وظيفة الفلسفة
قبل الخوض في بيان وظيفة الفلسفة، نشير إلى بعض المسائل التي تُضيء الموقف إزاء الدور الذي تنهض به الفلسفة في الحياة العقلية للإنسان.
التباس مفهوم الفلسفة
أُشيعَت حول كلمة «الفلسفة» مداليلُ متنوِّعة أفضت إلى تُهمٍ عديدة؛ فقد أضحَت هذه الكلمة ملتبسة بمعانٍ سلبية وأفكارٍ مثيرة منفِّرة، تتوثب أذهان عامة الناس حين سماعها، فيتبادر منها: أنها شيءٌ معقَّد، ومبهَم، وغامض، وربما لا نفع فيه، وهرطقة، وضياعٌ للوقت والعمر، واستنزافٌ للجهود، وإهدار للعقل، فيما لا طائل منه، حتى خُيِّل لبعضٍ أن كثرة قراءة الفلسفة ودراستها ربما تقود إلى الهستيريا والجنون — كما تقول خُرافات العجائز.
تاريخ الاختلاف حول الفلسفة
يرتد الاختلاف حول قيمة الفلسفة، والوظيفة العقلية التي يمكِن أن تؤديها وجدوى الاستمرار بدراستها وقراءة مدوَّناتها، إلى فترةٍ مبكِّرة في تاريخ البشرية؛ فمنذ ظهور الحضارة، وبدايات تدوين الفكر الفلسفي، ذهب الناس مذاهبَ شتى، وتقاطعَت آراؤهم حيال الفلسفة؛ فبينما حرَص بعضهم على دراسة الفلسفة، وتبنَّى الدفاع عن الفلاسفة، عمَد آخرون إلى رفضها وتسفيه مَنْ يتعاطى دراستها.
وكان السِّجال متواصلًا في هذا المضمار، وطالما تفاقَم واشتدَّ بمرور الزمان، خصوصًا في الفترات التي تزدهر فيها الحياة العقلية، ويتصاعد الأفق الفكري للمجتمع، في مثل هذه الظروف يتسع الكلام حول الفلسفة، وينفُذ إلى دوائرَ غيرِ معنية بالفكر، فإذا هبط الحوار إلى مثل هذه الدوائر، عادةً ما تشيع أخطاءٌ كثيرة في تفسير الفلسفة وفهم مقولات الفلاسفة، حين يسعى كل شخصٍ لتقويل الفلاسفة ما لم يتفوَّهوا به، أو يقوم باجتزاء بعض مقولاتهم، واقتطاعها من نسق المنظومة الفلسفية وإسقاط تفسيرٍ خاصٍّ عليها يتنافى مع ما تقوله تلك المنظومات، فتتعرَّض آراء الفلاسفة إلى عمليات تأويل، يجري فيه مسخٌ وتشويهٌ مقرِف لها، وتُفرَّغ من تمام ما تكتنزه من دلالاتٍ ومفاهيمَ عميقة، وتُفضي منظومات الفلاسفة إلى مجموعات عباراتٍ هزيلة ساذجة.
القضايا الكبرى في الفكر قضايا فلسفية
إن الاطلاع على التراث الفكري للحضارات السالفة، والذي وصلَنا عبْر الألواح الطينية وغيرها، يكشف لنا عن أن أعظم المشكلات المعرفية في تاريخ الفكر تعود إلى قضايا فلسفية، مثلما نجد في قضية الألوهية، والمبدأ والمصير، وما يتوالد منها من رؤًى ومعتقَدات ومقدَّسات وطقوس، ظلَّت تُلازم الإنسان في مختلف مراحل وأشكال حياته، مضافًا إلى أنها ليست من الاهتمامات الفكرية الخاصة بالفلاسفة أو رجال الدين، بل هي من المشاغل العقلية للبشرية بأَسْرها؛ فإن كل إنسانٍ لا بد أن تتشكل في ذهنه رؤيةٌ كونية — وإن كانت ساذجة — عن الكون والإنسان والحياة، مبدئها ومآلها، ويحاول عقله دائمًا تعميق هذه الرؤية عبْر الاستعانة بتحصيل البراهين عليها، كما يسعى إلى تجسيدها في أنماط سلوكه وعلاقاته بما حوله؛ فإن سلوك الإنسان يتكيَّف في إطار ما تحدِّده رؤيته الكونية، بما تنطوي عليه من تقرير طبيعة علاقته بالمبدأ الأول، وموقعه في الكون، والهدف من خلقه، ومصيره.
