في قدرته تعالى
معنى القدرة
في الفصل العاشر من المرحلة الحادية عشرة أوضحنا معنى القدرة، وقلنا في محله إن معنى كون الشيء قادرًا، هو أن يكون الشيء فاعلًا، ويصدُر عنه الفعل عن علم. فإذا كان الشيء فاعلًا وصدر عنه الفعل عن علم، قيل عنه إنه قادر. وإذا لم يكن الشيء فاعلًا، ولم يصدُر عنه الفعل بعلم، فليس قادرًا.
إذن معنى القدرة أن يكون الشيء مبدأ للفعل ويصدُر عنه الفعل عن علم؛ من هنا فإن الكُلْية أو المعدة عندما تمارس وظيفتها مثلًا، لا تُوصف بأنها قادرة؛ لأنها وإن كانت مبدأ للفعل ولكنها غير عالمة.
وعلى هذا الأساس يُوصف الباري تعالى بأنه قادر؛ لأن الباري هو المبدأ الذي يُفيض كل الموجودات ومضافًا إلى ذلك هو عالم، كما بيَّنَّا فيما سبق، هو عالم بذاته، وعالم بالموجودات قبل وجودها، وعالم بالموجودات بعد وجودها، وإن كل ما في هذا العالم ينتهي إليه.
فبما أن ذاته هي المبدأ الذي صدر منه كل الموجودات، وبما أن هذه الذات عالمة، إذن تُوصَف هذه الذات بأنها قادرة، وهذا هو معنى القدرة، وقدرته عين ذاته؛ لأن كلا رُكْنَي القدرة، مبدئية الفعل والعلم يتصف بهما، فذاته متصفة بالعلم، وعلمه عين ذاته، وذاته متصفة بمبدئية الفعل، وهي عين ذاته، إذن قدرته عين ذاته.
إشكال
الأفعال التي تصدر من الإنسان كقيام الإنسان وكتابته وكلامه، مخلوقةٌ لنفس الإنسان وهي اختيارية بالنسبة إلى الإنسان، فالإنسان له أن يفعل وله أن يترك، يعني إذا شاء فعل وإذا لم يشأ لم يفعل، فإذا كان الأمر كذلك، يُقال: لو كانت هذه الأفعال مقدورة للباري تعالى لكان الإنسان مجبرًا على الفعل لا مختارًا.
وعلى هذا الأساس يُقال: إذا كانت أفعال الإنسان اختيارية له، فلا بد أن تكون خارجة عن قدرة الله، بينما قدرة الله شاملة لكل شيء؛ لأنه قادر على كل شيء، ومن هذه الأشياء أفعال الإنسان …
جواب الإشكال
في الجواب على ذلك يذكُر المصنِّف جوابَين:
-
(١)
هل معنى كون الفعل اختياريًّا للإنسان هو أن تتساوى نسبة الفعل إلى الوجود والعدم حتى حين الصدور، أو أن كون الفعل اختياريًّا للإنسان بمعنًى آخر؟
الصحيح أنه ليس معنى كون الفعل اختياريًّا أنْ تتساوى نسبته إلى الوجود والعدم حتى حين الصدور؛ لأنه في الواقع حين الصدور وعندما يُوجَد الشيء لا يمكن أن تتساوى نسبته إلى الوجود والعدم، بناءً على ما تقدَّم في مباحث العلة من أن الأولوية لا تكفي لوجود الشيء، وإنما الشيء ما لم يجب لا يُوجَد، فكل شيء عندما يُوجَد لا بد أن يصل إلى درجة الوجوب حتى يُوجَد.
وإن وجوب فعل الإنسان إنما هو وجوبٌ بالغير، وهذا الوجوب بالغير لا بد أن ينتهي إلى وجوب بالذات، فحينئذٍ ينتهي إلى الإنسان، وهو لا بد أن ينتهي إلى واجب بالذات، والواجب بالذات هو الله تعالى، ففعل الإنسان يكون بالنتيجة معلولًا إليه تعالى، ولكن بواسطة.
-
(٢)
إن كل ما هو موجود في عالم الوجود قد أفاضه الواجب تعالى، كما تقدم في بحثنا في الفصل الثالث من أن الواجب تعالى هو المبدأ المفيض لكل وجودٍ ولكل كمالٍ وجودي، فكل الموجودات وآثار الموجودات مفاضة منه تعالى، فالإنسان وآثار الإنسان وأفعاله وجودها وجودٌ رابط، كما قلنا فيما سبق، بالاعتماد على برهان الإمكان الفَقْري؛ أي إن كل الوجودات الإمكانية فقيرةٌ في نفسها، ووجودها هو الحاجة، وهو التعلق والارتباط، وليس لها استقلال لا في حدوثها ولا في بقائها واستمرارها، وإنما هي متقوِّمة الذات في غيرها، حيثُ تنتهي إلى وجود الباري تعالى المستقل القائم بنفسه المستغني عن غيره.
