الفصل الخامس

في علمه تعالى

في هذا الفصل يقع الكلام في عدة مسائل:

  • الأولى: في علم الحق تعالى بذاته.
  • الثانية: في علمه تعالى بغيره قبل الإيجاد.
  • الثالثة: في علمه بغيره بعد الإيجاد.

علمه تعالى بذاته

الله سبحانه وتعالى عالم بذاته، وعلمه بذاته علمٌ حضوري، وذلك لأنه تعالى مجرد عن المادة، وكل مجرد فهو عقل وعاقل ومعقول، والعاقل هو المدرك لذاته، فالباري تعالى مدرك لذاته، حاضر لذاته، وعلمه بذاته علمٌ حضوري؛ لأن المجرد ليس لديه إلا العلم الحضوري، ولا علم حصوليًّا لديه.

علمه بغيره قبل الإيجاد

تبيَّن فيما سبق أنه لا يُوجَد في عالم الوجود حقيقة سوى الحق، فهو الموجود بالذات، وهو يعلم بأفعاله قبل وجودها؛ لأنه ما دام فاعلًا لهذه الأشياء فهو متقدِّم رتبةً على فعله، وهذا يعني أنه تعالى عالم بغيره قبل الإيجاد.

وبعبارةٍ أخرى هو يعلم بكل شي‏ء يخلقه قبل وجوده، وإن علمه بالأشياء في مرتبة ذاته قبل وجودها، هو علمٌ إجمالي في عين الكشف التفصيلي. ولكي تتضح هذه المسألة فلا بد أن نستذكر ما قرأناه فيما سبق، نذكرها في نقاط:

  • الأولى: تبيَّن فيما سبق أن كل مجرد يكون حاضرًا لذاته وعالمًا بذاته، فالباري تعالى باعتباره مجردًا فهو حاضرٌ لذاته وعالمٌ بذاته بالعلم الحضوري.
  • الثانية: تقدَّم أيضًا في هذه المرحلة أن الباري تعالى هو المُفيض والمبدأ لكل عالم الإمكان، ولكل ما سواه في هذا الوجود.
  • الثالثة: عرفنا كذلك أن المُفيض والمبدأ والمُعطي للشي‏ء لا بد أن يكون واجدًا له؛ لأن فاقد الشي‏ء لا يعطيه. إذن مُعطي الوجود والكمال الوجودي لا يُمكِن أن يكون فاقدًا لذلك الوجود أو الكمال الوجودي.

إذا اتضحَت هذه النقاط نقول: إن الله سبحانه وتعالى باعتباره مُفيضَ هذا الوجود والكمال الوجودي، فهو واجدٌ لكل كمالٍ وجودي في مقام ذاته.

إذن هو تعالى عالم بكل الوجودات والكمالات الوجودية؛ لأن ذات الباري تعالى باعتبارها معطيةً لكل وجودٍ وكل كمالٍ وجودي، فهي واجدةٌ لكل وجودٍ وكل كمالٍ ‏وجودي.

من هنا فهو عالمٌ بكل وجودٍ وكل كمالٍ وجودي في مقام ذاته قبل الإيجاد وقبل الخلق، باعتباره عالمًا بذاته، وذاته تشتمل على كل وجودٍ وكل كمالٍ وجودي، فهو عالم بكل وجودٍ وكل كمالٍ وجودي في مرتبة ذاته.

إذا اتضح هذا نقول: إن علمه بذاته علمٌ حضوري؛ أي إن ذاته حاضرةٌ لذاته، ولكن علمه بالأشياء قبل وجودها علمٌ إجمالي يشتمل على التفاصيل، يكون منبعًا للتفاصيل؛ أي هو علمٌ إجمالي بمعنى أنه بسيط.

وهنا أيضًا لا بد أن نستذكر ما قلناه في الفصل الرابع من المرحلة الحادية عشرة؛ حيثُ ذكرنا أن التعقُّل على ثلاثة أنواع: عقل بالقوة، وعقل بالفعل وهو العقل التفصيلي، وعقل بالفعل ولكن من دون أن تتميز بعض المعقولات عن بعضها الآخر، وهذا ما عبرنا عنه بالعقل البسيط الإجمالي، الذي يشتمل على كل التفاصيل؛ أي يكون منبعًا لكل التفاصيل. ومثَّلْنا لذلك بمن يريد أن يقرأ قصيدة ويحفظها، فالقصيدة تبدأ تتدفَّق بشكلٍ تدريجي بيتًا بيتًا.

