الفصل الأول

منابع الحياة العقلية عند المسلمين

يفتِّش غير واحد من الباحثين الغربيين عن جذور المنحى العقلي في الإسلام في آثار أممٍ وحضاراتٍ أخرى؛ ولذا اهتمُّوا بالتنقيب عن النظائر والأمثال والإشارات فيما وصلَنا من كتابات مدرسة أثينا أو الإسكندرية، أو النصوص الهندية والفارسية القديمة، فيتأوَّلون قراءتها في إطار هذه الرؤية، كيما يُحيلون ما أنجزه العقل المسلم عبْر مئات السنين إلى أصول خارج فضاء الحضارة الإسلامية، ولا تبقى وظيفةٌ للعقل المسلم عندئذٍ سوى النقل والاقتباس.

فالفلسفة الإسلامية — كما يقولون — ظلت «على الدوام فلسفة انتخابية عمادها الاقتباس مما تُرجم من كتب الإغريق، ومجرى تاريخها أدنى أن يكون فهمًا وتشرُّبًا لمعارف السابقين، لا ابتكارًا، ولم تتميَّز تميُّزًا يُذكَر عن الفلسفة التي سبقَتْها، لا بافتتاح مشكلاتٍ جديدة، ولا هي استقلَّت بجديد فيما حاولَتْه من معالجة المسائل القديمة، فلا نجد لها في عالَم الفكر خطواتٍ جديدةً تستحق أن نسجِّلها لها … ونكاد لا نستطيع أن نقول إن هناك فلسفةً إسلامية بالمعنى الحقيقي لهذه العبارة، ولكن كان في الإسلام رجالٌ كثيرون لم يستطيعوا أن يردُّوا أنفسهم عن التفلسُف … ولندَع الآن ردَّ كل فكرة من أفكارهم إلى أصلها الذي انحدرَت منه تاركين هذا المبحث قائمًا بذاته.»١

لقد أضحت هذه الرؤية فيما بعدُ سلطةً مرجعيةً لم ينفكَّ من أَسْرها الكثير من الباحثين الغربيين في تاريخ الفلسفة الإسلامية، وحجبَتْهم عن التعرُّف على الروافد الأصيلة التي انبثق منها المعقول الإسلامي، فلم يسع هؤلاء لتدبُّر آيات القرآن الكريم، والتأمل في معاني الأحاديث الشريفة، والأدعية المأثورة عن الرسول «»، وأهل بيته (ع)، ليُبصِروا ما تكتنزه تلك الآثار المقدَّسة من مقولاتٍ وقواعدَ ومفاهيمَ فلسفيةٍ مهمَّة. وكأن رؤية هؤلاء الذين يَعْزون ولادة المنحى العقلي في التفكير الإسلامي إلى عواملَ خارجية فقط، بمثابة مَن يرى شخصًا واقفًا إلى جانب نهرٍ عظيم وبيده قدحُ ماء، ثم يسأله قائلًا: من أية بركةٍ ملأتَ هذا القدح؟! — حسب تعبير أحد الأدباء — من دون أن يريد رؤية الماء الغزير الذي يتدفَّق في النهر.

ومن المؤسف أن هذا الموقف تأكَّد بنحوٍ أشد لدى بعض الباحثين المهتمين بدراسة التراث الشيعي وتحليل مكوِّناته، فأثاروا جملة شبهاتٍ واستفهاماتٍ حول نشأة الكلام والفلسفة في مدرسة أهل البيت عليهم السلام، وأصرُّوا على نفي معظم محتواهما عن البيئة الإسلامية، وهو ما نراه بوضوحٍ في كتاباتِ غير واحدٍ من الباحثين القدماء والمُحدَثين. ولم يميِّز بعضهم بين نشأة المنحى العقلي في التفكير الإسلامي وتطوره لاحقًا؛ فمما لا شك فيه أن تطوُّره تأثَّر تأثرًا واضحًا باستلهام الموروث المعرفي لحضاراتٍ أخرى، وعلى هذا نستطيع القول: إن المنحى العقلي إسلاميُّ الولادة، بَيْد أنه استلهم في تطوُّره واتساعه عناصرَ من خارج الحضارة الإسلامية.٢

