الفصل الثامن

في إرادته تعالى وكلامه

البحث في هذا الفصل يقع في مقامَين:

  • (١)

    في إرادته تعالى.

  • (٢)

    في كلامه تعالى.

الإرادة

يُوجَد خلافٌ بين الحكماء في أن الإرادة صفة فعل أم صفة ذات؛ أي إن إرادته عين ذاته أم أن إرادته زائدة على ذاته؟ أي أإن الإرادة من قبيل الخالق أم أن الإرادة من قبيل الحي كما تقدَّم مثلًا؟

الحكماء قالوا: إن الإرادة من الصفات الذاتية، خلافًا لما ذهب إليه كثيرٌ من علماء أصول الفقه الذين قالوا إن الإرادة من صفات الفعل لا من صفات الذات.

ومعنى الإرادة الذي قاله الحكماء لا بمعنى إن شاء فعل وإن شاء ترك؛ لأن الإرادة بهذا المعنى تعني تساوي النسبة، وهذا يعني الإمكان، وقد أشرنا فيما سبق أن الباري تعالى ليس فيه حيثية إمكانية؛ لأن واجب الوجود بالذات واجب الوجود من جميع الجهات.

إذن إرادته تعني علمه بالنظام الأصلح، فعلم الباري تعالى بالنظام الأصلح لعالم الإمكان يعني أنه مريد له؛ لأن الحق تعالى محب لذاته، ومن أحب ذاته أحب آثار ذاته، فهو يريد ويُحب عالم الإمكان، ولكن هذا الحب حبٌّ بالعرض لا بالذات، ومنشؤه علمه بالنظام الأصلح، يعني علمه بهذا النظام وبما يشتمل عليه هذا النظام من خير.

وعلى هذا الأساس تعني صفة الإرادة العلم بالنظام الأصلح؛ ومن هنا يتضح أن الإرادة من سنخ العلم، وهي من أقسام العلم، كما أرجعنا السمع والبصر إلى العلم فيما مضى وقلنا: إن السمع هو العلم بالمسموعات، والبصر هو العلم بالمبصرات، فكذلك الإرادة لا تعني تساوي النسبة؛ لأن تساوي النسبة هو الإمكان، والواجب ليس له حيثية ولا جهة إمكانية؛ لأن واجبَ الوجود بالذات واجبُ الوجود من جميع الجهات، وإنما يكون معنى أنه مريد هو أنه عالم بالنظام الأصلح في هذا العالم.

إذن الإرادة تعود إلى العلم، ومن الواضح أن العلم من صفات الذات؛ لأن علمه عين ذاته كما تقدم، وعلى هذا الأساس تكون الإرادة من صفات الذات، فتكون إرادته بهذا المعنى عين ذاته.

معنى الكلام

عندما نقول: إن الله سبحانه وتعالى متكلم ماذا نقصد؟ الكلام في عرف الناس هو اللفظ الذي يدُل بالدلالة الوضعية على ما في الضمير، يعني هذه الألفاظ التي نتكلمها هي ألفاظٌ ترتبط بالمعاني، والعلاقة بين الألفاظ والمعاني تحقَّقَت من خلال الوضع؛ إذ تُوجَد علقةٌ وضعية بين لفظ ومعنى جمل، فلفظ جمل يدل بسبب هذه العلقة الوضعية على معنى جمل الموجود في الأذهان.

إن اللفظ موجودٌ اعتباري يدل لدى العالم بالوضع، وبسبب هذه العلقة الوضعية الاعتبارية التي تحقَّقَت بالوضع، يدل على ما في ذهن المتكلم من معنًى؛ ولذلك يُعتبر وجود اللفظ للمعنى الذهني اعتبارًا، ويُعتبر المعنى الذهني وجودًا ذهنيًّا، ومصداقه الخارجي يُعتبر وجودًا خارجيًّا للشي‏ء، يعني أن الوجود اللفظي هو وجودٌ اعتباري للشي‏ء، بينما المعنى هو وجودٌ ذهني للشي‏ء، والمصداق الخارجي هو وجودٌ خارجي‏ للشي‏ء.

ولو فرضنا أن هناك موجودًا حقيقيًّا لا يدل دلالةً وضعية على المدلول، وإنما يدل دلالةً حقيقية لا اعتبارية على المدلول، من قبيل الدخان الذي يدُل على النار، فالدخان موجودٌ حقيقي يدل على النار، والمطر الذي يدُل على الغيم، فالمطر موجودٌ حقيقي يدل على الغَيْم، وهكذا المعلول موجودٌ حقيقي، فما فيه من كمالٍ وجودي، يدل على الكمال الوجودي الموجود لدى علته، بنحوٍ أعلى وأشرف، فإن هذا أَوْلى أن يسمى كلامًا؛ لأن ذلك الذي تكون دلالته دلالةً اعتبارية نسمِّيه كلامًا، فكيف بهذا الذي دلالته دلالةٌ حقيقية؟ فالأولى أن يسمَّى كلامًا.