قوانين العلوم الطبيعية تنبثق من قوانين فلسفية
وُلدَت القوانين العلمية جميعًا في فضاء الأسس والمقولات التي كشف عنها وصاغها العقل الفلسفي، وهذه حقيقة لا يستطيع إنكارَها أشدُّ خصوم الفلسفة؛ فإن ما نادى به التجريبيون من استغناء العلوم الطبيعية عن الفلسفة، واعتماد العلوم على التجربة فقط، لا يُمكِن قبوله؛ لأن العلوم الطبيعية التي يريد التجريبيون إقامتها على أساس التجربة الخالصة، هي بنفسها تحتاج إلى أصولٍ عقليةٍ أوَّليةٍ سابقة على التجارب؛ ذلك أن التجربة إنما يقوم العالِم بها في مختبَره على جزئياتٍ موضوعيةٍ محدودة، فيضع نظريةً لتفسير الظواهر التي كشفَتها التجربة في المختبَر، وتعليلها بسببٍ واحدٍ مشترك، كالنظرية القائلة بأن سبب الحرارة هو الحركة، استنادًا إلى عدة تجارب فسِّرت بذلك، ومن حقنا على العالِم الطبيعي أن نسأله عن كيفية إعطائه للنظرية صفة قانونٍ كلي ينطبق على جميع الظروف المماثلة لظروف التجربة، مع أن التجربة لم تقع إلا على عدة أشياء خاصة، أفلَيس هذا التعميم يستند على قاعدة، وهي أن الظروف المتماثلة والأشياء المتشابهة في النوع والحقيقة يجب أن تشترك في القوانين والنواميس؟ وهنا نتساءل مرةً أخرى عن هذه القاعدة، كيف توصَّل إليها العقل؟ ولا يُمكِن للتجريبيين هنا أن يزعموا أنها قاعدةٌ تجريبية، بل يجب أن تكون من المعارف العقلية السابقة على التجربة؛ لأنها لو كانت مستندةً إلى تجربة، فهذه التجربة التي ترتكز عليها القاعدة، هي أيضًا لا تتناول بدورها إلا مواردَ خاصة، فكيف ركَّزت على أساسها قاعدةً عامة؟ فبناء قاعدةٍ عامة وقانونٍ كلي في ضوء تجربةٍ واحدة أو عدة تجارب لا يُمكِن أن يتم إلا بعد التسليم بمعارفَ عقليةٍ سابقة.
وبهذا يتضح أن جميع النظريات التجريبية في العلوم الطبيعية ترتكز على عدة معارفَ عقلية لا تخضع للتجربة، بل يؤمن بها العقل إيمانًا مباشرًا، وهي:
- أولًا: مبدأ العلِّية، بمعنى امتناع الصُّدفة؛ ذلك أن الصُّدفة لو كانت جائزة لما أمكن للعالِم الطبيعي أن يصل إلى تعليلٍ مشترك للظواهر المتعددة التي ظهرَت في تجاربه.
- ثانيًا: مبدأ الانسجام بين العلة والمعلول، الذي يقرِّر أن الأمور المتماثلة في الحقيقة لا بد أن تكون مستندةً إلى علةٍ مشتركة.
- ثالثًا: مبدأ عدم التناقض، الحاكم باستحالة صدق النفي والإثبات معًا.١
على أن الفلسفة كما كانت بالأمس علم العلوم، فإنها اليوم مصدر إلهام البحث العلمي في حقل الطبيعة؛ ذلك أن القوانين العقلية التي يتكفَّل بها البحث الفلسفي لا يمكن أن تستغني عنها أية محاولةٍ للبحث العلمي؛ فهي تؤمِّن للباحث الأدوات المعرفية اللازمة في بحثه، وبعبارةٍ أخرى إنها تمثِّل الإطار المرجعي النظري الذي لا تنتظم أية عملية للتفكير والبحث بدونه.