وفيما يلي إشاراتٌ موجَزة لمنابع الحياة العقلية عند المسلمين، وهي:

(١) القرآن الكريم

احتل الحثُّ على استخدام العقل، والدعوة إلى التفكُّر، والتدبُّر، والنظر، مساحةً واسعة في القرآن الكريم؛ فقد جاءت مشتقَّات العقل في تسعٍ وأربعين آيةً كلها بالصيغة الفعلية، مثل يعقلون، وتعقلون، ونعقل، وعقلوه، ويعقلها، بينما لم ترِد كلمة العقل بالصيغة الاسمية في القرآن، وإن وردَت مرادفاتها بهذه الصيغة، مثل: اللبِّ، والحلم، والحِجْر، والنُّهى، والقلب، والفؤاد، التي جاءت بمعنى العقل.٣
واشتمل القرآن على أكثر من ثلاثمائة آية تتضمَّن دعوة الناس إلى التفكُّر أو التذكُّر أو التعقُّل، أو تُلقِّن النبي (ص) الحُجَّة لإثبات حقٍّ أو لإبطال باطل، أو تحكي الحُجَّة عن أنبيائه وأوليائه. ولم يأمر الله تعالى عباده في كتابه ولا في آيةٍ واحدة أن يؤمنوا به أو بشي‏ءٍ مما هو عنده أو يسلكوا سبيلًا على العمياء وهم لا يشعرون، حتى إنه علَّل الشرائع والأحكام التي جعلَها لهم.٤

ويمكن القول إن تلبُّس العقل في تمام الموارد التي جاء فيها في القرآن بالصيغة الفعلية يُوحي بتوجيه العقل نحو النهوض بوظيفته التي خُلق لأجلها، وهي العمل باستمرار على التفكُّر، والتدبُّر، والتبصُّر، والنظر، والتذكُّر، والتفقُّه، وهذه كلها أفعال تتطلب فعاليةً دءوبةً متوثِّبة للعقل بنحوٍ متواصل.

القرآن محور المعارف الإسلامية

منذ بداية الدعوة الإسلامية بادَر المسلمون لتدبُّر القرآن واستظهار آياته، فكان القرآن هو المَعين الأول الذي نهلَت منه الحياة العلمية في الإسلام، وتفرَّعَت عن تأويل مداليله شتَّى الاتجاهات الفكرية في الإسلام، واصطبغَت العلوم الإسلامية في نشأتها بنمطِ تفسيرِ آياته، حتى إن «الحياة الإسلامية كلها ليست سوى التفسير القرآني؛ فمن النظر في قوانين القرآن العملية نشأ الفقه، ومن النظر فيه ككتاب يضع الميتافيزيقيا نشأ الكلام، ومن النظر فيه ككتابٍ أخروي نشأ الزهد والتصوف والأخلاق، ومن النظر فيه ككتاب للحكم نشأ علم السياسة، ومن النظر فيه كلغةٍ إلهية نشأَت علوم اللغة … إلخ. وتطوُّر العلوم الإسلامية جميعها إنما ينبغي أن يُبحث في هذا النطاق؛ في النطاق القرآني نشأَت، وفيه نضجَت وترعرعَت، وفيه تطوَّرَت، وواجهَت علومَ الأمم الأخرى تؤيِّدها أو تُنكِرها في ضوئه.»٥

وبما أن القرآن «حمَّال أوجه» فقد كان يُعطي لكلٍّ «الوجه الذي يريد» في ضوء ما تقود إليه مواقفه القبلية؛ ولذلك تشعَّبَت الاتجاهات والمذاهب تبعًا لتنوُّع التأويلات المتباينة للنص القرآني. إلا أن ما نرمي إليه هو التدليل على أن مناحي الفكر الإسلامي بأَسْرها انطلقَت من القرآن وإن لم تبقَ في مسارها التكاملي في مداراته.