والباري تعالى عالم قبل الإيجاد بكل وجود، وكل كمالٍ وجودي في مقام ذاته، وعلمه بسيطٌ إجمالي فيه كل التفاصيل؛ أي يكون علمه بالأشياء قبل الإيجاد بنحو العلم الإجمالي في عين الكشف التفصيلي. وليس المراد بالتفصيل هنا تميُّز الأشياء بعضها عن بعضها الآخر كما في النوع الثاني المارِّ الذكر من التعقل، وإنما المراد من التفصيل هنا هو الوضوح؛ فإنه يعلم بها علمًا بسيطًا واضحًا؛ لأن كل وجودٍ وكل كمالٍ وجودي معلومٌ لديه؛ فهو علمٌ إجمالي؛ أي هو علمٌ بسيط، في عين الكشف التفصيلي وهو العلم الواضح؛ فهو تعالى يعلم بالأشياء قبل وجودها، ولا يعزُب عنه مثقالُ ذرة في الأرض ولا في ‏السماء.

وإنما يكون هذا العلم باعتبار أن كل ما سواه من الموجودات هي معلولة له، وهي منتهية إليه إما بلا واسطة أو بواسطة أو بوسائط؛ وبالتالي هي قائمة الذات به قيام الرابط بالمستقل، فتكون حاضرةً عنده بوجوداتها إن كانت مجردة، وحاضرةً بصورها المجردة إن كانت مادية، فهي معلومة له علمًا حضوريًّا في مرتبة وجوداتها، وهي بأنفسها علم؛ فإن العلم عين المعلوم بالذات، كما مرَّ في الفصل الأول من المرحلة السابقة.

علمه بغيره بعد الإيجاد

كذلك له علمٌ حضوريٌّ تفصيلي بما سوى ذاته من الموجودات في مرتبة ذواتها، يعني بعد وجودها، ولكن هذا العلم خارج عن ذاته. وإن علمه بها يقتضي العلم بما لديها من‏ علم. كما أن له علمًا حضوريًّا تفصيليًّا بالأشياء في مرتبة ذاته قبل إيجادها، وهو عين ذاته، وهذا العلم ثابتٌ بعد الإيجاد، حتى بعد زوال المخلوقات؛ لأنه عينُ ذاته.

تتمة: معنى السميع والبصير

عندما نقول: الله سبحانه وتعالى سميع بصير، فهل السمع والبصر من الصفات المستقلة عن العلم، أو يمكن إرجاع صفة السمع والبصر إلى العلم؟

هنا وقع خلاف؛ فبعضهم قال بأنها من الصفات المستقلة عن العلم بحسب المفهوم، وبعضهم قال إن مرجع السمع والبصر إلى العلم.

إنك عندما تقول: فلانٌ يسمع، فهذا يعني أنه يعلم بأشياء من خلال أذنه؛ أي عن طريق السمع، وهي تختلف عن العلوم التي يحصِّلها عن طريق البصر؛ لأن للمسموعات آلة السمع، وللمبصرات آلة البصر.

فإذا فرضنا أن هناك موجودًا مجردًا يسمع من دون آلة سمع ويبصر من دون آلة بصر، فلا معنى لأن نقول: إن علمه بالمسموعات هو عن طريق آلة السمع؛ لأنه ليس لديه آلة سمع، وعلمه بالمبصرات، عن طريق البصر؛ لأنه لا آلة بصرٍ لديه. إذن السمع بالنسبة إليه تعالى هو علمه بالمسموعات، والبصر هو علمه بالمبصَرات.

فمفهوم السمع والبصر على هذا الأساس يكون قسمًا من أقسام العلم، وهو العلم بالمسموع والعلم بالمبصَر. هذا بالنسبة لعلمه تعالى، أما نحن فإن السمع لدينا هو العلم الحاصل عن طريق آلة السمع؛ أي عن طريق الأذن، والبصَر هو العلم الحاصل عن طريق آلة البصر؛ أي عن طريق العين.