الفلسفة حاجةٌ عقلية
اقترن ظهور التفلسف بوجود الكائن العاقل على الأرض؛ ذلك أن العاقل بطبيعته يندهش باستمرارٍ إذا ما أثاره شيء أو موقف أو مشكلة، وكل ما في العالم يدعوه للدهشة، فيثير استفهاماتٍ وأسئلةً متنوعة، تتناسل عنها دائمًا استفهاماتٌ أخرى، وتثوي وراءها مجهولاتٌ شتى، لا تجد الإجابات القاطعة عليها أبدًا حالما تُوجَد. غير أن العقل يتفاعل فيفتِّش عن مفاهيم، ويسعى لاستكشاف رؤًى، تُوافي تلك الأسئلة بإجابات تُخرِج الإنسان من دائرة المجهول، وتُنير له شيئًا مما يُحيط به، وتُتيح له الاقتراب نحو الحقيقة، وتُفضي به في نهاية المطاف إلى إبصار الحقيقة كما هي. فيستلهم عقلُه وعيًا بالوجود، والمبدأ، والمصير، ومركز الإنسان في الكون، وليست الفلسفة إلا وعي العقل بهذه القضايا الكبرى، وإفصاحه عن أسرار الوجود العظمى، وتشخيصه لموقع الإنسان، وبهذا الوعي ينجو الإنسان من حالة الاغتراب في هذا العالم؛ لأن شعوره بأنه جزء من عالم الموجودات، وهي بمجموعها متماثلة بالوجود، ينتشله من حالة الاغتراب.
مَنْ هو الفيلسوف؟
إن وعي الواقع، واستكناه أسراره، والتأمُّل في نسَق القوانين الناظمة له، نحوٌ من التفلسُف، لكن ليس كل ألوان الوعي والإدراك فلسفة؛ ذلك أن الفيلسوف هو مَن يؤصِّل مقولات، ويُبدِع نظريات، ويُعنى بصياغة منهجٍ تنتظم في إطاره عملية التفكير، كيما يوجِّه العقل لسبر أغوار الواقع، والتعرف على حدود العالم وتخومه وآفاقه، واستجلاء حقيقة الوجود على ما هو عليه، أو بما هو موجود — بحسب تعبير الحكماء.
الفلسفة مظهر الرقي الحضاري
إن لحظة ولادة الفلسفة في تاريخ الوعي البشري، هي لحظة تألُّق وتسامي العقل، باعتبارها تجسيدًا مكثفًا ومعمقًا للوعي الكوني، مضافًا إلى أنها تؤرِّخ لأخصب مُنجَزٍ معرفي في التاريخ؛ من هنا يمكن القول بأن المعيار والمظهر الذي يتجلى به الرُّقي الحضاري في حياة أية أمة من الأمم هو ازدهار التفكير الفلسفي لديها، وبوسعنا أن نُدلِّل على ذلك عبْر استقراءٍ سريعٍ لمسار الحضارة الإنسانية؛ فقد تميَّزت الحضارة اليونانية على سواها من الحضارات المتاخمة لها، حتى صارت من أبرز الحضارات التي عاشت قبل الميلاد، وعُرِف عن هذه الحضارة تعاطي رجال الفكر فيها للفلسفة بشكلٍ واسع؛ بحيث كان الموروث الفلسفي هو الميراث الأعظم الذي خلَّفَته، وهو أخصب ميراثٍ فلسفي مدوَّن يصلنا من عصور ما قبل الميلاد. ومن المعروف أن معطيات الحضارة اليونانية منوطة بالإنجاز الفلسفي للفلاسفة اليونان.
كذلك خلَّفَت الحضارة الإسلامية ميراثًا فلسفيًّا هائلًا، وكانت لحظات ازدهار التفكير الفلسفي، هي لحظات صعود هذه الحضارة؛ ذلك أن سيادة المنحى العقلي وتألُّق العقلانية، واكبه دومًا تطوُّر واسع شمل حقول الحياة الإسلامية بأَسْرها، مثلما نرى ذلك في القرن الرابع الهجري.
الفلسفة تؤسِّس للنهضة
في الحضارة الأوروبية الحديثة تبدو هذه المسألة بصورةٍ جلية؛ فقد مهَّدَ لدخول أوروبا عصر النهضة قبل حوالي خمسة قرون، ولادة تيارٍ فلسفي عميق، تبادلَ الأدوار فيه فلاسفةٌ بارزون، من أمثال فرنسيس بيكون (١٥٦١–١٦٢٦م)، ورينيه ديكارت (١٥٩٥–١٦٥٠م).