القرآن كتابٌ استدلالي

اهتم القرآن اهتمامًا بالغًا بالتأكيد على النظر العقلي، والحث على تحصيل العلم والمعرفة كثمرة للنظر العقلي، وتجلَّى هذا الحث بوضوح في تكرار مادة العلم ومشتقاته في القرآن أكثر من تسعمائة مرة، بدأَت بأول كلمةٍ نزلَت في القرآن «اقرأ …».٦ وتوالت منبثَّة في آياتٍ كثيرة غيرها.
وجاء في مواردَ متعدِّدة من القرآن ذمُّ التقليد الأعمى،٧ باعتبار أن مثل هذا التقليد يعطِّل العقل ويُلغي وظيفته، كذلك حذَّر القرآن من الاعتماد على الظن،٨ وأوضح بأن «الظن لا يغني من الحق شيئًا»،٩ وأن المعرفة لا بد أن تقوم على يقين، كما أن القرآن نبَّه إلى أخطر آفات العقل وهو اتباع الهوى، فوَرَد في عدة آياتٍ أن الهوى يقود إلى الضلال والتيه،١٠ ويحجُب القلب عن رؤية الحق، ويحول بين العقل وبلوغ الحقيقة.

وعمد القرآن إلى استخدام الاستدلال على ما جاء فيه من عقائد وأحكام، ولم يطلب من الناس التصديق بمضمونه من دون برهان، وابتعدَت أساليب الاستدلال فيه عن المفاهيم العقلية التجريدية، وتمحورَت حول ما هو محسوس ومُشاهَد في هذا الكون الفسيح، وجرَت الأدلة في سياق الأمثال والقصص، فاكتست ببيانٍ يُوقِن به الوجدان والفطرة السليمة بأدنى تأمُّل، ويُبعِدها عن أساليب الاستدلال الملتوية.

فقد حكت الأمثال القرآنية الواقع المحسوس، وتحدَّثَت القصص عن وقائعَ وأحداثٍ تاريخية عاصرتها الأجيال السابقة على الأرض، وأشارت الكثير من الآيات إلى الأرض وما عليها من مخلوقات، والكون وما يزخر به من أجرام، تضبطها مجموعة قوانينَ صارمة لا تتخلف ولا تختلف، وهي بمجموعها يُعايِنها الإنسان، ولا يحتاج إلى تفكيرٍ معمَّق للتصديق بها. لكن أسلوب القرآن الاستدلالي لم يقتصر في خطابه على طائفة دون غيرها؛ فليس هو خطابًا لعامة الناس فحسب أو للخاصة، وإنما هو للناس كافة؛ فإن «القارئ لآيات القرآن من دَهْماء الناس يرى فيه علمًا بما لم يكن يعلم، قد أدركه بأسهل بيان وأبلغه، ويرى فيها العالِم الفيلسوف الباحث في نشأة الكون دقةَ العلم وأحكامه وموافقةَ ما وصل إليه العقل البشري لما جاء بذلك النص الكريم، مع سُمو البيان وعُلو الدليل، فتبارك الذي أنزل القرآن.»١١

