الفصل الثاني

في إثبات وحدانيته تعالى

ذكر المصنِّف في هذا المبحث برهانَين على توحيده تعالى، وهما:

البرهان الأول

إن حقيقة واجب الوجود أنه حقيقةٌ واحدة، وحدة صِرفة، واحد بالوحدة الحقة، فإذا كان كذلك فمن المُحال فرض التكثُّر فيه؛ إذ كلما فُرض له ثانٍ يعود أولًا، لعدم وجود المائز بين الأول والثاني، بخلاف ما إذا كان واجب الوجود واجبًا بالوحدة العددية، فإذا فرضنا ثانيًا بالوحدة العددية يكون مع الأول ثانيًا وليس أولًا.

وبكلمةٍ أخرى إن حقيقة الوجود ثابتة وموجودة، والوجود لا غير له، وهذه الحقيقة موجودة بنفسها؛ إذ لو كان هناك وجودٌ آخر لعنى وجود واجبٍ آخر غير هذا الواجب؛ أي غير حقيقة الوجود التي هي الواجب تعالى، فلكي يكون هذا الواجب وذلك الواجب اثنَين لا بد أن نفترض مائزًا يميز أحدهما عن الآخر، فإذا لم يكن هناك ما يميز أحدهما عن الآخر فكل ما نفترضه ثانيًا سيعود في حقيقته أولًا.

يعني كي يكون هناك واجبٌ آخر فلا بد أن نفترض ما يتميز به الواجب الثاني عن الواجب الأول، وإلَّا لو لم يكن هناك ما يمتاز به الواجب الثاني عن الأول، لعاد الثاني أولًا، فتكون حقيقة الوجود حقيقةً واحدةً صِرفةً لا ثاني لها.

إذن كل ما نفترضه واجبًا آخر يعود نفس الواجب الأول؛ لأن الواجب حقيقةٌ واحدةٌ صِرفة لا ثاني لها، وهو واحد بالوحدة الحقَّة.

البرهان الثاني

هذه الحجة تبتني على أنه لو كان هناك واجبٌ ثانٍ غير الواجب الأول، فلا بد أن يوجد ما به الامتياز وما به الاشتراك، يعني لا بد أن يوجد ما به الامتياز بين الأول والثاني وما به الاشتراك بين الأول والثاني، ومعنى ذلك أن يكون كل واحدٍ منهما مركبًا؛ فالواجب «أ» يكون مركبًا مما به الامتياز عن الواجب «ب» وما به الاشتراك مع الواجب «ب».

وهذا يعني أن واجب الوجود يكون مركبًا، والمركب مفتقر إلى أجزائه، وذلك يعني افتقار الواجب، وافتقار الواجب ينافي غناه.

إذن الواجب واحد، ولا يمكن أن يكون غير واحد؛ لأن فرض كونه غير واحد يعني تركُّبه، وتركُّبه يعني فقره وحاجته، وهو غنيٌّ عن العالمين.

تتمة: شبهة ابن كمونة

ابن كمونة هو عز الدولة سعد بن منصور الإسرائيلي اليهودي مؤلف كتاب «تنقيح الأبحاث في البحث عن الملل الثلاث» في الرد على الإسلام والمسيحية وإثبات اليهودية. وقد ردَّ عليه زين الدين بن محمد الملطي المتوفى سنة ٧٨٨ﻫ في «ﻧﻬﻮض ﺣﺜﻴﺚ اﻟﻨﻬﻮد إﻟﻰ دﺣﻮض ﺧﺒﻴﺚ اﻟﻴﻬﻮد».

وملخَّص شبهة ابن كمونة تقول: لماذا لا نفترض وجود واجبَين، ولكنْ كلٌّ منهما يكون بسيطًا وليس مركبًا، فإذا كان بسيطًا فإنه يختلف عن الواجب الآخر بتمام الذات وبتمام الماهية.

فلنفترض واجبَين، أحدهما يختلف عن الثاني تمام الاختلاف؛ فأحد هذَين الواجبَين يختلف عن الواجب الآخر بتمام الماهية والحقيقة، وكلٌّ منهما بسيط؛ إذ ليس هناك ما يشتركان به حتى يتركَّب كلٌّ منهما من «ما به الاختلاف» و«ما به الاشتراك» فكلاهما بسيطٌ غير مركَّب، ويختلف حقيقةً بتمام الذات عن حقيقة ذلك الواجب البسيط الآخر، وكل واحدٍ منهما واجبُ وجودٍ بذاته.

قد يُقال: كيف يصدُق واجب الوجود على كل واحدٍ منهما؟

الجواب: إن مفهوم واجب الوجود يكون منتزعًا من الاثنَين، ويصدُق عليهما صدقًا عرضيًّا لا صدقًا ذاتيًّا.

