الفصل الثالث

الفلسفة الإسلامية

الفلسفة هي الوعي العقلي بالعالم، المطابق للعالم تطابقًا تامًّا، بمعنى «صيرورة الإنسان عالَمًا عقليًّا مضاهيًا للعالَم العيني»١ حسب تعبير السبزواري، وتحرير الإنسان مما يكتسي تفكيره من أوهام وخيالات، فقد يخال الإنسان ما ليس بموجود موجودًا، وما ليس بحقيقة حقيقة، فيظل أسيرَ ما أوحاه له خياله من أنه حقيقة، بينما هو ليس بحقيقة، ويقوده ذلك إلى جملة مشكلاتٍ نظرية وعملية تؤدي إلى انحطاط منظومة معارفه وشقائه فيما بعدُ، ولا تقف المسألة عند شقاء الفرد، بل تتعدَّاه إلى شقاء المجتمع الذي يعيش فيه، عندما تضطرب حياته العقلية بما يسودها من أوهام، وتئول بِنيته الاجتماعية إلى التداعي، وتتبعثر إمكاناته الحياتية فيما لا ينفعه، وتتشتَّت طاقاته، بعد غياب وعيه، وتعطُّل عقله عن التفكير المستقيم. فلا يقدر على بناء نهضة، وإبداع مقوِّمات حضارةٍ سليمة، بعد ذوبان قدراته وإمكاناته، فيتلاشى دوره، ويضمحل إسهامه في رفد تطوَّر المعارف البشرية، ويخرج المجتمع عندئذٍ من نسق الحركة التاريخية، ويتهمَّش دوره في الحياة، فتجي‏ء الفلسفة لتحميَ معطيات العقل البشري، ومكاسب التجربة الإنسانية، من الانهيار؛ لأن الفلسفة تؤمِّن للعقل وعيًا إيجابيًّا عميقًا إزاء الوجود، يخترق معه العقل ما يحول بينه وبين إدراك الموجودات على حقيقتها، ويتغلب على الوعي الزائف، الذي يحجُبه عن رؤية الواقع كما هو؛ ذلك أن الفلسفة — كما يقول صدر المتألهين الشيرازي — تعني «استكمال النفس الإنسانية بمعرفة حقائق الموجودات على ما هي عليها، والحكم بوجودها تحقيقًا بالبراهين، لا أخذًا بالظن والتقليد، بقَدْر الوسع الإنساني، وإن شئتَ قلتَ نظْم العالم نظْمًا عقليًّا، على حسب الطاقة البشرية.»٢ وكذلك يُفصِح عن غايتها بأنها: «انتقاش النفس بصورة الوجود على نظامه بكماله وتمامه، وصيرورتها عالَمًا عقليًّا مشابهًا للعالم العيني … وهذا الفن من الحكمة، هو المطلوب لسيد الرسل المسئول في دعائه صلى الله عليه وآله إلى ربه؛ حيثُ قال: «ربِّ أرِنا الأشياء كما هي.»٣

مسائل الفلسفة الإسلامية

إن المحور الأساس لمسائل الفلسفة الإسلامية هو «الموجود»، والموجود في الفلسفة ﮐ «بدن الإنسان بالنسبة إلى الطب»، و«العدد» بالنسبة إلى الحساب، و«المقدار» بالنسبة إلى الهندسة. وبتعبيرٍ آخر إن موضوع الفلسفة هو «الموجود بما هو موجود» وجميع مباحث الفلسفة تدور حول الوجود. ويعني قيد «بما هو موجود» دراسة الأحكام العامة للموجود، والبحث عن الحيثيات المشتركة، وليس الأحكام الخاصة بموجودٍ معين، والحيثيات المختصة له؛ أي البحث عن أحوال وعوارض الموجود العام غير المقيَّد بخصوصية يكون بها موجودًا خاصًّا.

وفيما يلي تلخيصٌ سريع لمسائل الفلسفة الإسلامية، التي تتمحور حول الوجود:

(١) مسائل ترتبط بالوجود، وبالأمرَين المقابلَين له، وهما الماهيَّة والعدم

فإنه وإن كانت الواقعية للوجود فحسب، وليس هناك شي‏ء في الواقع والعالَم الخارجي العيني سوى الوجود، غير أن الذهن البشري يصطنع مفهومَين آخرَين في مقابل الوجود؛ الأول: العدم، والآخر: الماهيَّة.