(٢) السنة الشريفة

تشتمل الأحاديث الشريفة، ونهج البلاغة، والمأثورات الأخرى عن الرسول وأهل بيته على طائفةٍ من النصوص التي تتحدَّث بوضوحٍ عن مباحث الفلسفة الإلهية، ويمكن القول إن كتاب «نهج البلاغة» الذي يضُم بين دفتَيه مجموعةً من خطب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) وتعاليمه وكتبه ووصاياه، هو أول كتاب — بعد القرآن الكريم — استقى منه المسلمون الأوائل مسائلَ ومقولاتِ الإلهيات الأساسية؛ فقد كان أمير المؤمنين (ع) أول من تناول مسائل التوحيد، وما يرتبط بها من صفات الباري تعالى، والحدوث والقدم، والوحدة والكثرة، والبساطة والتركيب، وغير ذلك من قضايا الفلسفة الإلهية ببيانٍ دقيق وبراهينَ واضحة، بل هو — كما يقول الطباطبائي: «أول من برهن واستدل في الفلسفة الإلهية في هذه الأمة، فله الفضل والمنة على كل من سواه من العلماء والباحثين في هذا العلم؛ فإنه هو الذي فتح لهم باب الاستدلال البرهاني في المعارف الإلهية … وإنه قد أتى بمسائل في الفلسفة الإلهية، لم يسبقه إلى التنبه إليها أحد، كما أنه فيما أقامه عليها من البراهين، ووضعه لها من الحلول كان رائدًا متفردًا، لم يسبقه لها الأولون، ولم يتنبه لها الآخرون إلَّا بعد قرون وقرون، وقد بقيَت روائعُ أنظاره العالية رهنَ الإبهام قرونًا متتالية بعد زمانه، حتى وفِّق لكشفها والوقوف عليها ثلَّة من جهابذة العلم وأفذاذ المفكِّرين … وإنه عليه السلام أول من استخدم الألفاظ العربية لبيان المقاصد الفلسفية، التي لا تفي بها الألفاظ — في اللغة العربية — بمعانيها الشائعة واستعمالاتها المتعارفة إلَّا بعد تجرُّدها على نحوٍ ما عن غواشي المادة وشوائب الخصوصيات.»١٢
فحين نُراجِع ما ورد في نهج البلاغة، ونُحاوِل قراءة محتوياته قراءةً فلسفية، سنلتقي بمضامينَ تُفصِح لنا عن أنه المنهل الأساسي الذي ارتشف من مَعينه المتكلمون والفلاسفة والعُرفاء المسلمون مقولاتهم في فترةٍ مبكِّرة، وامتد تأثيرُ ما ورد عن أمير المؤمنين عدةَ قرونٍ في التفكير الفلسفي عند المسلمين؛ فمثلًا نجد «بعض المسائل الفلسفية الأساس التي تطرحها خطب الإمام علي (ع) تأخذ كل مداها عند الملا صدرا ومدرسته.»١٣

التوحيد في نهج البلاغة

في الخطبة الأولى من نهج البلاغة — طبقًا للترتيب الذي صنَّفه جامع الكتاب الشريف الرضي — نلتقي بنصٍّ توحيدي يكتنز بالمرتكزات الأساسية لعقيدة التوحيد، فيبدأ ببيان مراحل معرفة الله التي تبدأ من أدنى المراتب وتأخذ بالسير صعودًا إلى أعمقِ هذه المراتب وأدقِّها بحسب طاقة الإنسان العقلية، متدرجة على وَفْق درجات الإيمان؛ حيثُ يقول عليه السلام: «أول الدين معرفتُه، وكمال معرفته التصديق به، وكمال التصديق به توحيده، وكمال توحيده الإخلاص له، وكمال الإخلاص له نفي الصفات عنه، لشهادة كل موصوف أنه غير الصفة؛ فمن وصف الله فقد قرنه، ومن قرنه فقد ثنَّاه، ومن ثنَّاه فقد جزَّأه، ومن جزَّأه فقد جهله، ومن جهله فقد أشار إليه، ومن أشار إليه فقد حدَّه، ومن حده فقد عدَّه، ومن قال: «فِيمَ؟» فقد ضمنه، ومن قال: «علَامَ؟» فقد أخلى منه. كائن لا عن حدث، موجود لا عن عدم، مع كل شي‏ء لا بمقارنة، وغير كل شي‏ء لا بمزايلة، فاعل لا بمعنى الحركات والآلة، بصير إذ لا منظور إليه من خلقه، متوحِّد إذ لا سكن يستأنس به ولا يستوحش لفقده.»١٤

يحدِّد هذا النص خمس مراتب لمعرفة الله، وهي بإيجاز كما يلي:

المرتبة الأولى

«أول الدين معرفتُه»: فمعرفة الله، والإقرار بألوهيته، هي: الاعتقاد النظري بأن للعالم إلهًا، وهو ما يشترك فيه المشرك والموحِّد، كالوثنيين والثنويين وأهل الكتاب والمسلمين، وكل من اعترف بالإله، وأذعَن بوجوده، وخضَع له، واقتصَر على مجرَّد العلم النظري.