جواب شبهة ابن كمونة

  • (١)

    تقدَّم فيما سبق في بحث وحدة الوجود التشكيكية ما نُسب إلى المشَّائين من أنهم يقولون: إن حقيقة الوجود ليست حقيقةً واحدة، بل هو حقائقُ متعددة متباينة بتمام‏ الذات.

    وقد أجبنا عليه بأن حقيقة الوجود حقيقةٌ واحدة؛ لأنه لو لم تكن حقيقةً واحدة، وكانت حقائق مختلفة متباينة بتمام الذات، للَزِم من ذلك أن يكون مفهوم الوجود مُنتزَعًا من مصاديقَ متباينة من حيثُ هي متباينة بتمام الذات، وهذا مُحال؛ لأن المفهوم والمصداق واحدٌ ذاتًا، وإنما الفارق أن وجود المفهوم وجودٌ ذهني، بينما وجود المصداق وجودٌ خارجي؛ فالنار الذهنية والخارجية واحدة ذاتًا، ولكن الفارق أن وجود النار الذهنية وجودٌ ذهني، ووجود النار الخارجية وجودٌ خارجي تترتَّب عليه الآثار.

    فإذا انتزعنا الواحد من حيثُ هو واحد من الكثير من حيثُ هو كثير، كان الواحد من حيثُ هو واحد كثيرًا من حيثُ هو كثير، وهو مُحال.

    والكلام نفسه يُقال هنا؛ فإن انتزاع مفهوم واجب الوجود من مصاديقَ مختلفة متباينة بتمام الذات، فهو مُحال لأنه يعني انتزاع الواحد من حيثُ هو واحدٌ من الكثير من حيثُ هو كثير، فيكون الواحد بما هو واحد كثيرًا، وهو مُحال؛ لأن مفهوم الواجب واحد، وأن هذا المفهوم الواحد لا يمكن انتزاعه من مصاديقَ متباينة من حيثُ هي متباينة؛ لأن المفهوم والمصداق واحدٌ ذاتًا، وإنما الفارق في كون وجود المفهوم وجودًا ذهنيًّا، ووجود المصداق وجودٌ خارجي، فلو انتُزع المفهوم الواحد من حيثُ هو واحد من المصاديق المتعددة من حيثُ هي متعددة، كان المفهوم الواحد من حيثُ هو واحد كثيرًا من حيثُ هو كثير، وهو مُحال.

  • (٢)

    إن شبهة ابن كمونة تعتمد على القول بوجود ماهية للواجب، وقد بيَّنَّا في الفصل الثالث من المرحلة الرابعة، أن الواجب ماهيته وجوده؛ أي إن واجب الوجود غير مركَّب من ماهية ووجود، وإنما الممكن زوجٌ تركيبي مركَّب من ماهية ووجود.

  • (٣)

    هذا يلزم من اقتضاء الماهية للوجود، وقد تقدَّم فيما سبق أن الأصيل هو الوجود لا الماهية، ولا معنى لأن يكون الاعتباري مقتضيًا للأصيل.

نتائج

بناءً على ما تقدم، يتفرع ما يلي:

  • أولًا: أن وجود الواجب غير محدود، وإنما هو وجودٌ مطلق؛ أي إن الواجب غير محدود بحدٍّ عدمي، بينما الممكن محدود بحدٍّ عدمي؛ ولذلك فإن أي ممكن من الممكنات تكون له حدود ينتهي ويقف عندها؛ فعندما تقول: إن حد الإنسان أنه حيوانٌ ناطق، فمعنى ذلك أنه يملك شيئًا يقوِّمه، وهو أنه حيوان وأنه ناطق، يمتلك هذا ويتوفَّر على هذا، يتوفَّر على أنه حيوان وعلى كونه ناطقًا، ولكن يفقد ما عدا ذلك؛ فهو ليس بحجر، وليس بكتاب. إذن هو محدود بهذه الحدود.

    وعلى هذا الأساس فإن الموجودات الممكنة محدودة، بينما الواجب ليس بمحدود، فلو لاحظنا أي موجود من الموجودات الممكنة، نجد أنه يملك شيئًا أو أشياءَ ويفقد أشياءَ كثيرة، وهذا يعني أنه يمثِّل فقدانًا ووجدانًا، بينما الواجب تعالى صِرف الوجود، وحقيقة الوجود المطلَقة، التي لا يحدُّها حدٌّ عدمي ولا يُسلب منها شي‏ء، يعني أنه لا حد له أساسًا.

  • ثانيًا: أن الواجب تعالى ليس مركبًا بأي نحو من أنحاء التركيب، فهو بسيط؛ لأنه لو كان مركبًا لعنى ذلك أنه مفتقر إلى أجزائه، فإذا كان مفتقرًا كان محتاجًا، وإذا كان محتاجًا لم يكن واجبًا؛ لأن الوجوب مناطُ الغنى.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