الفصل الثالث

في أن الواجب تعالى هو المبدأ المُفيض لكل وجودٍ وكمالٍ وجودي

إنه هو الخالق تعالى، وهو المفيض لكل وجود، يعني هو المبدأ وهو العلة والسبب الصادر عنه كل وجودٍ وكل كمالٍ وجودي، وفيما يلي الأدلة على ذلك:

البرهان الأول

تبيَّن فيما سبق أن كل موجود غير الباري تعالى هو ممكن، والإمكان يعني تساوي النسبة إلى الوجود والعدم، يعني أن الشي‏ء الممكن مسلوبٌ عنه ضرورة الوجود وضرورة العدم؛ أي تستوي نسبته إلى الوجود والعدم، فلكي يخرج من حالة الاستواء لا بد من علة تُخرِجه من حالة الاستواء إلى الوجود، يعني تُوصله إلى درجة الوجوب؛ لأن الشي‏ء ما لم يجب لا يوجد؛ أي لا يكون وجود الشي‏ء بسبب أولوية وجوده على عدمه؛ لأن القول بالأولوية، الذي ذهب إليه بعض المتكلمين، باطل، وإنما يُوجَد الشي‏ء إذا بلغ درجة الوجوب، فالذي يُوصل الممكن إلى درجة الوجوب ويجعله مقتضيًا للوجود، لا بد أن يكون واجب الوجود؛ لأن كل سبب وكل علة تمنح الوجوب لهذا الموجود، لا بد أن تكون واجبة بالذات، وإذا لم تكن واجبة بالذات لا بد أن تكون منتهيةً إلى واجب بالذات.

فالكتابة الموجودة مثلًا لا بد أن تصل إلى درجة الوجوب حتى تُوجَد؛ فالكتابة سببها حركة القلم، وسبب حركة القلم حركة اليد، وحركة اليد سببها إرادتك، وبالنتيجة سببها أنت، وأنت وجوبك بالغير طبعًا، فإذا كان الوجوب بالغير فلا بد أن ينتهي إلى وجوب بالذات.

البرهان الثاني

كل ما هو موجود من الموجودات في عالم الإمكان، وكل ما صدق عليه أنه شي‏ء من الأشياء في عالم الإمكان، فإن وجوده وجودٌ رابط، وما دام وجوده رابطًا، فلا بد أن يكون هذا الوجود متعلقًا بغيره؛ لأن الوجود الرابط ليس قائمًا بنفسه، وإنما هو قائمٌ بغيره، كالأشعة؛ فإن الأشعة لا تكون سائبة ومستقلة بنفسها، وإنما هي منبثقة من الشمس؛ وبالتالي وجود الأشعة وجودٌ غير مستقل، وإنما هو وجودٌ تابع لوجود الشمس.

فإذا كان الأمر كذلك فإن هذه الموجودات التي في عالم الإمكان كلها وجودها وجودٌ ظلي؛ أي هي عبارة عن تجلِّيات وأشعة؛ فهي في وجودها وبقائها كشعاع الشمس؛ لأنه لو انطفأَت الشمس لحظةً واحدة عن الفيض لانطفأ الضوء، ولو توقَّف الفيض من الواجب تعالى آنًا ما لانطفأ عالم الإمكان وتلاشى.

إذن هذا الوجود الرابط الفقير، الذي هو عين الفقر وعين الحاجة وعين التعلق، لا بد أن ينتهيَ إلى وجود غني مستقل في ذاته، هو مصدر الفيض، وهذا هو الواجب تعالى.

تتمة: في الرد على الثنوية

الثنوية هم القائلون بإلهَين؛ أحدهما إلَه الخير وخالقه، وهو النور، والآخر إلَه الشر وخالقه، وهو الظلمة.

قالت الثنوية: إن الوجود ينقسم إلى خير وشر، وهما متضادان، باعتبار أنهم افترضوا أن الخير والشر أمران وجوديان، فالنسبة بينهما نسبة الضدَّين. ولمَّا كان الخير والشر ضدَّين، فلا يمكن أن يصدُر الضدان من مبدأ واحد، بناءً على أن الواحد لا يصدُر منه إلا واحد باعتبار ضرورة السنخية؛ لأن هذه القاعدة تقوم على أساس وجود سنخية بين العلة والمعلول، فلا يمكن أن تصدُر الحرارة من الثلج أو البرودة من النار.

ومن هنا قالوا: الخير لا يصدر إلا من جهة الخير، والشر لا يصدر إلا من جهة الشر؛ لأن الخير والشر أمران وجوديان متضادان، فلا بد أن يكون هناك إلهان؛ أحدهما للخير، والآخر للشر.

جواب الإشكال

يذكر المصنِّف جوابَين؛ جوابًا لأرسطو، وجوابًا لأفلاطون، وجواب أفلاطون هو الذي يدحض هذه الشبهة.

