في العقول العرضية
الإشراقيون قالوا بوجود عقولٍ عرضية، كل عقل في عرض الآخر، وليس أحدها علة ولا معلولًا للآخر، وإنما هذه العقول العرضية كلها معلولة لعقلٍ واحد، وهذه العقول العرضية — كما قالوا — مضاهيةٌ ومقارنةٌ للأنواع المادية في هذا العالم، فكل واحدٍ منها يدير ما يحاذيه من النوع، بواسطة ما في عالم المثال من الصور الجزئية الكثيرة التي لأفراد ذلك النوع؛ فإن عالم المثال هو العلة لعالم المادة، كما مرَّ في الفصل التاسع من هذه المرحلة، كما أنه معلولٌ للعقول العرضية (كما قال الإشراقيون)، أو أنه معلولٌ للعقل الفعال (كما قال المشَّاءون)، وسيأتي في الفصل الثالث عشر.
وتسمَّى هذه العقول بالمُثل الأفلاطونية، أو المفارقات النورية، أو أرباب الأنواع؛ لأن هذه الفكرة ابتكرها أفلاطون، ثم تشبَّعَت بعناصرَ من الحضارات الشرقية في الأفلاطونية الجديدة في مدرسة الإسكندرية، وهي تفترض أن كل واحدة من هذه المجردات هي نسخةٌ نموذجية لنوع من الأنواع الموجودة في عالم الطبيعة، وهي تشتمل على كل كمالات النوع، ومهمَّتها تدبير النوع في عالم الطبيعة كالإنسان، يعني تقع في مرتبةٍ وسطى بين الباري تعالى والإنسان.
ومع أنه لا علية ولا معلولية بين هذه العقول، غير أنهم يقولون إن ربَّ نوع الإنسان مثلًا أكمل وأقوى وجودًا من رب نوع الماء مثلًا، فقوام عرضية هذه العقول هو عدم وجود العلية والمعلولية بينها، سواء كانت متكافئة في شدة الوجود وضعفه أم كانت متفاضلة.
لكن هذه العقول أنكَرها المشَّاءون فقالوا: إن الذي يقوم بعملية تدبير النوع في عالم الطبيعة هو العقل الفعَّال الذي هو العقل العاشر.
إن هذه المُثل الأفلاطونية، أو المفارقات النورية، أو أرباب الأنواع، تُوجد في تفسيرها مذاهبُ شتى، ويُقال إن أصح الاقوال فيها يذهب إلى أن لكل نوعٍ من الأنواع المادية فردًا مجردًا في أول الوجود، فالإنسان مثلًا له فردٌ مجرد، وهذا الفرد المجرد يشتمل على كمالات الإنسان، فيقوم بتدبير الإنسان، يعني يدبِّر الصورة النوعية للإنسان؛ أي يُخرِج هذه الأنواع المادية من حالة القوة إلى الفعل، فمثلًا الإنسان يُخرِجه من كونه نطفة إلى علقة إلى مضغة إلى جنين إلى إنسان؛ لأنه هو الذي يدبِّر هذا النوع ويحرِّكه حركةً جوهرية، فإذا تحرَّك جوهره تتحرَّك أعراضه تبعًا لذلك.
أما الدليل على كلامهم هذا فقد قالوا:
-
(١)
إن القوى النباتية؛ أي الكائن الحي النباتي، لها قوى غاذية ونامية ومولدة، فهي تتغذى وتنمو وتتكاثر. وكل كائنٍ حي ينمو بهذا الوضع الخاص يطلَق عليه نبات.
ولما كانت القوى النباتية متغيِّرة بتغير النبات، ومتحلِّلة بتحلُّل النبات، إذن هي لا شعور ولا إدراك لها، فلا يمكن أن تكون هذه القوى هي الأسباب الموجدة لكل هذا التنوع، على ما فيها من نظامٍ دقيق يحيِّر الألباب والعقول، فلا بد أن يكون لهذا النظام المتقَن ربٌّ للنوع، وهو جوهرٌ عقلي يدبِّر نوع النبات، ويُوصِل النبات إلى غايته وإلى كماله، فيكتمل هو بذلك.
لكن المصنِّف ناقش في ذلك، فقال: لماذا ننسب ذلك إلى رب النوع، ولماذا لا نقول: إن هذا الحديد له قابليةٌ للمطاوعة بالطرق، وإن قوَّته أتت من صورته النوعية؛ أي من كونه حديدًا، من الحديدية التي فيه. وهكذا كل شيء في هذا العالم منشَأ ما له من آثار صورته النوعية التي أودعَها الله تعالى فيه وليس المفارقات النورية.
-
(٢)
إن الأنواع الموجودة في عالمنا هذا، على النظام الجاري فيها، ليست واقعة بالاتفاق؛ أي ليست فاقدة للعلة الفاعلة، وإنما لها نظام، ونظامها الدائمي يمثِّل عِللًا حقيقية، يعني هذه الأنواع الموجودة في عالمنا موجودةٌ ضمن نظام، وهذا النظام يمثِّل نظام العلية والمعلولية، ونظام العلية يعني أنه لا بد أن تكون هناك عللٌ خارج هذه الأنواع، وهذه العِلل هي جواهرُ مجردة تُوجِد هذه الأنواع، وتعتني بتدبير أمرها، ولا بد أن تكون هذه العِلل مجردة؛ لأن العلل المادية لا تفعل إلَّا بمشاركة الوضع، ولا وضع لمعدوم، فالعلة المادية ليس من شأنها الإيجاد، وإنما الذي يُمكِن منها هو التأثير في ماديٍّ آخرَ موجودٍ وتغييره.
