في فعله تعالى وانقساماته
في هذا الفصل يتحدَّث المصنِّف عن نظام الخلقة؛ فإن فعل الباري تعالى يعني معلولاته ومخلوقاته.
إنَّ عالم الإمكان والموجودات الإمكانية، التي هي مخلوقاتٌ له تعالى تنقسم بعدة تقسيمات؛ فهي تنقسم إلى مادية ومجردة، والمادية هي كل ما هو في عالم الطبيعة، والمجردة كالملائكة والجن. والمجرد يقسمونه أيضًا إلى: مجرد عقلي ومجرد مثالي.
يشير المصنف هنا إلى ما ذكره الحكماء في تفصيل نظام الخلقة في عالم الإمكان، وفيما سبق ذكرنا أن عالم الإمكان تُوجَد عدة آراء في التراث الفلسفي في تفسيره؛ فقد قال بعض الفلاسفة إن عالم الإمكان ينقسم إلى: عالم طبيعة وعالم عقل، بينما ذهبَت مدرسة الحكمة المتعالية إلى أن عوالم الإمكان ثلاثة، والمباني التي يذكُرها المصنف هنا هي مباني الحكمة المتعالية، وقلَّما يخرج عن ذلك؛ فمدرسة الحكمة المتعالية تقول بتثليث العوالم: عالم طبيعة، وعالم مثال، وعالم عقل. فيما قال العُرفاء بتربيع عوالم الإمكان: عالم طبيعة، وعالم مثال، وعالم عقل، وعالم الإنسان الكامل.
على كل حال فبناءً على ما ذهبَت إليه مدرسة الحكمة المتعالية تنقسم عوالم الوجود الإمكاني إلى ثلاثة:
-
(١)
العالم الأول هو عالم العقل، أو قُل عالم الجبروت.
-
(٢)
العالم الثاني هو عالم المثال، أو عالم الملكوت.
-
(٣)
العالم الثالث هو عالم المادة والماديات الحالَّة في المادة، وهو عالم الناسوت أو عالم الطبيعة.
والعالم العقلي مجردٌ تجردًا تامًّا في ذاته وفعله، مجرد عن المادة وآثارها. أما عالم المثال فهو مجرد عن المادة دون آثارها، فهو له شكل المادة وأبعادها.
وبعبارةٍ أخرى يقولون إن عالم المثال من قبيل الصورة التي في المرآة، فهذه الصورة فيها طول وعرض ولون، ولكنها مجردة، فعالم المثال يعتبرونه عالم الأشباح، يعني في هذا العالم هناك أشباح، وهذه الأشباح لها شكل المادة وأبعاد المادة وأوضاع المادة، فهي أشباحٌ متمثِّلة بصفة الأجسام التي في عالم المادة والطبيعة.
ويقولون إن النظام الموجودة فيه تلك الأشباح، وترتيب وجودها في ذلك العالم، شبيه بترتيب وجود الموجودات في عالم الطبيعة، ولكن مع فارق، وهو أن الموجودات في عالم الطبيعة دائمًا تنتقل من حالة القوة إلى حالة الفعلية؛ لأنها تتحرك حركةً تكامليةً تطوُّرية، فتخرج من القوة إلى الفعلية بالتدريج؛ فمثلًا التراب يتحول إلى نطفة والنطفة تتحول إلى علقة والعلقة إلى مضغة، وهكذا فهي في كل مرة تخرج من حالة إلى حالة، وتخلع صورة وتلبس صورة، بناءً على ما قاله المشَّاءون، أو تلبس صوة بعد صورة بناءً على ما قالته مدرسة الحكمة المتعالية.
أما عالم المثال فيقولون إن الموجودات فيه مع أن ترتيبها شبيه بترتيب الموجودات في عالم الطبيعة، ولكن لا تُوجد حركة ولا يُوجد تغيُّر في عالم المثال؛ لأن وعاء الحركة عالم المادة والطبيعة، فالحركة موضوعها الجوهر الجسماني، بينما عالم المثال ليس فيه حركة ولا تغيُّر، وليس فيه تحوُّل صورة إلى صورة، وحال إلى حال.