المرتبة الثانية

«وكمالُ معرفته التصديقُ به»: هذا التصديق هو الذي يوجب خضوع الإنسان له في عبوديته، وبهذا التصديق يرسخ الاعتقاد؛ لذلك كان هذا التصديق كمال المعرفة.

المرتبة الثالثة

«وكمالُ التصديق به توحيدُه»: توحيدُه هو إثبات أنه تعالى واحدٌ لا شريك له، وبذلك يمتاز دين التوحيد عن أديان الشرك التي تُثبِت مع الله آلهةً أخرى، والتوحيد هو كمالُ التصديق به.

المرتبة الرابعة

«وكمالُ توحيده الإخلاصُ له»: الإخلاص له يكون بالإعراض عمَّا سواه علمًا وعملًا، وقصر الوجود الحق وحصره فيه تعالى، وأن ما يَدْعون من دونه هو الباطل، وإذا كان كذلك انتفَى عنه تعالى كل واقع، أو متوهَّم، أو مفروض، فيكون واحدًا بكل ما لهذه الكلمة من معنًى.

المرتبة الخامسة

«وكمالُ الإخلاص له نفيُ الصفات عنه …»: فإنه تعالى إذا كان حقًّا على الإطلاق ووجوده غير محدود، فلا يمكن للمفاهيم الذهنية أن تُحيط به، ولا أن تنطبق عليه تعالى حق الانطباق؛ لأن المفاهيم محدودةٌ في أنفسها. وإذا كان الإله سبحانه — على كل تقدير — غير محدود بحدٍّ موجود، وهو حقٌّ على الإطلاق، فإن المفاهيم الذهنية، التي يصف العقل بها كل شي‏ء أراد أن يَعرِفَه أو يُعَرِّفَه، لا تستطيع أن تتناولَه فتحيطَ به وتنطبقَ عليه. وهكذا نرى أن التعمُّق في معنى الإخلاص قد أدى إلى نفي الصفات عنه تعالى، فيصح أن يُقال: إن نفي الصفات عنه تعالى هو كمال الإخلاص له.١٥

