الفصل الأول

محطات حياة الطباطبائي

وُلد الطباطبائي في أُسرة علمية مشهورة في تبريز سنة ١٣٢١ﻫ، واكتوى بمرارة اليُتم باكرًا، ففقد أمه وهو في الخامسة من عمره، وبعدها بأربع سنوات فقد أباه، وبقي هو وأخوه محمد حسن القاضي الطباطبائي تحت كفالة وصيِّ أبيه الذي كان يرعاهما برفق، وامتدت حياته إلى سنة ١٤٠٢ﻫ، تنقل خلالها في مراحلَ أربع، نوجزها كما يلي:

الأولى: مرحلة التكوين

تبدأ هذه المرحلة بولادته، وتنتهي بهجرته من تبريز إلى النجف الأشرف سنة ١٣٤٤ﻫ، وقد اتسمَت هذه المرحلة من حياته بمعاناة وألمِ اليتم، حتى إنه عندما انخرط في دراسة علم الصرف والنحو لم يجد في نفسه رغبةً في مواصلة التحصيل والدراسة، وأمضى أربع سنواتٍ من عمره يقرأ من دون أن يفهم ماذا قرأ، أما بعد ذلك فيقول: «ولكني انقلبتُ فجأة بعد أن شملَتني العناية الإلهية؛ بحيث وجدتُ نفسي فاهمًا مجدًّا مدفوعًا بنبضٍ داخليٍّ خاص إلى تحصيل الكمال؛ فمنذ ذلك الوقت إلى أخريات أيام دراستي، التي استمرت زُهاء سبعَ عشرةَ سنة، ما كسلتُ وما توانيتُ في طلب العلم، حتى نسيتُ حوادث الدهر وملذَّات الحياة وتعاستها، وانقطَعتُ عن كل أحد وكل شي‏ء باستثناء أهل العلم، مقتصرًا في حياتي على الحد الأدنى، مقتنعًا بالضروريات من لوازم الحياة، صارفًا ما تبقَّى من الوقت في المطالعة، ووقفتُ نفسي للدرس والتعليم وبث معارف الإسلام وتربية الطلاب. وطالما قضيتُ الليل في القراءة حتى شروق الشمس خصوصًا في فصلَي الربيع والصيف. وحين كان يعترضني إشكالٌ علمي كنتُ أجهد لمعالجته وحلِّه بكل الوسائل والسبل. وكم معضلةٍ حُلَّت لي خلال مطالعاتي! وكنتُ أقرأ درس الغد قبل مجي‏ء يومه فلا تبقى لي مشكلة عندما أواجِه الأستاذ.»١

الثانية: مرحلة النضوج الفلسفي والعلمي

تبدأ هذه المرحلة بهجرته من تبريز إلى النجف الأشرف سنة ١٣٤٤ﻫ، وتنتهي بعودته من النجف إلى تبريز سنة ١٣٥٤ﻫ، وتُعتبر هذه المرحلة أخصبَ مرحلةٍ تكامل فيها البعد الفلسفي والعرفاني والعلمي في شخصية الطباطبائي، بعد أن احتضنَته في الحوزة العلمية في النجف مجموعةٌ من الأساتذة الكبار، والذين نبغ كل واحدٍ منهم في حقلٍ أو أكثر من حقول التراث الإسلامي الغنية، فكان الحكيم حسين البادكوبي (١٢٩٣–١٣٥٨ﻫ) أستاذه في الفلسفة، تتلمذ على يدَيه ست سنوات، درس فيها «منظومة السبزواري» و«الأسفار الأربعة» و«المشاعر» لملا صدرا، و«الشفاء» لابن سينا، وكتاب «أثولوجيا» لأرسطو، و«التمهيد» لابن تركة، و«الأخلاق» لابن مسكويه.

وكان لأستاذه البادكوبي أثرٌ عميق في تنمية المنحى العقلي في شخصيته، وترسيخ النزعة البرهانية في تفكيره؛ ولذلك وجَّهه إلى دراسة الرياضيات ولم يقتصر على تدريسه الفلسفة فحسب، فاختار له أحد العلماء البارعين في العلوم الرياضية يومئذٍ في النجف وهو السيد أبو القاسم الخونساري وأمره أن يحضُر دروسه، فقرأ عليه دورةً كاملة في الرياضيات «الحساب الاستدلالي، والجبر الاستدلالي، والهندسة المسطَّحة والفضائية».