تنبيه وإشارة: في الأقوال في علم الباري تعالى

ذكر المصنِّف في هذا التنبيه والإشارة الاتجاهات والأقوال في علم الباري تعالى، وهي:

القول الأول

ذهب إليه هشام بن عمرو الفوطي والأصم من أصحابه، وملخَّصه:

أن الباري تعالى يعلم بذاته دون مخلوقاته ومعلولاته، باعتبار أن الذات المتعالية أزلية فهي معه فهو يعلم بذاته، أما كل معلول من معلولاته فهو حادث، فهو لا يعلم به علمًا قديمًا.

لكن المصنِّف ناقش في ذلك فقال: إن العلم بالمخلوقات والمعلولات في الأزل، لا يستوجب كون هذه المعلولات والمخلوقات موجودة منذ الأزل؛ لأنه يُمكِن أن يعلم بهذه الموجودات قبل وجودها على ما بيَّنَّاه، فإن هناك ثلاثة أقسامٍ لعلم الباري، هي علمه بذاته، الذي هو عين ذاته، وهو علمٌ حضوري، وعلمه بالموجودات قبل وجودها، وهو عينُ ذاته، وهو علمٌ حضوري أيضًا، وعلمه بالموجوداتِ بعد وجودها، وهو علمٌ تفصيليٌّ حضوريٌّ خارج عن ذاته.

إذن العلم بالموجودات قبل وجودها لا يعني أن هذه الموجودات لا بد أن تكون موجودة منذ الأزل لكي ‏يعلم بها، وإنما يمكن أن يعلم بها قبل وجودها.

وهذا القول مبني على انحصار العلم الحضوري في علم الشي‏ء بنفسه، أما غير علم الشي‏ء بنفسه فيعتبره صاحب هذا الرأي علمًا حصوليًّا تابعًا للمعلوم، بينما ذكرنا فيما سبق أن العلة المجردة تكون عالمة بمعلولها المجرد علمًا حضوريًّا. وقد أوضحنا أيضًا في هذا الفصل أنه له تعالى علمٌ حضوريٌّ بمعلولاته قبل وجودها في مرتبة ذاته، وله أيضًا علمٌ حضوريٌّ بالموجودات بعد وجودها في مرتبة هذه الموجودات.

القول الثاني

وهو منسوبٌ إلى المعتزلة، وهذا القول يرى أن للماهيَّات ثبوتًا عينيًّا قبل وجودها، يعني هناك حالة بين العدم والوجود، وهذه الحالة تكون الماهيَّات ثابتة فيها، فهو تعالى يعلم بالماهيَّات قبل وجودها.

لكن هذا القول مبنيٌّ على افتراض أن هناك حالةً بين الوجود والعدم، وهي ثبوت الماهية الممكنة مع أنها لا موجودة ولا معدومة، وقد ذكرنا فيما سبق أنه لا يمكن تعقُّل حالة بين الوجود والعدم. إذن لا يمكن أن يتحقَّق الثبوت للماهيَّات الممكنة التي تكون لا موجودة ولا معدومة؛ فهذا القول أيضًا باطل.

كما يرد على هذا القول ما سيرد على القول الرابع والأقوال التالية، من عدم كفايته لتصوير العلم التفصيلي بالأشياء في مرتبة الذات.

القول الثالث

وهذا القول منسوب إلى الصوفية، وهو يرى أن للماهيَّات الممكنة ثبوتًا علميًّا يتبع الأسماء والصفات، وهذا الثبوت هو المتعلق لعلم الباري تعالى قبل وجود الماهيَّات؛ فالصوفية يرَون أن الماهيَّات ثابتة بنحو التبعية للأسماء والصفات الإلهية وليس بنحو الاستقلال. ويسمُّون هذه الثابتات أعيانًا ثابتة.

