أزمنة الفلسفة الأوروبية
نوجز فيما يلي أزمنة الفلسفة الأوروبية، ونسوقها في قنوات مسارها الخاص، وهي:
(١) عصر الحكماء قبل سقراط
وهم اثنا عشر فيلسوفًا، يغطُّون الفترة بدءًا بالقرن السادس حتى النصف الأخير من القرن الخامس قبل الميلاد، وتتوزَّعهم على التوالي: المدرسة الأيونية، والمدرسة الفيثاغورية، والمدرسة الإيلية. ويُعتبر طاليس (٦٢٤–٥٤٦ق.م.) أشهر فلاسفة أيونية، وهو أحد الحكماء السبعة الذين ظهروا في هذه الفترة. ويميل مؤرِّخو الفلسفة إلى اعتبار لحظة الحكماء السبعة وعلى رأسهم طاليس، هي اللحظة الأولى التي تؤرِّخ لولادة الفلسفة الأوروبية وبداية الشوط الأول من أشواط هذه الفلسفة.
وكانت فلسفة هؤلاء الحكماء تُعنى بإصلاح النُّظم والأخلاق، وقد صيغَت بعضُ حِكَمهم بعباراتٍ موجَزة ذهبَت أمثالًا.
والمعروف أن طاليس كان قد زار مصر وبابل، واطَّلع على المدوَّنات الفلكية عند البابليين، ولها يعود ما نُسِب إليه من معرفة بالفلك، وربما قوله بأن أصل العالم هو الماء.
ويندرج في هذه الفترة مجموعةٌ أخرى من الفلاسفة عُرِف منهم: أنكسيمندر (٦١٠–٥٤٧ق.م.)، وأنكسيمانس (٥٨٨–٥٢٤ق.م.)، وهيراقليطس (٥٤٠–٤٧٥ق.م.)، وفيثاغورس (٥٧٢–٤٩٧ق.م.)، وإكسانوفان (٥٧٠–٤٨٠ق.م.)، وبارمنيدس (٥٤٠ق.م.)، وزينون الإيلي (٤٩٠–٤٣٠ق.م.)، وأنبادوقلس (٤٩٠–٤٣٠ق.م.)، وأنكساغوراس (٥٠٠–٤٢٨ق.م.)، ولوقيبوس (٤٤٠–٣٣٠ق.م.)، وديمقريطس (٤٦٠–٣٦١ق.م.).
ولم يصل شيءٌ أساسي من أعمال هؤلاء الفلاسفة، وإنما أمكن التعرُّف على بعض آرائهم بواسطة المدوَّنات التي صُنفَت في فتراتٍ تالية.
(٢) عصر نضوج الفلسفة اليونانية
سبق نضوجَ الفلسفة اليونانية ظهورُ الحركة السوفسطائية، التي أشاعت نوعًا من الاستدلال المخاتل، الذي يقوم على الخداع والمغالطة وتزييف الحقائق. واشتُهر من أعلامها بروتاغوراس (٤٨٤–٤١٠ق.م.)، الذي وفَد إلى أثينا سنة ٤٥٠ق.م.، وظهر له كتابٌ فيها باسم «الحقيقة»، أثار ضده موجةً من الاحتجاج واتُّهم جرَّاء ذلك بالإلحاد، فحُكِم عليه بالموت، إلا أنه هرب من الإعدام، فمات غرقًا. وكان يقول «بأن المعرفة نسبية وليست مطلَقة، وأن لكل قضيةٍ جانبَين يناقض أحدُهما الآخر، ولا شيء أصدق من شيء، لكنه قد يكون أفضل منه بالقياس إلى منظور الفرد.»
كذلك برز جورجياس (٤٨٠–٣٧٥ق.م.) من رجال هذه الحركة، الذي ألَّف كتابًا باسمِ «اللاوجود»، أثار فيه جملة مزاعم، يذهب فيها إلى أنه «لا يوجد شيء، وإذا كان هناك شيء، فإن الإنسان قاصر عن إدراكه، وإذا افترضنا أن الإنسان أدرك ذلك الشيء، فإنه لا يستطيع إبلاغه إلى الآخرين.»
دور سقراط
يعود الفضل للفيلسوف الأثيني سقراط (٤٦٩–٣٩٩ق.م.) في القضاء على الحركة السوفسطائية، وتحرير الوعي اليوناني من الإرباك والتشويش والاضطراب في الرؤية الذي نشرَتْه تلك الحركة.
وقد افتَتَح سقراط بفلسفته مرحلةً جديدة في ازدهار الفلسفة اليونانية، ومهَّد لتلميذه أفلاطون تطوير هذه الفلسفة إلى مدَياتٍ واسعة، انتهت إلى ذروتها على يد تلميذ الأخير أرسطو.
يرى سقراط «أن الإنسان روح وعقل يُسيطر على الحس ويُديره، والقوانين عادلة؛ لأنها صادرة عن العقل، ومطابِقة للطبيعة الحقة، وأن ما في العقل من القوانين هي صورة لقوانينَ إلهية غير مكتوبة بل مرسومة في قلوب البشر، فمن يحترم القوانين يحترم العقل والنظام الإلهي.
والإنسان يريد الخير دائمًا ويرفض الشر. وعنده أن الفضيلة علم، والرذيلة جهل، أما الدين فهو تكريم الضمير النقي للعدالة الإلهية، وآمن بالخلود، وأن النفس متمايزة عن الجسد، ولا تفسُد بفساده، بل إنها تخلص منه بالموت؛ لأنه سجنٌ لها، وتعود بعد ذلك إلى طبيعتها الصافية.»