ثم إنهم يقولون إن الوجود لما كان حقيقةً واحدةً مشكِّكة، فهذه الحقيقة متفاوتة في الشدة والضعف، كما تقدَّم في المرحلة الأولى، فيبدأ الوجود من مرتبةٍ ضعيفة في عالم الطبيعة، ثم تكون أشد في عالم المثال، ثم تكون شديدة في عالم العقل، والشرف والخسة أيضًا مترتبة؛ فعالم الطبيعة أخس العوالم، وعالم المثال أشرفُ منه، وعالم العقل يفترضونه أشرفَ العوالم.
وهذه العوالم كلية، والكلية فيها بمعنى السعة الوجودية؛ حيث إن في كلٍّ من هذه العوالم عوالم جزئية؛ ففي عالم المادة مثلًا، هناك عوالم الجماد والنبات والحيوان، وفي عالم الحيوان، عالم الإنسان والطير و… إلخ.
نتائج
من هنا استنتجوا عدة نتائج:
-
الأولى: أن هذه العوالم مترتبة وجودًا في السبق
واللحوق، يعني عالم العقل أقدم من عالم
المثال، وعالم المثال أقدم من عالم المادة في
الوجود؛ لأن عالم العقل فعليٌّ فعليةً محضة في
ذاته وفي آثاره، وهذه الفعلية المحضة أشد
وأقوى وجودًا مما هو بالقوة محضًا مثل الهيولى
الأولى، أو ما تشوبه القوة ويخالطه الاستعداد
المادي كالصور النوعية والطبائع المادية
والصورة الجسمية والأعراض.
إذن عالم العقل أسبق من عالم المثال، وعالم المثال أسبق من عالم المادة. ويعتبرون العقل المجرد عن المادة ذاتًا وفعلًا، ما دام وجوده أسبق فهو أشد في وجوده، فتكون حدوده أقل، وإذا كانت حدوده أقل يكون وجوده أوسع وأبسط. يعني كلما قلَّت الحدود اتسع الوجود، وكلما كثُرَت الحدود ضاق الوجود، فوجوده وجودٌ سعي، يعني متسع.
بينما عالم المثال الذي فيه آثار المادة وإن كان مجردًا في ذاته عن المادة، فوجوده أضيق؛ لأن حدوده أكثر.
أما عالم المادة فحدوده أكثر الحدود، وعلى هذا يكون وجوده أخسَّ وأضيقَ وأضعفَ أنحاء الوجود.
وإن الترتيب بين هذه العوالم هو ترتيبٌ في العلِّية كما قالوا؛ فعالم العقل علة لعالم المثال، وعالم المثال علةٌ مفيضة لعالم المادة.
-
ثانيًا: قالوا إن هذه العوالم متطابقة في نظامها،
ولكنْ كلٌّ بحسبه، وكأن عالم الطبيعة صورةٌ
مستنسَخة لعالم المثال، وعالم المثال صورةٌ
مستنسَخة لعالم العقل، فالنظام الوجودي في كل
هذه العوالم متطابق، فالموجودات التي في عالم
المثال هي نفس الموجودات التي في عالم
الطبيعة، وعلى نفس النظام الوجودي، ولكن
وجودها هناك بحسب وجود عالم المثال،
والموجودات في عالم العقل وجودها أيضًا متوافق
مع نظام عالم المثال وعالم الطبيعة، ولكن بحسب
عالم العقل، كلٌّ بما يليق به من وجود.
وبعبارةٍ أخرى قالوا: إن كل علة تشتمل على كمال معلولها بنحوٍ أعلى وأشرف، فعالم المثال لكونه علة لعالم الطبيعة يُوجد فيه نظامٌ مثالي مشابه للنظام في عالم المادة، ولكنه بنحوٍ أعلى وأشرف. وفي عالم العقل هناك نظامٌ عقلي يماثل النظام الموجود في عالم المثال، ولكن بنحوٍ أعلى وأشرف وأبسط وأجمل من عالم المثال، ومن وراء ذلك كله النظام الربوبي، الموجود في علم الواجب، وهو عين ذات الواجب تعالى، الذي هو الكمال والشرف المطلَق الذي لا يحدُّه حد.