الفلسفة في آثار أهل البيت

لم تقتصر المسائل المرتبطة بالتوحيد والقضايا الأخرى في الفلسفة الإلهية على ما جاء في نهج البلاغة، وإنما احتلَّت مساحةً واسعة من النصوص الأخرى المأثورة عن الأئمة (ع) ففي «الأصول من الكافي»١٦ نجد الكليني يُفرِد قسمًا خاصًّا لأحاديث أهل البيت (ع) الواردة في موضوع التوحيد، يذكُر فيه المروي عنهم في مجموعة مسائل منها: «حدوث العالم وإثبات المحدث، وإطلاق القول بأنه شي‏ء، وأنه لا يُعرف إلَّا به، وإبطال رؤيته تعالى، والنهي عن الكلام في الكيفية، والنهي عن الوصف بغير ما وصف به نفسه، والنهي عن الجسم والصورة، وصفات الذات، والإرادة وكونها من صفات الفعل وسائر صفات الفعل، وحدوث الأسماء، وتأويل الصمد، والعرش والكرسي، وجوامع التوحيد، والجبْر والقدَر، والأمر بين الأمرَين، والهداية … وغير ذلك.»
أما الصَّدوق فقد ألَّف كتابًا مستقلًّا بعنوان «التوحيد» ضمَّنه «٥٨٣» حديثًا مما ورد عن أهل البيت (ع) في مسائل التوحيد. وتُعنى بإيضاح قضايا أساسية في الفلسفة الإلهية، ولا سيما ما جاء منها بصيغة حُججٍ برهانية في نقض مزاعم الزنادقة؛ فمثلًا جاء في ثنايا البراهين التي ساقها الإمام جعفر الصادق (ع) في الرد على الزنديق قوله (ع) في سياق الجواب: «… إذ لم يكن بين الإثبات والنفي منزلة»،١٧ وهي إشارةٌ صريحة إلى الحقيقة الفلسفية المعروفة في نفي الواسطة بين الوجود والعدم، التي اشتبه فيها الأمرُ فيما بعدُ على بعض متكلِّمي المعتزلة، فذهبوا إلى القول بأن هناك واسطةً بينهما.
ومن هذا القبيل قول الإمام الرضا (ع) في بيان أصل مبدأ العلِّية، وأن كل موجود إن لم يكن وجوده عين ذاته، كان قائمًا بغيره ومتحققًا فيه ومعتمدًا عليه؛ أي معلولًا له؛ لأن «… كل قائم في سواه معلول»،١٨ وهذا ما ينعكس بعكس النقيض إلى ما لا يكون معلولًا؛ فهو ليس قائمًا في سواه، وإنما هو قائمٌ بذاته مستغنٍ عن غيره، لا يحتاج إلى موجودٍ آخر.١٩
ومن ذلك قوله (ع) في بيان عدم إمكان اكتناه ومعرفة ذاته تعالى، ونفي الماهية عنه، إن «كلَّ معروفٍ بنفسه مصنوع»،٢٠ بمعنى أن كل موجودٍ مخلوق، فإن له ماهيةً معيَّنة يُعرف بها، أما ما لا يكون مصنوعًا ومخلوقًا، وإنما هو خالق جميع الأشياء، فإنه لا يكون معروفًا بذاته وماهيته؛ لأنه لا ماهية له وراء وجوده، فهو وجودٌ محض، وماهيته إنيَّته أي وجوده؛ ولذا لا يدركه العقل بالكُنه لعدم وجود صورةٍ له تحكيه، ولا مثال له يحاذيه؛ لأنه ليس كمثله شي‏ء.٢١
وفي حوار الإمام الرضا (ع) مع رجل من الزنادقة «قال له الرجل: رحمك الله، فأوجدني كيف هو، وأين هو؟ فأجاب الإمام قائلًا: ويلك، إن الذي ذهبتَ إليه غلط، هو أيَّنَ الأين، وكان ولا أين، وهو كيَّف الكيف، وكان ولا كيف، ولا يُعرف بكيفوفيَّة، ولا بأينونيَّة، ولا يُدرك بحاسةٍ، ولا يُقاس بشي‏ء، فقال الرجل: فإذن إنه لا شي‏ء؛ إذ لم يُدرك بحاسة من الحواس؟ فقال أبو الحسن (ع): ويلك، لما عجزَت حواسُّك عن إدراكه أنكرتَ ربوبيته، ونحن إذا عجزَت حواسُّنا عن إدراكه أيقنَّا أنه ربُّنا خلاف الأشياء. فقال الرجل: فأخبرني متى كان؟ فقال أبو الحسن (ع): أخبرني متى لم يكن، فأخبرك متى كان.»٢٢