وبعبارةٍ أخرى إن الصوفية ذهبوا إلى أن هناك عالمًا مستقلًّا هو عالم الأسماء والصفات، في قبال العوالم الأخرى، وهذا العالم كما قال بعضهم هو عالمٌ عظيم جدًّا. وهذا العالم عالم أسماء الله وصفاته فيه لوازم، ومن لوازمه الماهيَّات الثابتة ثبوتًا علميًّا قبل وجودها، يعني أن الماهيَّات الممكنة لها ثبوتٌ علمي في ذلك العالم، الذي هو عالم الأسماء والصفات، وهذا الثبوت هو المتعلق لعلم الباري قبل وجود هذه الماهيَّات.

فهم يشتركون مع المعتزلة في القول بثبوت المعدومات، لكن المعتزلة يقولون بالثبوت العيني، وهم يقولون بالثبوت العلمي في الأذهان العالية والنشأة العلمية.١
وهم يجعلون الأعيان الثابتة مظاهرَ للأسماء والصفات. قال في شرح فصوص الحكم:٢ فالأشخاصُ مظاهرُ للحقايق الخارجية، كما أنها (أي الحقايق الخارجية) مظاهرُ للأعيان الثابتة، وهي مظاهرُ للأسماء والصفات.

وفي الجواب على ذلك ذكر المصنِّف أننا قلنا: إن الماهيَّات ليست موجودةً قبل وجودها العيني الخاص، يعني بناءً على القول بأصالة الوجود واعتبارية الماهية، فالماهية أمر اعتباري؛ لأن الماهيَّات هي تجليات وحدود الوجود، فلا يمكن أن يكون عندنا حد دون أن يكون هناك محدود، ولا يمكن أن ننتزع ماهية من دون منشَأ لانتزاعها، وهو الوجود الإمكاني، الوجود المحدود، بينما مفروض كلام الصوفية أن الماهيَّات لها تعيُّنٌ وثبوتٌ علمي قبل الوجود، بينما أصالة الوجود واعتبارية الماهية تنفي ‏ذلك؛ فإنه قبل أن يُوجَد الوجود لا ماهية، أو قل قبل المحدود لا حد، فلا معنى لثبوت الماهيَّات قبل الوجود، حتى وإن كان هذا الثبوت ثبوتًا علميًّا لازمًا لعالم الأسماء والصفات، وليس ثبوتًا عينيًّا استقلاليًّا.

مضافًا إلى أنه لا معنى لإثبات العلم الحصولي في المجردات العقلية (لاحظ: حاشية الطباطبائي على الأسفار، ج٦، ص١٨٦).

القول الرابع

وهو المنسوب إلى أفلاطون؛ فأفلاطون يرى أن هناك عالمًا، وذلك العالم تُوجَد فيه نماذج ونسخ من هذا العالم. وبعبارةٍ أخرى يعتقد أفلاطون أن لكل نوع من الأنواع المادية الموجودة في عالم الطبيعة نسخةً ونموذجًا في عالمٍ آخر، وهذه النسخة مجرَّدة، ولكنها تشتمل على كل الكمالات.

يعني أن هناك مفارقاتٍ للمادة وهي المفارقات النورية التي هي المُثل الإلهية، وهي تشتمل على كل كمالات الأنواع الموجودة في عالم الطبيعة؛ ولذلك يعبِّر عنها بأرباب الأنواع؛ لأنها هي التي تدبِّر هذه الأنواع الموجودة، وهي التي تُخرِجها من حالة القوة إلى حالة الفعلية، ومن الاستعداد إلى الكمال.

وعلى هذا الأساس فإن هناك مفارقًا نوريًّا ومثلًا إلهيًّا، يكون واجدًا ومشتملًا على كل الكمالات الممكنة للنوع المادي. وإن هذه المفارقات وهذه المُثل الإلهية المشتملة على كل الكمالات تكون عالمةً بما في الطبيعة، باعتبار أن كلًّا منها نموذجٌ لما في عالم الطبيعة من أنواع، وعلم الباري تعالى التفصيلي هو علمه بهذه المفارقات النورية، يعني أن علمه بهذه المفارقات النورية والمُثل الإلهية المجردة في ذلك العالم هو علمه بما لديها من علم، وبما أن كل واحدٍ منها هو ربٌّ لنوعٍ من هذه الأنواع الموجودة في عالم الطبيعة ويشتمل على كمالات هذا النوع، فلديه علمٌ تام بذلك النوع، فعلم الحق تعالى بهذا النوع المجرَّد يعني علمه بما عنده من العلم، فيكون علمه التفصيلي بالأشياء عن طريق علمه بهذه الموجودات التي في ذلك العالم.