جواب أفلاطون

الكلام الذي يقوله الثنوية يصح لو كانت هذه المقدِّمات صحيحة، ولكن هذه المقدِّمات غير صحيحة؛ فهنا يُوجَد لدينا ثلاث مقدمات:

  • الأولى: يُوجَد خير وشر في هذا العالم.
  • الثانية: الخير والشر أمران وجوديان.
  • الثالثة: ما دام الخير والشر أمرَين وجوديَّين فهما ضدان.

إذن لا يمكن أن يصدُر الضدان من جهةٍ واحدة.

نسلِّم أن هناك خيرًا وشرًّا، ولكن لا نسلِّم أن الشر أمرٌ وجودي؛ أي إن في هذا العالم خيرًا فقط، والخير أمرٌ وجودي، أما الشر فليس بأمرٍ وجودي وإنما هو أمرٌ عدمي.

فإذا كان الخير أمرًا وجوديًّا فإنه يحتاج إلى مبدأ يُفيضه، أما الشر فلما كان أمرًا عدميًّا فلا يحتاج إلى مصدر يُفيضه؛ لأن العدم لا شي‏ء، واللاشي‏ء عدمٌ لا يحتاج إلى علة.

ويمكن أن نمثِّل لذلك بقتل الإنسان مظلومًا؛ فإن عملية القتل لو حلَّلناها لوجدنا فيها أمرًا وجوديًّا وأمرًا عدميًّا، ولكن نحن لعدم التدقيق، والتأمل العقلي الدقيق في هذه المسألة، يختلط علينا الأمر، ونتصوَّر أن الأمر الوجودي هو الشر، بينما الشر منبعه هو الأمر العدمي.

بيان ذلك: أن القتل فيه عدة عناصرَ وجودية، وهي:

  • (١)

    قدرة الإنسان القاتل على القتل؛ فهذا كمال، بينما لو كان الإنسان عاجزًا، لو كانت يده مشلولة مثلًا، لما استطاع أن يستعمل السلاح؛ فهذا ليس كمالًا، إذن الكمال‏ خير.

  • (٢)

    السلاح نفسه، السيف إذا كان حادًّا يتمكن أن يقطع بشدة؛ فهذا كمال له، أما لو كان السيف غير حاد فإنه ناقصٌ غير كامل، والكمال أمرٌ وجودي، وهو خير.

  • (٣)

    رقبة المقتول إذا كانت صلبة، فإنها حالةٌ غير طبيعية، أما إذا كانت مرنة فهذه حالة طبيعية. وهذا كمالٌ لها، والكمال أمرٌ وجودي.

إذن الشر هو إزهاق الروح، يعني الشر هو انقطاع الفيض؛ فإنه يُوجَد ارتباط بين الروح والبدن، فعندما يُفصل الرأس عن البدن، فإن الله سبحانه يتوقَّف فيضه، وبذلك تنفصل الروح عن البدن. فإذا انفصلَت الروح نقَص البدن وذهَب كماله وأصبح ناقصًا؛ لأنه انعدم منه شي‏ء؛ ومن هنا نقول إن هذه العملية تمثِّل الشر.

جواب أرسطو

يبدو أن أرسطو يقول بوجود الشر وإن كان قليلًا، بخلاف أفلاطون الذي يعتقد بأن الشر عدمٌ محض.

وعلى هذا قال أرسطو إن الموجودات خمسة:

  • (١)

    أن يكون خيرًا محضًا.

  • (٢)

    أو شرًّا محضًا.

  • (٣)

    أو يكون الخير فيه أكثر من الشر.

  • (٤)

    أو الشر فيه أكثر من الخير.

  • (٥)

    أو يستوي فيه الخير والشر.

فإذا كان خيرًا محضًا، فمما لا إشكال فيه أن وجوده خيرٌ محض ليس فيه شر. وإذا كان خير الشي‏ء أكثر من شره، فمما لا إشكال فيه يكون وجوده أيضًا خيرًا؛ لأن انعدامه يعني تفويت هذا الخير. والذي يستوي فيه الخير والشر لا يكون موجودًا؛ لأنه سوف يكون وجوده ترجيحًا بلا مرجِّح. والذي يكون شره أكثر من خيره فهو أيضًا لا يكون موجودًا؛ لأنه يكون ترجيحًا للمرجوح؛ أي الشر. والذي هو شرٌّ محضٌ لا يكون‏ موجودًا.

إذن ما موجود هو الذي يكون خيرًا محضًا، كالأمور المجردة عن المادة، التي ليس فيها إلا الخير، أو يكون خيره أكثر من شره، كالموجودات المادية، فهذا يكون موجودًا حتى يتدارك الخير الذي فيه. وأما الأقسام الأخرى الباقية التي هي شرٌّ محض أو شرُّها أكثر من خيرها أو يتساوى فيها الخير والشر فكلها غير موجودة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