لقد أحدث سقراط تأثيرًا هائلًا في الحياة العقلية عند أهل أثينا، مما أدى إلى حنَق بعضهم عليه، فلفَّقوا ضده تهمة إنكار الآلهة الشعبية، وإفساد عقول الشباب، فَحُكِمَ عليه سنة ٣٩٩ق.م. بتجرُّع السُّم، وقضى بعد أن تجرَّع سُم الشوكران.
دور أفلاطون
أفلاطون (٤٢٧–٣٤٧ق.م.) أحد أشهرِ فلاسفةٍ ثلاثة برزوا في أثينا؛ إذ استطاع هو وأستاذه سقراط وتلميذه أرسطو أن يطبعوا الحياة العقلية عند اليونان برؤاهم ومقولاتهم، التي اخترقَت في العصور اللاحقة الزمان، وسجلَت حضورها المتواصل في الفلسفة الأوروبية والإسلامية فيما بعدُ.
وقع أفلاطون تحت تأثير رؤية أستاذه سقراط، وكان هو الذي احتفظ بفلسفته ودوَّن أفكاره؛ لأنه لم يصل لنا شيءٌ مما كتبه سقراط. أسَّس الأكاديمية سنة ٣٨٥ق.م.، ومارس فيها نشاطه الفلسفي، كتب مجموعة مؤلَّفات ضمَّنها آراءه وما تعلَّمه من أستاذه سقراط، وقد حَظِيَت هذه المؤلفات بعنايةٍ كبيرة من دارسي الفلسفة والفلاسفة، وعدَّها بعض المؤرخين الغربيين من أعظم الأعمال الفلسفية والأدبية في العالم. تكاملَت على يدَيه الفلسفتان الأخلاقية والكَونية، واشتُهرَت عنه نظرية «المُثُل» التي يعزوها بعضٌ إلى أستاذه سقراط.
دور أرسطوطاليس
أرسطوطاليس (٣٨٤–٣٢٢ق.م.) فيلسوفٌ يوناني مقدوني وليس أثينيًّا، تكاملَت على يدَيه الفلسفة اليونانية فبلغَت الذروة في نضوجها. يعُده مؤرِّخ الفلسفة المعروف الدكتور عبد الرحمن بدوي هو وأستاذه أفلاطون وعمانوئيل كانط «أعظم فلاسفة العالم على طول تاريخ الفكر الإنساني»، وأشار في موضعٍ آخر إلى أنه «أعظم فيلسوفٍ جامع لكل فروع المعرفة الإنسانية في تاريخ البشرية كلها، ويمتاز على أستاذه أفلاطون بدقة المنهج، واستقامة البراهين، والاستناد إلى التجربة الواقعية، وهو واضع علم المنطق كله تقريبًا؛ ومن هنا لُقِّب ﺑ «المعلم الأول» و«صاحب المنطق». ترك عددًا كبيرًا من المؤلَّفات، ذكر بطليموس الغريب ٨٢ عنوانًا منها، تتألف من ٥٥٠ مقالة، لكنَّ قسمًا كبيرًا منها ضاع ولم يصل إلينا، لكن لحسن الحظ أن الذي بقي هو الجانب الأهم.»
يمثِّل أرسطوطاليس الحلقة الأهم في تاريخ الفلسفة اليونانية؛ فقد ظلت آراؤه الفلسفية وأفكاره الأخرى في كافَّة حقول المعرفة تحتل موقع الصدارة إلى عهدٍ قريب في أوروبا. كذلك نفذ المنطق الذي وضعه في مساحةٍ واسعة من التراث الإسلامي، ومثَّل مرجعيةً للعلوم العقلية في هذا التراث، واستعان به العلماء المسلمون كأداة في صياغة غير واحدٍ من العلوم الإسلامية، لا سيما علوم المعقول؛ من هنا اصطبغَت الحياة العقلية لدى المسلمين بهذا المنطق ولم تُفلِت من أَسْره إلى اليوم.
(٣) العصر الهلِّينستي
الهلِّينستية تسميةٌ اصطلاحية اتفق الدارسون على إطلاقها على المدة ما بين وفاة الإسكندر المقدوني (٣٢٣ق.م.) وهيمنة الممالك الإغريقية—المقدونية (أو الممالك الهلِّينية) على الشرق، وحتى اكتساح الجيوش الرومانية لهذه الممالك وسقوط آخرها، وهي مملكة مصر في عهد كليوباترة (٣٠ق.م.).
وظهَرَت في هذا العصر مدارس كانت من أكبر المدارس الفلسفية، وهي:
(أ) المدرسة الإبيقورية
(ب) المدرسة الرواقية
أسَّس هذه المدرسة زينون الكتيومي، وإنما سُمِّيَت بالرواقية لأن مؤسِّسها زينون كان يدرِّس تلامذته في أحد الأروقة.
وُلد زينون في مدينة كتيوم من أعمال قبرص، وكان أبوه تاجرًا يؤم أثينا ويشتري منها الكتب ليقرأها ابنه. وفي سن الثانية والعشرين قَدِم إلى أثينا واستمع إلى معلِّميها. كان زينون عكس إبيقور خشن الطبع والخلقة، يأكل الطعام نيئًا ولا يشرب إلا الماء القُراح، ولا يُبالي بالحر أو البرد أو المطر.