يقول المصنِّف على تقدير ثبوت هذا الكلام، فهذا إنما يكفي لتصوير العلم التفصيلي بالأشياء في مرتبتها، لا في مرتبة ذات الباري، فتكون ذات الباري خاليةً من العلم بالأشياء قبل وجودها. وقد ذكرنا أن ذات الباري وجودها وجودٌ صِرف يشتمل على كلِّ كمالٍ ولا يشذُّ عنه كمالٌ وجودي.

وبعبارةٍ أخرى قلنا: إن علم الباري له ثلاثة أنواع، علمه بذاته، وعلمه بالأشياء قبل وجودها، وعلمه بالأشياء بعد وجودها، بينما نحن نريد أن نُثبِتَ علم الباري بالأشياء قبل وجودها. ولازم هذا القول أن الباري تعالى في مقام ذاته لا يعلم بالأشياء، وهذا خُلف ما تقدَّم من أن ذاته بسيطةٌ مشتملة على كل كمالٍ وجودي، ولا يشذ منها وجودٌ أو كمالٌ وجودي.

القول الخامس

وهو المنسوب إلى شيخ الإشراق السهروردي، وتبنَّاه أيضًا مجموعة من المحقِّقين، وهذا الرأي يذهب إلى أن الباري تعالى يعلم بالأشياء علمًا حضوريًّا، وأن سائر الأشياء المجردة والمادية حاضرة لديه بالعلم الحضوري، وعلمه بها علمٌ تفصيلي.

وهذا القول أيضًا باطل؛ لأن المادية تجامع الغياب ولا تجامع الحضور، فالشي‏ء المادي ‏لا يمكن أن يكون حاضرًا لا لنفسه ولا لغيره، وأجزاؤه بعضها غائبٌ عن بعضها الآخر، وهو غائبٌ عن نفسه، بينما الأمر المجرَّد هو الحاضر، والحضور يعني التجرُّد.

وعلى هذا الأساس فإن هذا القول المنسوب إلى شيخ الإشراق السهروردي، الذي يدَّعي أن الأشياء المادية حاضرةٌ بوجوداتها المادية عند الباري، غير صحيح؛ لأن المادية تعني الغياب، فلا يمكن أن تكون الأشياء المادية حاضرةً لديه، كما بيَّنَّا ذلك في الفصلَين الأول والثامن من المرحلة الحادية عشرة.

مضافًا إلى أن هذا الكلام يبيِّن لنا العلم التفصيلي في مرتبة وجود الأشياء، بينما نحن نتحدث عن العلم قبل وجود الأشياء، يعني في مرتبة ذات الباري، وعلى هذا الأساس تبقى الذات خاليةً من العلم بالأشياء قبل وجودها، بينما بيَّنَّا فيما سبق أن له علمًا حضوريًّا بالأشياء قبل وجودها. إذن هذا القول غير مقبول أيضًا.

القول السادس

وهذا القول منسوب إلى طاليس المالطي، وهو يقول إنه تعالى يعلم العقل الأول، والعقل الأول هو الصادر الأول منه، ويعلم به لأنه حاضر عنده، والحضور هو العلم، ثم إنه يعلم الأشياء الأخرى غير العقل الأول، باعتبار أنها معلومةٌ للعقل الأول ومرتسمةٌ صورتها للعقل الأول؛ أي إن العقل الأول يعلم بها علمًا حصوليًّا، فهو تعالى يعلم بحضور ذات المعلول الأول عنده، والمعلول الأول هو العقل الأول.

وهذا الكلام يمكن مناقشته كما ناقشنا القول السابق، فنقول إن هذا يلزم منه خلو الذات المتعالية عن الكمال الوجودي، بينما الذات واجدةٌ لكل كمال، وبمعنًى آخر إن هذا القول يلزم منه أن الذات لا تكون عالمة بالموجودات قبل وجودها، بينما قلنا إن الذات عالمة في مرتبة ذاتها بالموجودات قبل وجودها.