وليس صحيحًا ما قالته الطبيعيات القديمة من أن الآثار الموجودة في هذه الأنواع تعود إلى الأمزجة وإلى الأفاعيل والتخاليط؛ لأن كلام الطبيعيات هذا ليس عليه دليل.
إذن افترضوا أن كل نوعٍ مثالي كلي مهمَّته تدبير الأفراد التي تحته، وليس معنى كونه كليًّا أنه يجوز أن يصدق على كثيرين، بمعنى الكلية المنطقية، وإنما معنى كونه كليًّا أنه واسع بسبب تجرده، فتكون نسبته إلى كافة الأفراد نسبةً واحدة.
وهذا الكلام أيضًا لا يقبله المصنِّف؛ لأنه يقول: إن هذه الآثار المترتِّبة على كل نوع، تستند إلى صورتها النوعية؛ فالنار لأنها نار تحرق، والدهن لأنه دهن دسم، والذهب لأنه ذهب يلمع، وإلا فلو لم تستند إلى صورتها النوعية وإلى ذاتها فلا تتحقَّق نوعية النوع؛ ولذلك فالآثار المختصة بكل نوعٍ مصدرها هو الصورة الجوهرية؛ فإنها هي المصدر القريب لهذه الآثار، وإن وجود آثارٍ مشتركة دليلٌ على أن هناك جوهرًا يمثِّل موضوعًا ومحورًا مشتركًا لهذه الآثار.
إذن الفاعل الموجد لهذا النظام الجاري في النوع، والذي يفعل الصور النوعية، هو الله سبحانه وتعالى.
لكنهم قالوا إن الذي يفعل الصور النوعية، بناءً على الإيمان بالعقول، هو جوهرٌ مجرد مفارق للمادة، هو الذي يُفيض الصور النوعية على المادة؛ فالمادة المستعدة لقبول الصورة، يُفيض عليها الجوهر المجرد هذه الصورة؛ ولذلك تختلف الصور باختلاف استعدادات المواد؛ فهذه المادة تقبل صورة الحديدية، وتلك تقبل صورة الذهبية، وهكذا.
وأما كون هذا الجوهر المجرد الذي يفترضونه هو عقل عرضي أو أنه عقل طولي، فلا يدُل عليه هذا الكلام.
-
(٣)
الاستدلال بقاعدة إمكان الأشرف، وهذه القاعدة تقوم على أساس أن كل ممكن من الممكنات؛ أي كل شيء في عالم الإمكان إذا وُجد وكان بمستوًى خسيسٍ ومتدنٍّ من المميزات والخصائص، فيتقدَّم عليه ما وجوده أعلى وأشرف منه، من حيثُ الصفاتُ؛ إذ هناك ممكنٌ أشرف منه يشتمل على كلِّ كمالاته، وهو مثاله المجرد، وهذا الأشرف لا بد أن يكون مصدرًا للأدنى والأقل والأخس.
فمثلًا إذا كان يوجد حديد في عالم الطبيعة والمادة، فهو ناقص وأخس وبمستوًى متدنٍّ، فيلزم وجودُ حديدٍ آخرَ مجرَّد له من الصفات ما هو بدرجةٍ أكملَ وأشرف.
يقول المصنِّف في مناقشة هذا الكلام: إنه يتم بناءً على التسليم بأن قاعدة إمكان الأشرف تجري في المقام، ولكنها لا تجري؛ لأن هذه القاعدة تثبت لنا مثلًا وجود إنسانٍ مجردٍ حاوٍ جميع كمالات الإنسان. لكن صدق مفهوم الإنسان على ذلك الموجود في العالم المجرد لا يوجب كونه حقيقة إنسانًا، بل يمكن أن يكون صادقًا عليه مفهوم الإنسان وهو ليس بإنسان؛ لأن صدق المفهوم تارةً يكون صدقًا ماهويًّا مأخوذًا في حد الشيء، كصدق الإنسان على زيد، وأخرى لا يكون صدقًا ماهويًّا، وإنما المفهوم ينطبق على مصداقه، كما في المعقولات الثانية.
وهنا يمكن أن يكون العقل الفعال هو الذي يحتوي جميع كمالات الإنسان، ويصدُق عليه أنه إنسان وإن لم يكن إنسانًا حقيقة، لكن يصدُق عليه أنه إنسانٌ لأجل اشتماله على كمالات هذا النوع الأرضي الموجود في عالم الطبيعة وهو الإنسان، لكنه حقيقةً ليس بإنسان، وإنما هو عقل.
كذلك ينطبق على العلم الحضوري أنه علم، مع أنه لا تصدق عليه ماهية العلم؛ لأن العلم كيفٌ نفساني، وماهيةٌ من الماهيَّات، بينما العلم الحضوري وجود، والوجود غير الماهية. كما أن العلة واجدة لكل كمالات المعلول، لكن حقيقة العلة غير المعلول.
إذن قاعدة إمكان الأشرف لا تنطبق في المقام؛ أي إن جريان قاعدة الأشرف لإثبات مدَّعى الإشراقيين في العقول العرضية مشروطٌ بكون الأشرف والأخس مشتركَين في الماهية النوعية، حتى يدل وجود الأخس في الخارج على إمكان الأشرف بحسب ماهيته.
لكن المصنِّف صرح بعدم اشتراطها بهذا الشرط في نهاية الحكمة، وإن لم يستلزم ذلك صحة جريانها هنا.