وساقه التوفيق لأن يحظى برعايةٍ خاصة من فيلسوفٍ وأصوليٍّ آخر وهو محمد حسين الأصفهاني (١٢٩٦–١٣٦١ﻫ) الذي ظل ملازمًا له مدةً تُناهز العشر سنوات، أكمل في ست سنواتٍ منها دورةً كاملة في أصول الفقه، فيما مكث في درسه الفقهي أربع سنوات، وكان الطباطبائي يصف مقدار استفادته من دروس أستاذه الأصفهاني قائلًا: «في المدة التي حضرتُ فيها دروسه استغنيتُ عن غيره.»

كذلك أفاد من أصوليٍّ بارعٍ آخر وهو محمد حسين النائيني، الذي لازمه لثماني سنواتٍ أنهى خلالها دورةً كاملة في أصول الفقه مضافًا إلى حضوره دروسَه الفقهية.

وانفتح على غير هؤلاء الأساتذة أيضًا، فحضر فترةً محدودةً الدروسَ الفقهية لأبي الحسن الأصفهاني، كما وفِّق لتعلم «كلِّيات علم الرجال» عند الحجة الكوهكمري.٢
وكان للطباطبائي لقاء مع أستاذٍ آخر استلهَم من أخلاقه وتعاليمه وارتياضه أعمقَ تجربةٍ روحية في السَّير والسلوك، مضافًا إلى استلهام أسلوب تفسير القرآن بالقرآن وفقه الحديث من منهجه، وهذا الأستاذ هو الميرزا علي القاضي الطباطبائي (١٢٨٥–١٣٦٦ﻫ)، المعروف بأنه «فريد عصره في تهذيب النفس، والأخلاق، والسَّير والسلوك، وكافة المعارف الإلهية، والواردات القلبية، والمكاشفات الغيبية السبحانية والمشاهدات العينية»،٣ وهو تلميذ أحمد الكربلائي الطهراني، والأخير تلميذ المولى حسين قلي الهمداني، رائد المدرسة السلوكية الحديثة في الحوزة العلمية في‏ النجف.
تعهَّد علي القاضي تعليم وتربية نخبة من التلامذة في النجف، من أبرزهم السيد محمد حسين الطباطبائي وأخوه محمد حسن إلهي القاضي الطباطبائي، وقد استأثر به هذان الأخوان واستلهَما منه منهج السَّير والسلوك، كذلك تعلَّم محمد حسين الطباطبائي من أستاذه القاضي منهجًا جديدًا في التفسير وظَّفه فيما بعدُ في تفسيره الميزان، كما ينص على ذلك بقوله: «علَّمني المرحوم القاضي أسلوب تفسير الآية بالآية، وأنا في التفسير أَقتفي أثره وأَتبع طريقته، وقد كان ذا ذهنٍ واسع وواضح في فهم معاني الروايات الواردة عن الأئمة المعصومين، كذلك تعلَّمتُ منه طريقة فهم الأحاديث؛ أي فقه الحديث.»٤

الثالثة: مرحلة العمل بالفلاحة

تبدأ هذه المرحلة من حياة الطباطبائي لمَّا اضطُر للعودة إلى موطنه تبريز من النجف، إثْر تدهور أحواله الاقتصادية سنة ١٣٥٤ﻫ، وانصرافه للعمل فلاحًا في زراعة الأرض، ومكث في مزاولة هذه المهنة إلى سنة ١٣٦٥ﻫ؛ أي ما يزيد على عشرة أعوام، ودراسة هذه الحقبة من حياة هذا الفيلسوف تُضي‏ء لنا بُعدًا آخر في شخصية الطباطبائي، من النادر أن نعثُر عليه في حياة فيلسوفٍ آخر في الشرق أو الغرب؛ إذ ربما نعثر على بعض الفلاسفة الذين اختاروا طريق العزلة وانفردوا في صومعة، بعيدًا عن صخب الحياة، وألِفوا التقشُّف والفاقة مثلما يفعله بعض الصوفية في خانقاهاتهم والرهبان في أديرتهم، لكن لم نلتقِ بفيلسوفٍ عارفٍ فقيهٍ أصولي كالطباطبائي ينخرط في مهنةٍ شاقة كالفلاحة، وينصرف عن مطالعاته ودروسه ويعيش مع الأرض، بعيدًا عن حاضرته العلمية.