كما أن هذا القول أيضًا يلتزم شيئًا باطلًا، وهو أن العقول المجرَّدة التي قالوا بوجودها، لها علمٌ حصوليٌّ ارتسامي، بينما قال المصنف فيما سبق: إن العقول المجردة ليس لها علمٌ حصوليٌّ ارتسامي، والعلم الارتسامي ممتنع في العقول المجردة، وإنما علمها علمٌ حضوري.

القول السابع

ما نسب إلى بعض الحكماء، من أن ذاته تعالى تعلم علمًا تفصيليًّا بالمعلول الأول، يعني بالعقل الأول، وتعلم علمًا إجماليًّا بما دونه، والمعلول الأول يعلم علمًا تفصيليًّا بالمعلول الثاني وعلمًا إجماليًّا بما دونه، والمعلول الثاني له علمٌ تفصيلي بالمعلول الثالث وعلمٌ إجمالي بما دونه، وهكذا.

لكن يرد عليه، أن الذات المتعالية — على هذا القول — تكون خاليةً عن الكمال العلمي بما دون المعلول الأول، يعني أن الذات تعلم بالمعلول الأول علمًا تفصيليًّا، بينما لا تعلم علمًا تفصيليًّا بالمعلول الثاني الذي تحت المعلول الأول، وإنما تعلم به علمًا إجماليًّا مبهمًا. وهذا يعني تفريغَ الذات من الكمال؛ أي سلبَ كمالٍ من الكمالات من الذات المتعالية، بينما قلنا إن الذات المتعالية تشتمل على كلِّ كمالٍ ولا يشذُّ منها كمالٌ وجودي.

القول الثامن

وهو المنسوب إلى فرفوريوس؛ فقد قال: إن علمه تعالى إنما يكون بالاتحاد مع‏ المعقول؛ فإن العالم يتحد مع المعلوم.

ويرد على هذا القول:

  • أولًا: نحن لسنا في مقام كيفية تحقُّق علم الباري، وإنما في مقام بيان أن الباري يعلم بالأشياء قبل وجودها أو لا يعلم، فهذا القول يبيِّن كيفية تحقُّق علم الباري، وأن علمه يكون باتحاد العاقل مع المعقول.
  • ثانيًا: أن هذا القول لم يبيِّن لنا ثبوت علم الباري بالأشياء قبل وجودها أو بعد وجودها، يعني هو غَضَّ النظر عن هذه القضية، بينما نحن نريد أن نعرف أإنه يعلم بالأشياء قبل وجودها أم لا يعلم.

القول التاسع

وهو منسوبٌ إلى أكثر المتأخرين، وهو يرى أن له تعالى علمًا تفصيليًّا بذاته، وله علمٌ إجماليٌّ بالأشياء قبل وجودها، أما الأشياء بعد وجودها فيعلم بها علمًا تفصيليًّا؛ لأن العلم تابع للمعلوم ولا معلوم قبل الوجود العيني للمعلوم؛ فإن العلم تابع للمعلوم بالعرض؛ إذ المعلوم بالذات لا يكون غير العلم، حتى يتصوَّر كونه تابعًا له أو متبوعًا له، وذلك لما مرَّ في الفصل الأول من المرحلة السابقة أن العلم عين المعلوم؛ أي المعلوم بالذات.

ومن هنا يُعلم أن مرادهم بالعلم هو العلم الحصولي؛ لأنه ليس في العلم الحضوري إلَّا المعلوم بالذات.

وإنما يعلم الأشياء كلها إجمالًا، وذلك كفنَّان يعلم ما يرسمه بعلمه بذاته الحاذقة في فنه، فإنه بعلمه بحذاقته في فنه يعلم بأنه له أن يرسم لوحةً فنيةً رائعة، فعلمه بذاته علمٌ إجمالي بفعله وأثره، ولكنه إنما يراه بعدما يرسمه.