إذن كل أفعال الإنسان وكل الموجودات الأخرى ليست مستقلة، وإنما وجودها وجودٌ رابطٌ قائمٌ بوجود الباري الذي هو وجودٌ مستقلٌّ مستغنٍ عن غيره.
وعلى هذا الأساس يكون وجوده تعالى مبدأ لصدور كل موجود، وكل أثر من آثار الموجودات، وكل نسبة قائمة بين الأثر والوجود القائم به هذا الأثر.
من هنا تكون قدرته عامة لكل شيء، ومن هذه الأشياء أفعال الإنسان التي هي أثر للإنسان؛ لأن وجودها وجودٌ رابط، وكل وجودٍ رابطٍ لا يقوم بنفسه؛ لأنه هو الفقر والحاجة، وإنما يقوم بالباري تعالى الذي هو مناط الغنى عن غيره.
قد يُقال: في ضوء ما سبق إن قدرة الباري تعالى قدرةٌ عامة لكل شيء، ومنها أفعال الإنسان الاختيارية، فهذا يقتضي أن تكون أفعال الإنسان ليست اختيارية؛ لأنه إذا تعلقَت الإرادة الإلهية بالفعل الاختياري للإنسان، فلا بد أن يكون هذا الفعل ضروري الوقوع؛ لأن إرادة الله سبحانه وتعالى لا تتخلَّف، يعني أنه إذا أراد شيئًا أن يقول له كن فيكون، فإرادته لا تتخلف عن المراد، فإذا تعلَّقَت إرادة الله بأفعالي، فلا بد أن تكون هذه المرادات التي هي أفعالي ضرورية الوقوع؛ أي إنها حينما تتعلق بها الإرادة الإلهية وحينما تكون مشمولة لقدرة الله، والله تعالى هو المبدأ لها، تكون ضرورية الوقوع، وتصدُر هذه الأفعال قهرًا وحتمًا، فيكون الإنسان مجبورًا في أفعاله وليس بمختار.
الجواب: صحيحٌ أن الإرادة الإلهية شاملةٌ لكل شيء والله قادرٌ على كل شيء، ومن هذه الأشياء أفعال الإنسان، فأفعال الإنسان واقعة في قبضة الله، والله قادر عليها، وهي تنتهي إلى الله، والإرادة الإلهية متعلقة بها. لكن لا يلزم من ذلك الجبر؛ لأن قدرة الله تعالى عندما تعلَّقَت بفعل الإنسان لم تتعلق به كيفما اتفق، وبأي كيفيةٍ كان، وإنما تعلَّقَت به بنحوٍ خاص.
وبكلمةٍ أخرى إن هذه الإرادة تعلَّقَت بالمراد بشرطٍ خاص وكيفيةٍ خاصة، وهذه الكيفية الخاصة، هي أن يكون الفعل صادرًا باختيار الإنسان.
إذن إرادة الله تعلَّقَت بفعلي، ولكن هذا المراد الذي هو فعلي فيه شرط، وهو أن يقع باختياري، فالمراد مؤلَّف من فعل الإنسان، أن يكون هذا الفعل واقعًا باختيار الإنسان.
وبعبارةٍ أخرى إنه ليس تتعلق الإرادة الإلهية بفعل الإنسان كيفما اتفق، وإنما تعلُّقها بفعل الإنسان باعتباره مرتبطًا بالإنسان، وباعتبار أن الإنسان جزءٌ من علته، وباعتبار أن هذا الفعل مشروطٌ باختيار الإنسان، فإذا كان الأمر كذلك فمن المُحال أن يتخلف المراد عن الإرادة؛ فلو لم يصدر الفعل باختيار الإنسان، لتخلف المراد عن الإرادة.
إشكال
ثم انتقل المصنف إلى إشكال يرتبط بالإشكال السابق، وهو القول بأن العلم الأزلي متعلق بالفعل؛ لأن الباري تعالى ما دام قادرًا على كل شيء، فقدرته تعني مبدئيته مع كونه عالمًا منذ الأزل، فيلزم أن يكون وقوع الفعل ضروريًّا، وإلَّا لو لم يقع الفعل لكان علمه جهلًا، فيكون وقوع الفعل ضروريًّا، ويكون الفاعل مجبرًا على الفعل.