(ﺟ) مدرسة الإسكندرية
انتقل مركز الدراسة والبحث من أثينا إلى مدينة الإسكندرية بمصر، التي أصبحَت أهم مدن الإسكندر الجديدة، بعد أن احتضنَت الفلاسفة والعلماء ورجال الدين اليهودي والمسيحي، الذين وفَدوا إليها من بقاعٍ شتى، فتلاقحَت في أروقة مدرستها مجموعة تيارات الفلسفة اليونانية مع المعتقدات اليهودية والمسيحية، مضافًا إلى موروث الحضارات والأقوام الشرقية.
واشتُهر في هذه المدرسة طائفةٌ كبيرة من العلماء والفلاسفة من أمثال الجغرافي «أراتوسثنيس» الذي عمل لبعض الوقت أمينًا عامًّا لمكتبة الإسكندرية الكبرى، والرياضي «إقليدس» الذي كان يعلِّم الرياضيات في هذه المدرسة، والرياضي «أبولونيوس»، و«أرخميدس» الذي تعلَّم فيها أيضًا.
وفي الإسكندرية ظهَرَت الأفلاطونية الجديدة، التي تمازجَت فيها عناصر تنتمي إلى الحضارات البابلية والفارسية والمصرية القديمة، مضافًا إلى الحضارة الهلينستية والمعتقدات اليهودية والمسيحية.
ويُعزى تأسيس المدرسة الأفلاطونية الجديدة إلى «أمونيوس ساكاس» الذي لا تتوفَّر معلوماتٌ بشأنه إلا أنه أستاذ أفلوطين (٢٠٤–٢٧٠م) الذي هو أعظم الفلاسفة الأفلاطونيين الجدد.
وُلد أفلوطين في مصر ودرس في الإسكندرية ومكث فيها حتى عام ٢٤٣م، وانتهى أخيرًا إلى أن يستقر في روما ويقضي فيها ما تبقَّى من حياته، بعد أن رحل من مصر إلى بلاد ما بين النهرَين، للتعرُّف على ميراث الحضارات الشرقية في رفقة جيش الإمبراطور «جورديان الثالث» الذي قاد حملة ضد الفرس، بَيْد أن أفلوطين فرَّ من بلاد ما بين النهرَين عام ٢٤٤م بعد مقتل الإمبراطور وهزيمة الجيش أمام الفرس.
إن مدرسة الإسكندرية التي قامت في القرن الثالث قبل الميلاد، وتواصَلَ نشاطها حوالي تسعة قرون؛ أي إلى القرن السادس بعد الميلاد، كانت آخر المدارس التي امتدَّت بها حياة الفلسفة اليونانية، بعد أن أُعيد إنتاجها واصطبغَت بعناصر شرقية.
(٤) العصر الوسيط
ينظر بعض مؤرِّخي الفلسفة الأوروبية إلى العصر الوسيط على أنه يمثِّل المدة الممتدة بين القرنِ التاسع والرابعَ عشر أو الخامسَ عشر، فيما يعتبر آخرون الفترةَ الممتدةَ من القرنِ الأول إلى القرنِ التاسع، هي التي تمثِّل دور التأسيس لفلسفة العصر الوسيط؛ لأن هناك اتصالًا عضويًّا بين الإنتاج الفلسفي في تلك الحقبة والقرون التالية لها حتى القرنِ الثالثَ عشر. وهو ما تدُل عليه السمات المشتركة في الأعمال الفلسفية المصنَّفة في هذه المدة.
في هذا الضوء يمكن أن نلاحظ فترتَين تتداخل إحداهما بالأخرى في هذا العصر، يُطلق على الأولى منهما فترة «آباء الكنيسة» بينما يُطلق على الثانية «الفلسفة المدرسية». وفيما يلي تعريفٌ موجَز بكل واحدةٍ منهما:
(أ) آباء الكنيسة
وقد ظهر في هذه الفترة كلمنت الإسكندري (١٥٠–٢١٧م) الذي اعتنق المسيحية منذ صباه، وحاول أن يرفع الإيمان المسيحي إلى مستوى المعرفة اليونانية اعتمادًا على أفلاطون وأرسطو والرواقية وفيلون، نظرًا لرغبته في بناء فلسفةٍ مسيحية لها نسَقُها الداخلي المحكَم.
القديس أوغسطين
وُلد أوغسطين في «طاغشت» من أعمال نوميديا «الجزائر اليوم»، ودرس في مدرسة هذه المدينة أولًا، ثم انتقل منها إلى مدارسَ أخرى في قرطاجنة وروما وميلانو، ارتد عن المسيحية في صباه، وتنقَّل بين الثقافة اليونانية والثقافة المانوية والثقافة اللاتينية. اختلف إلى محاضرات الأسقف أمبروز (٣٣٣–٣٩٧م) وحلقات الأفلاطونيين المحدَثين.
كتب في اعترافاته سنة ٤٠٠م: إن التعاليم الأفلاطونية مهَّدَت لاعتناقه المسيحية، وإن الأفلاطونية فلسفةٌ بها كل المبادئ المسيحية، ولم يرَ الفارق بين الاثنَين إلا بعد اعتناقه للمسيحية بزمنٍ طويل.
(ب) الفلسفة المدرسية
امتداد الأوغسطينية
التوماوية
تمخَّضَت المرحلة الثانية عن ظهور أعظم فيلسوفٍ لاهوتي في تاريخ الكنيسة، وهو القديس توما الأكويني (١٢٢٤–١٢٧٤م) مؤسِّس الأرسطوطالية المسيحية، التي نقض بها المذهب الأوغسطيني، الذي ظل مهيمنًا على الفلسفة الأوروبية عدة قرون.