فإذا كان هناك موجود بسيط الذات من كل جهة، وهذا الموجود البسيط يشتمل على كل كمالٍ وجودي في عالم الوجود، ويكشف بصفاته التي هي عين ذاته عن ذاته المقدَّسة، فهو كلام، يدل بذاته على ذاته، والإجمال فيه يكون هو عين التفصيل.

إذن دلالته على ذاته نسمِّيها كلامًا، ودلالة صفاته التي هي عين ذاته عليه تسمَّى كلامًا، وكذلك دلالة مخلوقاته تسمَّى كلامًا أيضًا، فهو كلام وهو متكلم لوجود ذاته لذاته.

هل الكلام صفة من صفات الذات أم صفة من صفات الفعل؟ الجواب: الكلام يمكن أن يكون صفة ذات، ويمكن أن يكون صفة فعل. ولنرجع إلى الكلام الوارد في الكتاب والسنة، عندما يُوصف تعالى بأنه متكلم، وعندما يقول: إن عيسى كلمة الله، وإن كلمات الله لا تنفَد، فإن الكلام هنا صفة فعل؛ لأنه منتزَع من مقام الفعل، فهو زائدٌ على ذاته.

إن قول المصنف: ولو كان هناك موجود أحدي الذات ذو صفات كمال في ذاته، بحيث يكشف بتفاصيل كماله وما يترتَّب عليه من الآثار عن وجوده الأحدي، وهو الواجب تعالى، كان أولى وأحقَّ باسم الكلام، وهو متكلم لوجود ذاته لذاته. يصوِّر المصنِّف بهذا البيان الكلام الذاتي؛ فإن ذاته تعالى في مرتبة الواحدية وهو الله تعالى، بمعنى الذات المستجمعة لجميع صفات الكمال، تكشف عن مرتبة الأحدية، وهي الذات البسيطة من جميع الجهات. فإن مقام الواحدية كاشفٌ عن مقام الأحدية.

وبهذا يتلخص أنه يمكن تصوُّر الكلام للباري تعالى بثلاثة وجوه، وهي:

  • (١)

    أن المخلوقات آثاره تعالى؛ فهي تدل عليه دلالةً طبعية «بمعنى حقيقية»، فهي كلماته وكلامه، وهو تعالى خالقها فهو متكلمٌ بها.

  • (٢)

    أن أسماءه الحسنى وصفاته العليا تدُل على ذاته تعالى؛ حيث إن كل صفة تدُل على موصوفها وتُنبئ عنه، فهي أيضًا كلماته، وهو تعالى متصفٌ بها، ومتحلٍّ بها، فهو متكلم بها.

  • (٣)

    أن ذاته تعالى تدل على ذاته؛ لأن ذاته تعالى موجودة لذاته، فهو كلام ومتكلمٌ بذاته.

الإرادة ترجع إلى العلم والكلام يرجع إلى القدرة

الإرادة تعود إلى العلم، وهي من سنخ العلم. والكلام أيضًا نُرجِعه إلى القدرة، وهو من سنخ القدرة؛ لأن الكلام في الواقع يرجع إلى الخلق والمخلوقات، فإنها بمجموعها كلمات الله، وهي تدُل عليه؛ أي إن مرجعية الكلام إلى قدرته تعالى، وإلى خلقه ومخلوقاته، فكل معلول وهو فعله يعني كلمته وكلامه تعالى.

ولما كان مرجع الكلام إلى القدرة، والقدرة صفة ذاتية، إذن لا معنى لإفراد الكلام صفةً مستقلة. ولما كان الكلام يعود إلى القدرة، والقدرة صفةٌ ذاتية، فيكون الكلام أيضًا صفةً ذاتية. كما لاحظنا أن الإرادة تعود إلى العلم، والعلم صفةٌ ذاتية، فتكون الإرادة أيضًا صفةً ذاتية.

وأما الكلام المذكور في القرآن والسنة الشريفة؛ حيثُ يوصف بأنه متكلم، فإن المقصود بذلك الكلام هو الكلام باعتباره صفة فعل، وصفة الفعل زائدة على الذات، لأنها منتزَعة من مقام الفعل.

المعيار في صفة الذات وصفة الفعل

قد يُقال: ما هو المعيار في التمييز بأن هذه الصفة صفة ذات وتلك صفة فعل؟

الكليني ذكر معيارًا وهو: أن كل صفة يتصف بها الباري ويتصف بنقيضها، فإنها صفة فعل، كما إذا قلنا: خالقٌ بأحسنِ تقويم، وليس بخالقٍ في شرِّ تقويم. وأما الصفة التي يتصف بها الباري ولا يتصف بنقيضها، فهي صفة ذات، نقول: حي، ولا نقول: ليس بحي، ولكن نقول: رازق، ونقول: ليس برازق، مع أخذ قيدٍ في القضية الأخيرة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