ويرد على هذا الكلام:

  • أولًا: محذور خُلوِّ الذات عن الكمال العلمي، كما بيَّنَّا في مناقشة الأقوال السابقة.
  • ثانيًا: أيضًا في هذا القول إثبات العلم الحصولي للباري تعالى، يعني إثبات ارتسام العلم بالنسبة إلى الموجود المجرد، وقد قلنا إن الموجود المجرَّد لا علم حصوليًّا له، وإنما علمه علمٌ حضوري. ويبدو أن المصنِّف استفاد الارتسام من قولهم: «لأن العلم تابعٌ للمعلوم» مع أنهم لم يصرِّحوا بالارتسام.

القول العاشر

وهو القول المنسوب إلى المشَّائين، وهذا القول يرى أن الحق تعالى يعلم بماهيَّات الأشياء، وهذا العلم لا يقبل الاتحاد مع ذاته، وإنما هذه الماهيَّات تكون قائمة بالذات الإلهية نظير قيام الماهيَّات لدينا في الوجود الذهني؛ فعندما نعلم بماهيَّات الأشياء، يعني ذلك أنها ليست متحدة مع الذات، وإنما هي قائمة بالذات.

وهذا العلم إنما يكون علمًا كليًّا لا جزئيًّا والمراد بالكلي هنا هو العلم الثابت الذي لا يتغيُّر بتغيُّر المعلوم بالخارج، يعني أن هذا العلم لا يتغيَّر قبل الإيجاد وحين الإيجاد وبعد الإيجاد. وهو علمٌ عنائيٌّ حصوله العلمي نفس حصوله العيني.

وقد ذكرنا فيما سبق، في مبحث العلة والمعلول، الفاعل بالعناية، فقلنا إن الفاعل بالعناية هو الفاعل الذي له إرادةٌ وعلمٌ سابق على الفعل، ولكن هذا العلم نفسه يكون هو المنشَأ لصدور الفعل من الفاعل، كمن وقَف على شاهق ثم لاحظ القاع، فنفس ملاحظته للقاع كانت هي السبب لاختلال توازنه وسقوطه. إذن علمه هو السبب لسقوطه، فالعلم الكلي على وجه الكلية، بمعنى لا يتغيَّر فيه العلم بتغير المعلوم، هو علمٌ عنائي؛ أي إن حصوله العلمي مستتبع لحصوله العيني.

المتكلمون قبلوا هذا القول أيضًا، فذهبوا إلى أن علم الباري تعالى بالأشياء قبل وجودها إنما يكون بحضور ماهيَّاتها لديه، ليس على نحو الاتحاد، وإنما على نحو القيام بذاته، كقيام الماهيَّات في أذهاننا، وهذا العلم علمٌ كلي؛ أي لا يتغيَّر فيه العلم بتغيُّر المعلوم في الخارج، فهو علمٌ ثابت قبل الإيجاد وأثناء الإيجاد وبعد الإيجاد، وهو علم عنائي؛ أي إن الحصول العلمي يستتبع الحصول العيني.

لكنَّ المتكلمين ناقشوا في مسألة الكلية، فقالوا: إن هذا العلم ليس علمًا كليًّا، وهذه المناقشة نشأَت من الالتباس في فهم معنى الكلية؛ إذ لاحظوا أن معنى الكلية هو ما لا يمتنع صدقُه على كثيرين، بينما قلنا إن المقصود بالكلية هنا ليست في مقابل الجزئية، عند ابن سينا ومن تبعَه، وليس ما يمتنع فرضُ صدقه على كثيرين، وإنما يريد بالكلية عدم تغيُّر العلم بتغيُّر المعلوم.

لكن هذا القول نُوقش بعدة مناقشات، وهي:

  • (١)

    أن هذا القول يعني خُلوَّ الذات عن الكمال في مرتبة الذات، يعني أن هذا القول تمكَّن أن يصور لنا علم الباري بالأشياء قبل الإيجاد تفصيلًا، إلا أن هذا العلم زائدٌ على الذات وليس عين الذات، وهذا يعني أن مقام الذات يكون خاليًا عن الكمال العلمي، بينما أوضحنا فيما سبق أن ذات الباري تعالى تشتمل على كل كمالٍ في نظام الخلقة بنحوٍ أعلى وأشرف.