ترك الأكويني ثمانية وتسعين كتابًا، يصل بعضها إلى ثلاثة آلاف صحيفة.
(ﺟ) الاسمية
انتهت الفلسفة المدرسية في مرحلتها الأخيرة في القرنِ الرابعَ عشر إلى ما يُسمى بالاسمية، وهي تيارٌ فلسفي أخذ في نقد المجرَّدات، وادَّعى أنها ليست إلا أسماء أو ألفاظًا جوفاء، واهتم بالاعتماد على المُشاهَدة والتجربة، وقد بلغ النزاع بين الاسميِّين والواقعيِّين ذروته في هذه الفترة، وامتازت هذه المرحلة بظهور التصوف. وكان وليم أوف أوكام (١٢٩٥–١٣٤٩م) من أبرز الفلاسفة الذين بشَّروا بالاسمية؛ فإنه كان من الفرنسيسكان ولكنه تحرَّر من فلسفتهم، بل ومن كل فلسفةٍ مدرسية، وباشَر نقد الفلسفة والعلم القديم، ودعا للفصل بينها وبين الدين، والفصل بين السلطتَين الدينية والمدنية.
أفضت فلسفة الكنيسة المدرسية بالعقل الغربي إلى الاسمية، التي قادته إلى الحسية، وإنكار كل شيء لا تناله الحواسُّ الخمس، بما في ذلك الله تعالى وكل ما وراء الطبيعة.
لقد عمل آباء الكنيسة على تأويل الفكر الفلسفي في ضوء المعتقدات الكنسية المحرَّفة، واقتفى أثَرهم أتباعُ الفلسفة المدرسية، فلم يستسِغ العقلُ آراءهم، ولم تتَّسق هذه الآراء مع منطق الفطرة، فضلًا عن أنها لم تروِ ظمأ الوجدان، فتحرَّر العقل من تأويلاتها المبهَمة، وراح يفتِّش له عن نسقٍ عَقدي آخر، لكنه ضلَّ الطريق هذه المرة أيضًا فلم يهتدِ إلى سواء السبيل، وراح يتخبَّط في ظلمات المادة بعيدًا عن نور الله تعالى، بعد أن شوَّهَت فلسفة الكنيسة عقيدة التوحيد الفطرية، وأحالَتها إلى مفاهيمَ محنَّطة ممسوخة لا تنسجم مع الفطرة.
(٥) عصر النهضة
يحدِّد بعض الباحثين عصر النهضة على أساس أنه حقبة من تاريخ أوروبا الغربية، تمتد من سنة ١٣٠٠م إلى سنة ١٦٠٠م تقريبًا، ومهما يكن تاريخ هذه الحقبة فإنها تمثِّل حلقة الاتصال بين العصر الوسيط والعصور الحديثة، وهو العصر الذي أضحى بوابةً لدخول أوروبا في حياتها الحديثة، ومغادرتها نهائيًّا لتسلط الكنيسة.
وكانت النهضة بوصفها حركةً فكريةً إحيائية قد بدأَت في إيطاليا، ثم امتدَّت منها إلى شتى أنحاء أوروبا؛ ففي عصر النهضة بدأَت حركةٌ مزدوجة تتمثَّل في العودة إلى التراث اليوناني والتحرُّر من الفلسفة الكنسية المدرسية، عبْر إحياء ذلك التراث وتحقيقه، وتفسيره تفسيرًا يبتعد به عن النزعة التأويلية لفلسفة العصر الوسيط.
فرنسيس بيكون أشد المناهضين لأرسطو
وُلد فرنسيس بيكون في سنة ١٥٦١م في إحدى ضواحي لندن، وتُوفي سنة ١٦٢٦م، وهو الرائد الأول في الفلسفة الأوروبية للمنطق الاستقرائي، وواضع الأسس المنطقية للمذهب التجريبي، فإن الاكتشافات العلمية كانت تجري عن طريق الصدفة أو المحاولة والخطأ، حتى جاء بيكون فوضع أسس منهج البحث العلمي، الذي يقود الباحث إلى اكتشاف القوانين الطبيعية لو ترسَّم خطواته بدقة.
الكوجيتو الديكارتي والعقلانية الأوروبية
ولد رينيه ديكارت في فرنسا سنة ١٥٩٦م وتُوفي سنة ١٦٥٠م، يُعَد رائد الفلسفة العقلانية في العصر الحديث، كان في الوقت نفسه رياضيًّا ممتازًا؛ إذ ابتكر الهندسة التحليلية.
يرى بعض الباحثين أن الكوجيتو الديكارتي «أنا أفكِّر فأنا إذن موجود» هو نقطة بداية الوعي الأوروبي العقلاني الحديث.
استهدفَت فلسفة ديكارت تحقيق ثلاثة أمور:
-
(١)
إيجاد علمٍ يقيني فيه من اليقين بقَدْر ما في العلوم الرياضية، بدلًا من العلم الموروث من الفلسفة المدرسية.
-
(٢)
تطبيق هذا العلم اليقيني تطبيقًا عمليًّا يمكِّن الناس «من أن يصيروا بمثابة سادة ومالكين للطبيعة».
-
(٣)
تحديد العلاقة بين هذا العلم وبين الموجود الأعلى؛ أي الله، وذلك بإيجاد ميتافيزيقا تتكفَّل بحل المشاكل القائمة بين الدين والعلم.