وهناك مسائلُ عديدةٌ في الفلسفة يكون محور البحث فيها «الوجود والماهيَّة»، مثل مسألة «أصالة الوجود واعتبارية الماهيَّة» فيما يكون محور البحث في مسائلَ أخرى «الوجود والعدم»، مثل مسألة امتناع إعادة المعدوم.

(٢) مسائل ترتبط بأقسام الوجود

تقع تحت الوجود عدة أقسام، تكون كالأنواع بالنسبة للوجود، ومن ذلك: تقسيم الوجود إلى عيني وذهني، وتقسيمه إلى واجب وممكن، وإلى حادث وقديم، وإلى ثابت ومتغير، وإلى واحد وكثير، وإلى ما بالقوة وما بالفعل، وهذه بمجموعها تقسيماتٌ أولية للوجود، تعرض على الوجود من حيثُ هو موجود، بينما هناك تقسيمات أخرى للوجود مثل انقسامه إلى أسود وأبيض، وإلى كبير وصغير، ومُساوٍ وغير مُساوٍ، وطويل وقصير … ونظير ذلك، فإنها ليست تقسيماتٍ للموجود بما هو موجود، وإنما هي انقساماتٌ للموجود بما هو موجودٌ مختص، فإن تقسيمه إلى كبير وصغير بما هو جسم، وتقسيمه إلى مساوٍ وغير مساوٍ بما هو كم … وإلخ.

(٣) مسائل ترتبط بالقوانين العامة الحاكمة على الوجود

وهي نظير: قانون العلِّية، السنخية بين العلة والمعلول، التقدُّم والتأخُّر والمعيَّة في مراتب الوجود.

(٤) مسائل ترتبط بإثبات مراتب وطبقات الوجود أو عوالم الوجود

يعتقد الحكماء المسلمون بتعدُّد طبقات الوجود؛ حيثُ أنهاها المشهور منهم إلى أربعة عوالم كلِّية أو أربع نَشْآت، وهي:

(أ) عالم الطبيعة أو الناسوت

وهو عالم المادة، والحركة، والزمان والمكان، وبكلمةٍ أخرى هو عالَم الطبيعة والمحسوسات أو عالَم الدنيا.

(ب) عالم المثال أو الملكوت

وهو أعلى مرتبة من عالم الطبيعة؛ لأنه عالمٌ مجرَّد من المادة، لا تطرأ عليه الحركة والتغيير والزمان، لكن فيه صور المادة وأبعادها.

(ﺟ) عالم العقول أو الجبروت

وهو عالَم المعنى، ويقع فوق عالَم الملكوت في رتبته، وهو مجرَّد من الصور والأشباح والمادة.

(د) عالم الإله أو اللاهوت

وهو عالم الإلهية والأحدية.٤
وذهب الحكماء إلى أن لكل شي‏ءٍ موجودٍ في العالم الطبيعي وجُوداتٍ أُخر في العوالم الثلاثة السابقة عليه، من عالَم المثال، وعالَم العقل، وعالَم الإله، يعني أن لكل شي‏ء طبيعي وجودًا مثاليًّا يُشاهَد بصورته المثالية، ووجودًا عقليًّا يُنال بحقيقته، ووجودًا إلهيًّا؛ إذ الإله هو بسيط الحقيقة، وهو كل الأشياء، وليس بشي‏ء منها.٥

(٥) مسائل ترتبط بالعلاقة بين عالم الطبيعة والعوالم الثلاثة الأخرى الأعلى منه

وهي المسائل التي ترتبط بالقوس النزولي من الباري تعالى إلى الطبيعة، والقوس الصعودي من الطبيعة إلى العوالم الأعلى. وهذا ما نراه بوضوح في بحث مسألة «المعاد» في مدرسة الحكمة المتعالية.٦
١  السبزواري، «شرح غرر الفوائد»، تحقيق: مهدي المحقق، ص٢٨.
٢  «الأسفار الأربعة»، ج١، ص٢٠.
٣  المصدر السابق، ص٢١.
٤  مطهري، مرتضى، «آشنائي با علوم إسلامي»، ج١، ص١٨٩–١٩١.
٥  جوادي آملي، «أسرار الصلاة»، ص٣.
٦  مطهري، المصدر السابق، ص١٩١-١٩٢.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