  • (٢)

    في هذا القول محذورُ ثبوت العلم الحصولي لما هو مجرد ذاتًا وفعلًا، وقد بيَّنَّا فيما سبق أن العلم الحصولي لا يكون ثابتًا لما هو مجرد، وإنما كل ما هو مجرد فعلمه علمٌ حضوري، بينما هذا القول يصوِّر لنا علم الباري بالماهيَّات، يعني يصوِّر علمًا حصوليًّا لدى المجرد، فيما تبيَّن أنَّ المجرد لا يمكن أن يكون لديه علمٌ ارتساميٌّ حصولي، وإنما المجرد يكون علمه علمًا حضوريًّا.

  • (٣)

    أن لازم هذا القول ثبوت وجودٍ ذهني من دون وجودٍ عيني يُقاس إليه، وهذا يعني أنه يتحقق وجودٌ عيني للماهية قبل وجود الماهية الخاص، وهذا الوجود العيني للماهية قبل وجود الماهية الخاص، يكون منفصل الوجود عنه تعالى، وحينئذٍ بالتدقيق يعود هذا القول إلى قول أفلاطون.

وببيانٍ آخر، قلنا فيما سبق في مبحث الوجود الذهني، إن الماهية الحاضرة في الذهن يمكن أن نلاحظها بلحاظَين؛ فصورة الكتاب في ذهنك حين نلاحظها بما هي كاشفة عن الخارج، فهذا نسمِّيه وجودًا ذهنيًّا، والكتاب الذي في الخارج نسمِّيه وجودًا خارجيًّا. يعني مفهوم الكتاب؛ أي الصورة الذهنية للكتاب إذا لاحظناها بما هي مقيسة للخارج وحاكية عن الخارج وكاشفة عنه، فبهذا اللحاظ نعبِّر عنها بالوجود الذهني.

أما لو لاحظناها من زاويةٍ أخرى بما هي موجودٌ من الموجودات، بقطع النظر عن الخارج فإنها تكون موجودًا من الموجودات الخارجية، فهي كيفٌ نفساني تترتَّب عليه آثار الكيف؛ ولذلك تندرج تحت مقولة الكيف بالحمل الشائع، وينطبق عليها أنها مصداقٌ‏ للكيف.

من هنا يتضح أن هذا القول يذهب إلى أن الماهيَّات ثابتة للذات بنحو الوجود الذهني، فإذا كانت الماهيَّات ثابتة قبل وجودها بنحو الوجود الذهني، فمعنى ذلك أنه لا بد من وجودٍ خارجيٍّ لكي يحكي عنه هذا الوجود الذهني، فإذا لم يكن هناك وجودٌ خارجيٌّ يحكي عنه هذا الوجود الذهني فلا يُعقل أن يتحقق وجودٌ ذهني للماهيَّات قبل وجودٍ خارجيٍّ يحكي عنه هذا الوجود الذهني؛ لأن الوجودَ الذهني إنما نسمِّيه وجودًا ذهنيًّا إذا كان مقيسًا إلى الخارج، بينما كلامنا في وجود الماهيَّات للذات المقدَّسة قبل وجودها في الخارج.

إن هذا الوجود الذهني لا يتحقق ما لم يتحقق وجودٌ خارجيٌّ للماهيَّات يُقاس إليه، فإذا لم يكن هناك وجودٌ خارجي، نرجع إلى هذا الوجود الذهني للماهيَّات، فماذا يكون بقطع النظر عن الخارج؟

الجواب: يكون وجودًا عينيًّا وخارجيًّا وليس وجودًا ذهنيًّا، فإذا أصبح وجودًا عينيًّا، وهو ليس عين الذات ولا جزء ذات الباري، فيكون زائدًا على الذات، وإذا كان زائدًا على الذات، فيكون وجودًا خارجيًّا للماهيَّات قبل وجودها الخاص بها في الخارج، وهذا الوجود يكون منفصلًا عنه تعالى.

فحينئذٍ إذا تأملنا في هذا القول فمعناه يعود إلى قول أفلاطون، وهو القول الرابع؛ أي إن علم الحق بالأشياء عن طريق المفارقات النورية أو المُثل الإلهية.

١  «الأسفار»، ج٦، ص١٨١–١٨٥.
٢  «فصوص الحكم»، ص١٦.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