(٦) عصر التنوير
التنوير تيارٌ عقلي ظهر في الفلسفة الأوروبية وبلغَت الدعوة إليه ذروتَها في القرنِ الثامنَ عشر، أما نقطة بدايته فهي موضعُ خلافٍ بين مؤرِّخي الفلسفة، مثلما هو الموقف من تاريخ الأفكار، الذي يميل الباحثون فيه على الدوام إلى التفتيش عن بدايات ترتدُّ إلى عصورٍ تسبق تداول تلك الأفكار وشيوعها في الوسط الثقافي.
ومهما يكن فالرأي الشائع والمألوف أن القرنَ الثامنَ عشر هو عصر التنوير، وهو عصرٌ من صنع الفلاسفة. وقد تأثَّر التنوير بمفكِّرَين عظيمَين، هما: لوك (١٦٣٢–١٧٠٤م) ونيوتن (١٦٣٤–١٧٢٧م) اللذَين عارضَا ديكارت.
بحث لوك في أصل الأفكار في كتابه «محاولة في الإدراك الإنساني» فردَّها إلى معطَياتِ التجربة الحسية؛ فالنفس في الأصل كلوحٍ مصقولٍ لم يُنقش فيه شيء، وإن التجربة هي التي تنقش فيها المعاني والمبادئ جميعًا.
(٧) عصر سيادة الفلسفة الألمانية
لقد اتسمَت الفلسفة الألمانية وقتئذٍ بسماتٍ تميِّزها عن الفكر الفلسفي في عموم أوروبا؛ فبينما طغت بين الفلاسفة الإنجليز النزعة التجريبية الحسية، تميَّزت الفلسفة الألمانية بنزعتها العقلية والروحية، وبالعودة إلى الأنا كنقطة ابتداء في البحث الفلسفي.
ومنذ ذلك التاريخ اصطبغَت التجربة الفلسفية في ألمانيا بلونٍ خاص نحا بها منحًى آخر لا يتطابق مع ما عليه تيار الفلسفة خارج ألمانيا، وصارت بعض مقولات الفلاسفة الألمان ذات دورٍ تأسيسي لغير واحد من الأنساق الفلسفية الراهنة في فرنسا وبريطانيا، بل وفي الغرب عامة.
عمانوئيل كَانْت
ويُعد الفيلسوف كانط قمة عصر التنوير بلا منازع، وهو ما تلخِّصه مقالته التي نشرها سنة ١٧٨٤م، بعنوان «جواب عن سؤال: ما هو التنوير؟» والتي جاء فيها: «التنوير هجرة الإنسان عن اللارشد، واللارشد هو عجز الإنسان عن الإفادة من عقله من غير معونةٍ من الآخرين. كما أن اللارشد سببه الإنسان ذاته، هذا إذا لم يكن سببه نقصًا في العقل وإنما نقصًا في التصميم والجرأة على استخدام العقل من غير معونةٍ من الآخرين. كن جريئًا في استخدام عقلك، هذا هو شعار التنوير … إنه يطيب لنا أن يكون الكتاب بديلًا عن عقلي، والكاهن بديلًا عن وعيي، والطبيب مرشدًا لما ينبغي تناوله من طعام. وليس ثمَّة مبرِّر للتفكير إذا كان في مقدوري شراؤه، فالآخر كفيل بتوفير جهدي …
إن التنوير ليس بحاجة إلى الحرية، وأفضل الحريات خلوًا من الضرر هي تلك التي تسمح بالاستخدام العام لعقل الإنسان في جميع القضايا. وهنا قد أسمع أصواتًا تنادي قائلة: لا تفكِّر. يقول الضابط: لا تفكِّر بل تدرَّب! ويقول المموِّل: لا تفكِّر بل ادفع. ويقول الكاهن: لا تفكِّر بل آمن. ولكن ثمة سيدٌ واحد في العالَم ينادي قائلًا: فكِّر كما تشاء وفيما تشاء ولكن أطِعْ.
كتب عمانوئيل كانط عدة مؤلفات، من أشهرها: «نقد العقل الخالص أو النظري» (١٧٨١م)، «نقد العقل العملي» (١٧٨٨م)، «نقد الحكم» (١٧٩٠م)، «الدين في حدود العقل الخالص» (١٧٩٣م)، «ميتافيزيقيا الأخلاق» (١٧٩٧م) في جزأَين؛ الأول هو: «المبادئ الميتافيزيقية للحق». والثاني: «المبادئ الميتافيزيقية للفضيلة».
فريدريك هيغل
(٨) القرن التاسعَ عشر
مذاهب القرنِ التاسعَ عشر
الاتجاه الذي اتسم به هذا القرن هو السعي لبناء نُظمٍ فلسفية؛ أي العمل على التأليف والتركيب بين الأفكار، فخرجتَ مذاهب بعض الفلاسفة عبْر مزج معطياتٍ فلسفية سالفة. كما تأثَّرت المذاهب الفلسفية بالعلم مثلما نجد في المذهب المادي والوضعي.
ففي ألمانيا تبنَّى المادية فويرباخ (١٨٠٤–١٨٧٢م)، وموليشُط (١٨٢٢–١٨٩٣م)، وبوخنر (١٨٢٤–١٨٩٩م)، وكارل فوجت (١٨١٧–١٨٩٥م).
أما في فرنسا فقد أسَّس أوجست كُونْت (١٧٩٨–١٨٥٧م) الفلسفة الوضعية، وتبعه جون استيوارت مل (١٨٠٦–١٨٧٣م) في إنجلترا، وأرنست لاس (١٨٣٧–١٨٨٥م) ويودل (١٨٤٨–١٩١٤م) في ألمانيا. وقد رأى هؤلاء جميعًا أن الفلسفة ليست إلا تجميعًا لنتائج العلم.