وعلى هذا لم نجد أحدًا ممن أرَّخوا لأوروبا عصر النهضة، يُغفِل الدور العظيم الذي اضطلَع به هؤلاء الفلاسفة، في إرساء الأسس المعرفية الضرورية لولوج العقلِ الأوروبي عصرَ الاكتشافات والاختراعات؛ ومن ثَم حدوث الثورة الصناعية.
لقد ظل العقل الغربي حبيسَ مجموعةِ مفاهيمَ ومقولاتٍ خاطئة، أعاقت وعيه وعطَّلَت وظيفته قرونًا عديدة، حتى إذا جاء هؤلاء الفلاسفة حطَّموا تلك المفاهيم، وأطلقوا العقل من أغلاله، فأعادوا للتفكير الفلسفي مهمته في ترشيد حركة الوعي، من خلال المنهج الجديد الذي بشَّروا به. ويعود لهذا المنهج الذي أثمرَتْه الجهود الفلسفية لفلاسفة عصر النهضة، الأثر الأساسي في زحزحة المفاهيم القدَرية التعطيلية التي فرضَتْها الكنيسة على العقل الغربي، وظلت تُعيق هذا العقل ما يُناهز ألف سنة. واستطاع الإنسان الأوروبي بفضل الاستعانة بالمنهج الجديد أن يحقِّق فتوحاته العلمية المهمة في الطبيعة، وأن يؤسِّس نهضته التقنية التي اعتمد عليها في بسط نفوذه على المعمورة.
تأسيسًا على ما سبق يمكن القول إن نمُو عدد الفلاسفة في حياة أية أمة، وشيوع التفكير الفلسفي، علامة نهوض الأمة؛ ذلك أن النهضة دائمًا تتأسَّس على وعيٍ فلسفي مستنير؛ لأن تغيير العالَم إنما يجري عبر تغيير وعي الناس، وتحوُّل أفكارهم ومفاهيمهم، وهذا ما تتكفَّل به الفلسفة.
الوظيفة التحليلية النقدية للفلسفة
تتولى الفلسفة الكشف، والتحليل، والتفسير؛ فهي تحكي لنا عمَّا هو كائن، فيما تنفي ما سواه، مما يثوي في الذهن من أوهام وخرافات، تحول بينه وبين بلوغ الحقيقة، وتُعيقه عن الخلق والإبداع. إن الفلسفة تُسبِغ على الذهن نزعةً تحليلية نقدية، تُطهِّره من كافة العناصر التي تُفسِد التفكير المستقيم، وتمنَحه أدواتٍ تتوكأ عليها كل عملية تفكير مبرهنة. ويعتبر توليد الفلسفة لهذه الأدوات من مهامها التحليلية النقدية الأساسية؛ لأنه لما كانت الوظيفة الكبرى للفلسفة هي اكتشاف الواقع وإدراكه كما هو، والتعرف على الحقيقة بتمام أبعادها، والحقيقة عادةً ما تغلِّفها حُجُبٌ موهومة، يصطنعها جهل الإنسان؛ من هنا تبدو الأهمية البالغة للأدوات النقدية التي تنتجها الفلسفة؛ فبواسطتها يجري تحطيم الحُجُب، التي تتسبَّب في نشوء الوعي الزائف بالحقيقة، وإدراك الحقيقة كما هي.
غير أن حاكمية العقل في كافة مناشط الحياة إذا أُريد لها أن تتحقق فيجب أن يسود النقد الحياة؛ ذلك أن النقد هو الوقود اللازم لكل منحًى عقلاني في التفكير. والنقد أحد أبرز وظائف الفلسفة القديمة؛ فإن الفيلسوف هو المفكِّر الذي يقول لنا ما لا يقوله غيره، بمعنى أنه يُرينا ما ألفناه وتلقَّيناه بالقبول والتسالم، وحسبناه هو الحقيقة، أنه ليس كما يُخيَّل لنا، وإنما هو وهمٌ التبَس علينا إدراكُه، بعد أن ارتدَى ثياب الحقيقة، فاشتبه بها؛ ومن ثَم طَمَسَها فحلَّ محلَّها، فيجيء الفيلسوف ليكشف لنا ما جرى طمسه من الحقيقة؛ لأنه يستطيع أن يخترق برؤيته الأعماق، ويسبُر غور الواقع، ويستجلي أسراره، فيُرينا ما لا نقوى على رؤيته، بأدواتنا وطريقتنا المبسَّطة التي طالما اعتمدناها في معاينة الواقع.