وبعبارةٍ أخرى بما أن القدرة هي كونه تعالى فاعلًا عن علم، تصدَّى المستشكل لإثبات الجبر، تارةً من طريق فعله تعالى لأفعال الإنسان الاختيارية، وأخرى من طريق علمه تعالى بها.
جواب الإشكال
الجواب على ذلك هو الجواب المتقدم نفسه، وبعبارةٍ أخرى نقول: إن العلم تعلق بالمعلوم بشرط أن يقع باختيار الإنسان، فلو لم يقع المعلوم باختياره لم يكن هو المعلوم. لأن الإرادة تعلَّقَت بالمراد، لكن المراد يساوي فعلي وكونه واقعًا باختياري، فهنا الشيء نفسه يُقال، فالعلم الأزلي تعلق بفعلي وكونه واقعًا باختياري، بنحوٍ أتمكن من فعله وتركه. هذا هو المعلوم؛ فلو فرضنا أن هذا الفعل وقع من دون اختياري، فلا يكون هو المعلوم؛ لأن المعلوم هو الفعل وكونه صادرًا باختيار الإنسان؛ بحيث يتمكَّن من فعله وتركه. وعلى هذا الأساس يكون جواب هذه الشبهة هو جواب تلك الشبهة نفسه.
إشكال
إذا كان المعلول الممكن لا بد أن يجب حتى يُوجَد، ووجوبه يعني أنه إذا وجَب وُجد، ووجوبه هذا بالغير وليس بالذات؛ لأن الواجب الذاتي كما قلنا واحد، إذن ينتهي إلى الواجب بالذات، فهذا يعني أن فعل الواجب يكون موجبًا؛ أي يجب عليه الفعل ويمتنع الترك، وهذا ينافي القدرة.
جواب الإشكال
لا بد أن نميِّز هنا بين نحوَين من الوجوب، فعندما نقول الشيء ما لم يجب لا يُوجَد، فإن هذا الوجوب وجوبٌ سابق للشيء، وهذا الوجوب وجوده وجودٌ ذهني.
وهناك وجوبٌ آخر وهو الوجوب اللاحق للشيء، يعني هذه الكتابة، ما لم تجب لا تُوجد، فهناك وجوبٌ سابق، وجوبه وجوبٌ عقلي، وهناك وجوبٌ لاحق، بعد أن يُوجَد الشيء، بعد أن تُوجد الكتابة يكون وجودها واجبًا، وهذا الوجوب الخارجي منتزَع من وجود الشيء، يعني بعد أن يُوجَد الشيء يتصف بالوجوب، وهذا الوجوب يكون متأخرًا عن وجود الشيء.
هذا الكلام بيَّنَّاه فيما سبق، في المرحلة الحادية عشرة؛ إذ قلنا: إن هناك ترتيبًا في الإيجاد، إذ العلة أولًا، ثم المعلول، ثم الوجوب، بمعنى أنها تكون هكذا:
- أولًا: لا بد من وجود العلة؛ إذ لا معلول بدون علة.
- ثانيًا: وجود المعلول بعد وجود العلة؛ إذ هو تابعٌ لها.
- ثالثًا: الوجوب المنتزَع من المعلول.
فهذا الوجوب يقع في المرتبة الثالثة، فلا يمكِن أن يعود هذا الوجوب الواقع في المرتبة الثالثة إلى المرتبة الأولى؛ أي إلى وجود العلة فيؤثِّر في العلة، لتكون العلة مقسورةً ومجبورةً بسبب هذا الوجوب.
كما أن الفاعل لا يكون مجبرًا إلا إذا كان هناك غيره يجبُره، فأنت متى تكون مجبرًا على الطعام؟ تكون مجبرًا على تناول الطعام إذا كان هناك شخصٌ بيده سلاح ويُهدِّدك.
فافتراض كون الواجب مجبرًا، يعني وجود واجبٍ آخر يُجبره على الفعل، وقد أثبتنا في براهين وحدانية الواجب، أنه ليس هناك واجبٌ آخر غير الواجب تعالى. إذن لا يمكن أن نفترض من يُجبره على خلاف ما يريد، يعني عندما نقول إنه مجبَر لا بد أن يكون هناك من يُجبره، وما دام لا يُوجَد واجبٌ غيره، فلا يُجبره غيره؛ لأنه لا وجود لهذا الغير أساسًا.