وجرى تأييد المذهب المادي الوضعي تأييدًا حاسمًا بمذهب تشارلز دارون (١٨٠٩–١٨٨٢م) العالم الإنجليزي الذي فسَّر تطوُّر أنواع الكائنات الحية في كتابه «في أصل الأنواع بالانتخاب الطبيعي». وصارت فكرة التطور مذهبًا شاملًا عامًّا، وأدَّت إلى ظهور المذهب التطوُّري الذي دافع عنه توماس هنري هكسلي (١٨٢٥–١٨٩٥م)، وهربرت اسبنسر (١٨٢٠–١٩٠٣م)، بينما نشره في مختلف طبقات القُراء الألماني إرنست هيغل (١٨٣٤–١٩١٩م).
البراغماتية (الذرائعية)
واقترنَت البراغماتية في الأذهان باسم وليم جيمس (١٨٤٣–١٩١٠م) وهو أكبر دُعاتها في أمريكا، وأحد مؤسِّسي علم النفس الحديث، ويرى جيمس أن معيار صدق القضية هو نتائجها العملية، وليس مطابقتها للواقع، ومعيار الحقيقة هو نجاح الفكرة عمليًّا، فيقول: «الفكرة صادقة إذا كانت تعمل.» ويقول: «الفكرة صادقة إذا كانت لها نتائجُ عملية تقودنا إلى الموضوع المقصود بها إدراكه.» ويتابع «القضية صادقة إذا كانت تعطينا أكبر كمٍّ من الرضا، بما في ذلك إرضاء الذوق … وإن أهم خاصية للحقيقة هي التحقُّق العملي.»
ويذهب الفيلسوف الأمريكي الآخر «ديوي» إلى أن تحديد مفهومٍ ما أي فكرة إنما هو بأنها أداة فعل. ويقول: «النظرية أداة أو آلة للتأثير في التجربة وتبديلها، والمعرفة النظرية وسيلة للسيطرة على المواقف الشاذة، أو وسيلة لزيادة قيمة التجارب السابقة من حيث دلالاتها المباشرة.»
وينجُم عن ربط الحقيقة وصدق الفكرة بالنتائج العملية والرضا والمصلحة نسبية الحقيقة وتعدُّدها، تبعًا لتنوُّع مصالح الأفراد. وهذا يعني أن البراغماتية تتعارض مع المذهب العقلي الذي يعتقد أن الحقيقة وصدق الفكرة مرهونٌ بكشفها عن الواقع ومطابقتها للحقائق الخارجية. ويبدو أن البراغماتية تجسِّد أحد تجليات الوعي الغربي الذي طغت فيه المصلحة المادية على كل شيء، حتى أضحت الحقيقة في هذا الوعي تدور مدار المصلحة.
(٩) القرن العشرون
اتسم النصف الأول من هذا القرن بغزارة الإنتاج الفلسفي؛ ففي إيطاليا وحدها كان عدد المجلات الفلسفية المتخصِّصة لا يقل عن الثلاثين في عام ١٩٤٦م، كما أن قائمةً غير كاملة للكتب الفلسفية، أصدرها المعهد الدولي للفلسفة اشتملَت على أكثر من سبعةَ عشر ألفًا من المنشورات في النصف الأول من العام ١٩٣٨م.
ويمارس الفلاسفة الغربيون في القرن العشرين طرائق التحليل أكثر من أية طريقةٍ أخرى، مخالفين بذلك اتجاه الفلاسفة في القرنِ التاسعَ عشر الذي كان يعلو فيه التركيب والمزج على التحليل.
وقد تميزت هذه الحقبة بكثافة الاتصالات بين الفلاسفة من شتى الاتجاهات، وتعدُّد المؤتمرات الفلسفية الدولية واللقاءات ذات الموضوعات المتخصِّصة التي تتناول مذهبًا بعينه أو موضوعًا خاصًّا.
كذلك أسِّسَت مجلاتٌ للمذاهب؛ فمثلًا ظهرت للتوماوية وحدها حوالي عشرين مجلةً متخصِّصة.
ومنذ بداية هذا القرن تبلورَت بالتدريج بعضُ الاتجاهات والمناهج والمدارس التي سادت التفكير الفلسفي في الغرب، وتحوَّل بعضُها إلى تيارٍ واسع نفذ إلى كافة مناشط الحياة الثقافية هناك، بل تجاوز حدود أوروبا متوغلًا في شعوبٍ أخرى.
وفيما يلي إشاراتٌ سريعة إلى أبرز تلك المناهج والمدارس والاتجاهات:
(أ) المنطق الرياضي
أهملَت الفلسفة الأوروبية الحديثة المنطق الصوري حتى توارى في زوايا النسيان؛ فلم يكن بين الفلاسفة في أوروبا الحديثة إِلا واحد هو «ليبنتز» كان منطقيًّا مرموقًا، أما الآخرون فكانوا يجهلون أسس المنطق الصوري.
وفي عام ١٨٤٧م ظهر كتابان في المنطق الرياضي الجديد، كلٌّ منهما مستقلٌّ عن الآخر، هما أول ما نُشر في ذلك؛ الأول للرياضي الإنجليزي مورجان (١٨٠٦–١٨٧٨م)، والثاني لمواطنه الرياضي جورج بول (١٨١٥–١٨٦٤م). واستمر في الاتجاه نفسه إرنست شرودر (١٨٤١–١٩٠٢م)، وبيانو (١٨٥٨–١٩٣٢م)، وفريجه (١٨٤٨–١٩٢٥م) الذي كان منطقيًّا مرموقًا.