إن علينا أن نقف وقفةً متأنية كيما نتعلم أشياء كثيرة من هذا الموقف المدهش، الذي يستعيد تجربة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، عليه السلام، يوم كان يُدير جهاز الخلافة في الكوفة بيد فيما لا تغيب يدُه الأخرى عن الفلاحة والتعاون مع صاحبه ميثم في حانوته لبيع التمر.

إن تجربة الطباطبائي وإن كانت خسارةً فادحةً بالمعايير العلمية كما يحكي لنا هو ذلك: «ففي الحقيقة كانت تلك الأيام أيامًا تعيسة في حياتي؛ لأني بسبب الحاجة الماسَّة للإعاشة ولتدبير شئون الحياة انشغلتُ عن التفكُّر والدراسة والتدريس إلا من النَّزر اليسير، واشتغلتُ بالفلاحة لتأمين معاشي.»٥ بَيْد أن هذه التجربة تُفصِح لنا عن أن الطباطبائي وصل من حيثُ الكمالات الروحية إلى مقاماتٍ سامية، حتى استطاع أن يشاهد صور عالَم الغيب، الذي لا يمكن للأفراد العاديين مشاهدتها،٦ حسب تعبير تلميذه المطهري، وهي تجربةٌ لا أحسبها تتكرَّر في عصرنا الذي أضحى فيه الكثير من المثقَّفين وطلاب العلوم الإسلامية والمتعالمين غرباء عن مثل هذه التجارب الروحية العميقة.٧

الرابعة: مرحلة تأسيس مدرسة قم القرآنية والفلسفية والسلوكية

تبدأ هذه المرحلة بهبوط الطباطبائي في الحوزة العلمية في قم سنة ١٣٦٥ﻫ، وتتواصل إلى وفاته في ١٨ محرم الحرام ١٤٠٢ﻫ، وهي مرحلةٌ زاخرة بالعطاء والإنتاج الغزير في عدة حقول، توزَّعَت على التدريس والتربية والتأليف؛ ففي حقل التدريس وجد الحوزة العلمية في قم تُعاني من فراغٍ في دراسة التفسير وعلوم القرآن، فباشر تدريس تفسير القرآن، وافتتح بعمله هذا بابًا واسعًا للدراسات القرآنية والتفسير في الحوزة العلمية، وأحيا حضور القرآن في حلقات الدرس الحوزوي بعد أن ظل مهجورًا مدةً ليست قصيرة.

كذلك لاحظ فراغًا آخر في هذه الحاضرة العلمية يتمثَّل في نُدرة الدراسات الفلسفية والعقائدية، بينما تتعاظم يومًا بعد آخر الدعوة للفلسفة المادية في مختلف أقاليم العالم الإسلامي، حتى بلغت إشعاعاتُها الحوزات العلمية، فشرع في تدريس الفلسفة وتوافَد عددٌ لا يُستهان به من التلامذة النابهين إلى حلقات دروسه، ثم أسَّس بعد فترةٍ ما سنصطلح عليه ﺑ «حلقة قم الفلسفية».

وبموازاة ذلك عُنِي الطباطبائي عنايةً فائقة بتربية تلامذته وتزكيتهم، عبْر تجربته الخاصة في الارتياض، وما استقاه من قواعد السَّير والسلوك من أستاذه علي القاضي في النجف الأشرف، فكان يواظب على تدريس خاصة تلامذته «رسالة السَّير والسلوك»، المنسوبة لبحر العلوم، حتى إذا ما فرغ منها عاد ليستأنف تدريسها من جديد، وقد حرَص تلميذه محمد حسين الطهراني على تقرير هذه الدروس في عامَي ١٣٦٨-١٣٦٩ﻫ، لما تشرَّف بحضورها، ثم نشرها فيما بعدُ تحت عنوان «رسالة لُب اللُّباب في سير وسلوك أولي الألباب».٨