إن هذه الإجابات تؤسِّس لبعض المرتكزات المعروفة في مباحث الإلهيات عند الفلاسفة الإسلاميين، فإنه «لا بد أن يكون للحادث مبدأ أزلي قديم مصون عن الحس؛ إذ لو كان محسوسًا لما كان وجوده عين ذاته، لاحتياجه إلى أين، ومتى، وكم، وكيف، وغير ذلك، حتى يناله الحس، وكل ما كان محتاجًا فليس بمبدأ أزلي.»٢٣
تأسيسًا على ما سبق يمكن القول بأن «نقطة الانطلاق في التأمل الفلسفي عند الشيعة، تبدأ من القرآن وسنن الأئمة؛ فعلى كل محاولة تنزع إلى عرض الفلسفة النبوية التي نشأَت عن هذا التأمل، أن تنطلق من نفس المنهل الذي نهلَت منه هذه الفلسفة.»٢٤
وبذلك يتضح أن من الخطأ تفسير بزوغ المنحى العقلي في التفكير الإسلامي بعوامل أجنبية، فيما نتجاهل أثر القرآن الكريم والسنة الشريفة، وما أسهما فيه من إيقاظ العقل المسلم وتوجيهه نحو آفاقٍ قصية.٢٥
١  ت. ج. دي بور. «تاريخ الفلسفة في الإسلام»، ترجمة: د. محمد عبد الهادي أبو ريده، القاهرة، مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر، ١٩٥٧م، ص٥٠-٥١.
٢  الرفاعي، عبد الجبار، «منطلق الحياة العقلية عند المسلمين»، مجلة التوحيد، ع٨٢ (محرم ١٤١٧ﻫ)، ص٢٢-٢٣.
٣  إسماعيل، فاطمة، «القرآن والنظر العقلي»، فرجينيا، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، ١٤١٣ﻫ، ص٦٤.
٤  الطباطبائي، محمد حسين، «الميزان في تفسير القرآن»، بيروت، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، ١٤١١ﻫ، ج٥، ص٢٦٠.
٥  النشار، د. علي سامي، «نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام»، القاهرة، دار المعارف، ط٨، ج١، ص٢٢٧.
٦  العلق: ١.
٧  البقرة: ١٧٠، المائدة: ١٠٤.
٨  النجم: ٢٧–٢٨، الأنعام: ١١٦، ١٤٨، النساء: ١٥٧، الحجرات: ١٢.
٩  النجم: ٢٨.
١٠  ص: ٢٦، الروم: ٢٩، الأنعام: ١١٩، القصص: ٥٠، المائدة: ٤٨.
١١  ابو زهرة، محمد، «المعجزة الكبرى القرآن»، القاهرة، دار الفكر العربي، ص٣٧١.
١٢  الطباطبائي، محمد حسين، «علي والفلسفة الإلهية»، ص٧٨-٧٩.
١٣  كوربان، هنري، «تاريخ الفلسفة الإسلامية»، ترجمة: نصير مروة، وحسن قبيسي، راجعه: موسى الصدر، وعارف تامر، بيروت – باريس، منشورات عويدات، ط٣، ١٩٨٣م، ص٨١.
١٤  الإمام علي بن أبي طالب (ع)، «نهج البلاغة»، جمعه: الشريف الرضي، ضبط نصه: د. صبحي الصالح، بيروت، دار الكتاب اللبناني، ١٩٨٢م، ص٣٩-٤٠.
١٥  الطباطبائي، محمد حسين، «علي والفلسفة الإلهية»، ص٤٤–٤٩.
١٦  كتاب «الكافي» للشيخ الكلِّيني من أهم الجوامع الحديثية في مدرسة أهل البيت (ع)، بلغ عدد الأحاديث المروية فيه ١٦١٩٩ حديثًا؛ أي ما يزيد على ما في الصحاح الستة متونًا وأسانيد. وهو مطبوع عدة مرات.
١٧  الصدوق، محمد بن علي بن بابويه القمي، «التوحيد»، تصحيح: هاشم الحسيني الطهراني، قم، جماعة المدرسين في الحوزة العلمية، ص٢٤٦.
١٨  المصدر السابق، ص٣٥.
١٩  جوادي آملي، عبد الله، «علي بن موسى الرضا والفلسفة الإلهية»، قم، دار الإسراء للنشر، ١٤١٥ﻫ، ص١٨.
٢٠  الصدوق، «التوحيد»، ص٣٥.
٢١  جوادي آملي، مصدر سابق، ص١٧-١٨.
٢٢  الصدوق، مصدر سابق، ص٢٥١.
٢٣  جوادي آملي، مصدر سابق، ص٣٠–٣١.
٢٤  كوربان، هنري، «تاريخ الفلسفة الإسلامية»، ص٨٢.
٢٥  الرفاعي، عبد الجبار، «منطلق الحياة العقلية عند المسلمين»، التوحيد، ع٨٢ (محرم ١٤١٧ﻫ) ص٢٢–٣٣.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