بَيْد أن هذا المنطق ظل مجهولًا عند معظم الفلاسفة، ولم تتجه الفلسفة الإنجليزية للاهتمام به إِلا بعد نشر برتراند رسل لكتابه «أسس الرياضيات» في عام ١٩٠٣م، وذلك إثر مقابلته مع الرياضي بيانو عام ١٩٠٠م. وفي ١٩١٠–١٩١٣م ظهر الكتاب الضخم «مبادئ الرياضيات» الذي اشترك في تأليفه رسل مع وايتهد، وهو المؤلَّف الذي أسرع من خُطا تطوُّر المنطق الرياضي.
(ب) الظاهراتية (الفنومنولوجيا)
يقوم المنهج الفنومنولوجي في أساسه على تحليل جوهر المعطَى أو الظاهرة. وهو يمثِّل الاتجاه الثاني بعد المنطق الرياضي الذي ظهر في الفكر الأوروبي وساهم في قطع الجسور مع اتجاهات القرن التاسع.
(ﺟ) الوضعية المنطقية
ومن أعضاء هذه الجماعة البارزين رودلف كارناب (١٨٩١–١٩٧٠م)، وفردريك فايزمان، وكلاهما تعلَّم تعليمًا رياضيًّا في بداية الأمر، وكارل بوبر (١٩٠٢–١٩٩١م).
وانخرط في هذه الجماعة مجموعة من العلماء توزَّعَت اهتماماتهم العلمية في عدة تخصُّصات؛ فمثلًا كان «هانزهان» و«كارل مينجر» و«كورت جودل» من علماء الرياضيات، بينما كان «أوتونيورات» عالم اجتماع، و«فكتور كرافت» مؤرخًا، و«فليكس كوفمان» رجل قانون، و«فيليب فرانك» أستاذ فيزياء بجامعة براغ.
أما سبب لقاء هذه الجماعة في حلقةٍ معرفيةٍ مشتركة، فيعود إلى توحُّدها في همٍّ مشتركٍ بينها، يتمثَّل في الاهتمام بالمنهج كمدخلٍ أساسي، والسعي لتأسيس الفلسفة العلمية أو التنظير للفلسفة علميًّا من خلال ممارسة التحليل المنطقي، فضلًا عن السعي لتوحيد العلوم جميعًا.
والتأثير المباشر على فلسفة جماعة فيِنَّا جاء من كتابات هيوم، ومل، وإرنست ماخ، وغيرهم، لكن التأثير الأكبر والأخطر جاء مباشرةً من رسالة فتجنشتاين (١٨٨٩–١٩٥١م) «رسالة منطقية فلسفية» التي صدرت بالألمانية عام ١٩٢١م، وتُرجمَت إلى الإنكليزية عام ١٩٢٢م.
وفي عام ١٩٢٩م أصدرَت جماعة فيِنَّا مؤلفًا بعنوان «حلقة فيِنَّا تصوُّرها العلمي للعالم» أعلنَت فيه عن أهدافها ومنهجها. وبعد ذلك بعامٍ ابتاعت الجماعة صحيفة «حوليات الفلسفة» وأطلقَت عليها اسمًا جديدًا هو مجلة «المعرفة» التي أشرف على تحريرها «كارناب» و«رايشنباخ»، وأخذَت تنشر أبحاث الوضعية المنطقية.
(د) الوجودية
تُطلَق الوجودية على اتجاهاتٍ فلسفيةٍ متعددة، تتفق على أن الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يسبق وجودُه ماهيَّته، وأن الإنسان لا يمكن فهمه إلا في المواقف التي يختارها لنفسه.
لقد كان للوجودية تأثيرٌ واسع على الثقافة والأدب والفنون، مثلما نلاحظ في روايات ومسرحيات سارتر، وألبير كامو، وسيمون دي بوفوار، وجان جينيه وغيرهم، وامتد تأثيرها على مظاهر الحياة الاجتماعية، لا سيما لدى الشباب.
(ﻫ) مدرسة فرانكفورت
نشأَت هذه المدرسة في جامعة فرانكفورت حول معهد البحث الاجتماعي، الذي تأسَّس عام ١٩٢٣م، وكان مؤسِّسوها أربعة من الفلاسفة وعلماء الاجتماع، وهم: ماكس هوركهايمر (١٨٥٩–١٩٧٣م) مؤسِّس معهد البحث الاجتماعي ومديره لمدةٍ طويلة، وأدورنو (١٩٠٣–١٩٦٩م) الذي عمل أستاذًا في جامعة فرانكفورت، وماركوز (١٨٩٨–١٩٧٩م) الذي درس الفلسفة في برلين وفريبورج وحاضر في جامعات كولومبيا وهارفارد، وكان أستاذًا للفلسفة والسياسة في جامعة براندايز، ثم أصبح أستاذًا للفلسفة في جامعة كاليفورنيا بسان دييجو، وهابرماس (١٩٢٩م) الذي كان أستاذًا للفلسفة وعلم الاجتماع في جامعة فرانكفورت، ثم أصبح مديرًا لمعهد ماكس بلانك في شتارنبرج.
أسس المعهد «مجلة البحث الاجتماعي» لنشر أبحاث هذا الفريق، فكانت الأبحاث تحقيقًا لمشروعٍ مشترك، وهو تأسيس النظرية النقدية للعلوم الاجتماعية في صيغة برنامجٍ مشترك، وهو يعادل في الفكر المعاصر المذهب في الفلسفة الحديثة.
