكون واحدًا، وهذه الفكرة تقوم على أساس أن الباري تعالى واحدٌ بسيط في‏ ذاته من جميع الجهات وليس فيه جهاتٌ كثيرة، فإذا كان كذلك يمتنع أن يصدُر منه الكثير. بناءً على أن الواحد لا يصدُر عنه إلا واحد، فلا يمكن أن تصدُر منه الكثرة، سواء كانت الكثرة أشياءَ كثيرةً مجردة أو أشياءَ كثيرةً مادية.

وعلى هذا الأساس قالوا لا بد أن يكون الصادر من الباري تعالى في أول الأمر عقلًا واحدًا، وهذا الواحد واحد بالوحدة الحقة الظلِّية؛ لأنه ظلٌّ وتجلٍّ لوجوده تعالى، بينما الباري واحد بالوحدة الحقة الحقيقية.

ثم إن هذا الصادر الأول، كما في تعبيرهم، يصدر منه ثانٍ، والثاني يصدر منه ثالث، وهكذا، حتى تتعدَّد الجهات، فيمكن أن يصدر الكثير تبعًا لتعدُّد الجهات. وإن الجهات المتعددة ترجع إلى السلوب والنقائص؛ فالسلوب والنقائص يعبَّر عنها بالجهات والكثرات.

إن الصادر الأول الذي قالوا به متقدم في الوجود على غيره من الموجودات الممكنة، فإذا كان متقدمًا عليها كان علة لها، فهو علةٌ متوسطة بين كل الموجودات والباري تعالى. وكأن ذلك من قبيل الطاقة الكهربائية في الضغط العالي؛ إذْ لا نستطيع أن نضي‏ء بها المصباح مباشرة، وإنما لا بد من محوِّلة، هذه المحوِّلة مهمتها تخفيف القدرة العالية للطاقة الكهربائية، يعني تجعلها منخفضة، ثم بعد ذلك تكون هذه الكهرباء قابلةً لأن نستعملَها في الإضاءة أو في تشغيل الأجهزة التي تعمل بالكهرباء مثلًا.

هنا أيضًا قالوا إن الفيض الذي يصدُر من الباري تعالى؛ لأنه بسيط وغير متعدِّد الجهات، فلا بد أن يصدر منه صادرٌ أول، والصادر الأول يصدُر منه ثانٍ، يعني يكون الصادر الأول علةً متوسطة بين الباري وبين الموجودات الإمكانية، والجهات في الثاني تكون أكثر، فيصدُر منه ثالث، وهكذا.

إشكال

هذا الإشكال طرحه المتكلمون وهو إشكالٌ معقول؛ حيثُ يُقال: أليس في ذلك تحديدٌ لقدرة الله تعالى المطلقة الواجبة؛ لأن الله سبحانه وتعالى قادر على كل شي‏ء، فإذا كان قادرًا على كل شي‏ء، فلا معنى لأن نقول إنه لا تصدُر منه هذه المخلوقات مباشرة، وإنما أول ما يصدر منه العقل الأول، ثم بعد ذلك يصدُر منه ثانٍ، وثالث، ثم تصدُر منه‏ المخلوقات؟

جواب الإشكال

قالوا إن القدرة إنما تتعلق بالممكن؛ أي إن العجز هنا في القابل لا في الفاعل.

فالباري تعالى قدرته لا تتعلق إلَّا بالممكنات، أما المُحالَات الذاتية كسلب الشي‏ء عن نفسه واجتماع النقيضَين وارتفاعهما، فهي أمورٌ عدمية، والأمور العدمية المحالة لا تتعلق بها القدرة.

وكون هذه الأمور لا تتعلق بها القدرة لا يعني ذلك تقييدًا لإطلاق قدرته، وإنما يعني أن المُحالات الذاتية أساسًا أمورٌ عدميةٌ غير قابلة لأن تتعلق بها القدرة.

من هنا قالوا: إن هذا ليس تقييدًا لقدرة الله؛ لأن صدور الكثير من حيثُ هو كثير من الواحد من حيثُ هو واحدٌ ممتنع، والباري تعالى واحدٌ بسيط ليس فيه تعدُّد في الجهة، فيكون صدور الكثير من حيثُ هو كثيرٌ منه ممتنعًا. كما أن المُحالات الذاتية لا تقبل تعلُّق القدرة بها.

لكن بعض حكماء الإسلام وجدوا أن قاعدة الواحد هذه تصدق على الفاعل الموجب المجبور خاصة، أما الباري تعالى فمن الخطأ تطبيق هذه القاعدة على كيفية إفاضته وخلقه لعالَم الإمكان؛ لأن الباري فاعلٌ مختار، إن شاء فعل وإن لم يشأ لم يفعل.

تعدُّد الجهة في العقل الأول

العقل الأول أو الصادر الأول من الباري تعالى تتعدَّد فيه الجهة؛ لأن العقل الأول ممكن، وكل ممكن زوجٌ تركيبي مؤلف من ماهية ووجود، فهو لأنه ممكنٌ ذو ماهية، فيكون مركبًا من ماهية ووجود، وهذا تعدُّد في الجهة.

ومن ناحيةٍ أخرى يكون هذا العقل الأول عاقلًا لذاته وعاقلًا للواجب تعالى وعاقلًا للعقل الثاني الذي يصدُر منه فتتعدَّد فيه الجهة، من هذه الناحية.

قالوا تتعدَّد فيه الجهة لأنه يعقل ذاته، ويعقل الواجب، ويعقل العقل الذي يصدر منه، فيمكن أن يكون مصدرًا لأكثر من معلول، ولكن يحتاج إلى أن يصدُر منه ثانٍ تتعدَّد فيه الجهات أكثر، وثالث تتعدَّد فيه الجهات أكثر، وهكذا، حتى نصل إلى العقل الذي اعتبروه العقل العاشر، وعبَّروا عنه بالعقل الفعال، والجهات التي فيه كثيرة ومتعددة، لكي يصدُر عنه عالم المثال، باعتبار أن عالم المثال يقع تحت عالم العقل ومعلولٌ لعالم العقل والجهات فيه كثيرةٌ جدًّا، ولا تفي بصدورها الجهات المحدودة في العقل الأول أو الثاني أو الثالث، فلا بد من صدور سلسلة عقول، وكل عقلٍ يصدر تتعدَّد فيه الجهات، حتى نصل إلى جهات الكثرة في العقل العاشر، كما يفترضون، إلى عددٍ يفي بصدور عالم المثال وما فيه من جهات كثرةٍ عديدة.

وعلى هذا الأساس قالوا بوجود عقولٍ طوليةٍ كثيرة، أنهاها المشَّاءون إلى عشرة.

غير أن المصنِّف قال: لا يُوجَد لدينا طريقٌ لإحصائها، فيمكن أن تكون عشرة، ويمكن أن تكون أقل أو أكثر.

هذا الكلام بناءً على وجود هذه العقول التي قالت بها الفلسفة القديمة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