كانت هذه المدرسة تعمل كفريقٍ مشترك؛ إذ يأخذ هوركهايمر الموقف، ويقوم زملاؤه بالبحث: «بولوك» في الاقتصاد السياسي، و«فروم» في التحليل النفسي، و«لوفنتال» في النقد الأدبي، و«ماركوز» في الفلسفة، و«أدورنو» في الموسيقى خاصة وفي النقد الأدبي والتحليل النفسي وعلم الاجتماع عامة.
(و) البنيوية
وتعود الأفكار الأساسية لهذا المذهب إلى مؤسِّسها الأول السويسري فرديناند دي سوسير (١٨٥٧–١٩١٣م) الذي عمل على تحديد موضوع علم اللغة، وإن كان بعضٌ يذهب إلى أن مفهوم البنية وُجِد قبل سوسير في أعمال جان جاك روسو، وعمانوئيل كانط، وماركس، وفرويد، وغيرهم، بَيْد أنه لم يصبح أداةً للتحليل وقاعدةً لمنهجٍ نظريٍّ معيَّن إلا بعد عام ١٩٢٨م.
وأبرز ما تمتاز به البِنيوية فلسفيًّا هو محاربتُها للنزعة التجريبية من جهة، وللنزعة التاريخية من جهةٍ أخرى؛ فهي تذهب إلى أنَّ العقل ينمو نموًّا عضويًّا بحيث تظل فيه صور هي أشبه بالنواة الثابتة، وإن كنا نزيدها على الدوام توسيعًا وتعميقًا.
وبذلك تعتقد أنها انتقلَت بدراسة الإنسان إلى مرحلة العلم المنضبط، وأوقفَت النزعة التاريخية الطاغية، التي ترجع إلى القرنِ الثامنَ عشر، وطغت في القرن التاسع عشر، وكانت لها امتداداتٌ قوية في القرن العشرين، تلك النزعة التي تؤكِّد على وجود اتصالٍ واستمرارٍ تاريخي بين الظواهر؛ فالحاضر كامن في الماضي، والمستقبل كامن في الحاضر، فجاءت البنيوية بتصورٍ آخر لا يقوم على أساس أن التقدُّم يعني تراكمًا تدريجيًّا لمكتسبات يُضاف الجديد منها إلى القديم إضافةً خارجية، وإنما يقوم على أساسِ أن الأفكار الجديدة هي مجرد توسيعٍ لأفكار سبق ظهورها من قبلُ؛ فالعقل الإنساني لا يسير بطريقةٍ جيولوجية؛ أي إنه لا يضيف طبقةً من المعرفة فوق طبقةٍ أخرى، وإنما يسير بطريقةٍ عضوية، يُعيد فيها تَمثُّل القديم بطريقةٍ أصعبَ وأعقد، ويحتفظ فيها ببنائه القديم، وإن كان يدرك خلال تطوُّره أن ذلك البناء الذي كان يُعد صحيحًا صحةً مطلقة في وقتٍ مضى لا يمثِّل إلا جانبًا من الحقيقة، هو ذلك الجانب الذي كان عقلنا يستطيع بلوغه في ذلك الوقت.
(ز) ما بعد البنيوية
منذ بداية السبعينيات في القرن العشرين ظهرَت محاولاتٌ في أوروبا لبناء فلسفةٍ جديدة تملأ الفراغ الفلسفي في الثلث الأخير من هذا القرن، بعد تراجُع البنيوية وتزايُد الأعمال النقدية لمقولاتها، فوُلدَت الفلسفة التفكيكية كأقوى اتجاهٍ فلسفيٍّ معاصرٍ من بين عدة اتجاهات بعد هذه الفترة، وأصبحَت هي السائدة في فرنسا، وانتشرَت بعد ذلك في الولايات المتحدة واليابان.
ورائد هذه الفلسفة الفيلسوف الفرنسي جاك دريدا (١٩٣٠م)، الذي بدأ بالظاهريات، ثم ثنَّى بهيدغر، ثم تميَّز بعد ذلك بتحليلاته اللغوية الفلسفية الخاصة، وأسَّس «الكلية الفلسفية» لممارسة الفلسفة التفكيكية كفريق.
وكان الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز (مات منتحرًا سنة ١٩٩٦م) الذي جمع بين النقد الأدبي والفلسفة من أشهر الممثِّلين لهذه المدرسة.
وتمثِّل التفكيكية آخر صرخة للوعي الأوروبي؛ فهي ليست الحداثة، بل ما بعد الحداثة، وليست البنيوية بل ما بعد البنيوية، ويقوم منهجها على تحليل وتفكيك بِنية العلوم الإنسانية؛ فقد بدأَت انطلاقة دريدا عام ١٩٦٧م عندما أصدر كتابًا بفرنسا نقَض فيه الفكر الغربي منذ أفلاطون في العصر اليوناني إلى هيدغر وشتراوس في هذا العصر، وحاول تشريح أعمال الفلاسفة كيما ينقُضها من داخلها، فصار كل فيلسوفٍ ينقض مقولاته بأفكاره، من خلال تفكيك أعماله وقراءتها قراءة ما يحجُبه الخطاب ويُخفيه.
وعلى هذا يهتم دريدا بالبحث عن ألفاظ التفكيك في الخطاب وليس ألفاظ الربط؛ فهو يؤسِّس منطق الاختلاف وليس منطق الهوية؛ فالأجزاء لها الأولوية على الكل، والهدم قبل البناء.