وحاول الطباطبائي أن ينخرط في تدريس بحثٍ خارج الفقه والأصول في الفترة الأولى من قدومه إلى قم، فشرع بتدريس كتاب «الصوم» في الفقه، مضافًا إلى تدريس أصول الفقه أيضًا، ودوَّن نظرياته وآراءه النقدية الجديدة في «تعليقته على كفاية الأصول» التي نقَض فيها المرتكزات العقلية للفكر الأصولي، في ضوء ما اكتشَفه من اختلاف الإدراكات الحقيقية والاعتبارية. إلا أن تدريسه للفقه والأصول لم يدُم طويلًا بسبب وفرة الأساتذة في هذَين العلمَين، ونُدرة الأساتذة في علوم التفسير والحكمة والعقيدة، فكثَّف جهوده العلمية في هذه العلوم خاصة، وأنجز في كل واحدةٍ منها إبداعاتٍ‏ باهرة.

أما في حقل التأليف فقد انصبَّت جهوده على تدوين تفسيره الشهير «الميزان في تفسير القرآن» والذي تواصَل عمله فيه عشرين عامًا انتهت في «ليلة القدر المباركة، الثالثة والعشرين من ليالي شهر رمضان، من شهور سنة اثنتَين وتسعين وثلاثمائة بعد الألف من الهجرة»، طبقًا لما جاء في خاتمة هذا التفسير.٩

مضافًا إلى ما اضطلع به من أعمالٍ أخرى، كان أبرزها كتاب «أصول الفلسفة والمذهب الواقعي» والذي صدر مذيلًا بهوامشَ وتعليقاتٍ توضيحية لتلميذه مرتضى المطهري بخمسة أجزاء.

١  الأمين، محسن، «أعيان» الشيعة، حققه وأخرجه، حسن الأمين، بيروت، دار التعارف للمطبوعات، ١٤٠٦ﻫ –١٩٨٦م، المجلد التاسع، ص٢٥٥.
٢  المصدر السابق؛ «يادنامه مفسِّر كبير استاد علامة سيد محمد حسين طباطبائي» (بالفارسية)، انتشارات شفق، ١٣٦١ش، ص٥٤–٥٩.
٣  الطهراني، محمد حسين، مهرتابان (بالفارسية)، نشر باقر العلوم، ص١٧.
٤  المصدر السابق، ص١٧.
٥  الأمين، محسن، «أعيان الشيعة»، مج٩، ص٢٥٥.
٦  «يادنامه مفسِّر كبير استاد علامه طباطبائي» (بالفارسية)، ص٦٢.
٧  رافق الطباطبائي في هذه المحطات الثلاث من حياته أخوه الأصغر السيد محمد حسن إلهي القاضي الطباطبائي؛ فقد هاجَرا معًا إلى النجف الأشرف، وعكفا معًا على دراسة الفلسفة والفقه والأصول، واحتضَنهما علي القاضي في مدرسته السلوكية، فأضحى كلٌّ منهما إمامًا في التربية السلوكية والعرفان العملي، كذلك اضطُرا للعودة سوية إلى تبريز، إلا أن محمد حسن إلهي مكث في تبريز بعد أن هاجر منها أخوه الطباطبائي إلى قم، وتفرَّغ في الحوزة العلمية في تبريز لتدريس الكتب الفلسفية مثل «الشفاء» لابن سينا، و«الأسفار الأربعة»، وغيرها من مؤلَّفات صدر الدين الشيرازي. مضافًا إلى ما اتَّسمَت به شخصيته من تجربةٍ روحيةٍ غزيرة أفاضت على تلامذته توجيهًا تربويًّا فريدًا. تُوفِّي عام ١٣٩٣ﻫ، ونُقل جثمانه من تبريز ودُفن في قم.
من أجل التوفُّر على تفاصيل الحياة العلمية والسلوكية لمحمد حسن إلهي انظر:
  • (أ)

    كلي زواره، غلام رضا، جُرعه هاي جانبخش (بالفارسية)، ص٤١٩–٤٢٣.

  • (ب)

    الطهراني، محمد حسين، مهرتابان (بالفارسية)، ص٢٣-٢٤.

  • (جـ)

    زاده آملي، حسن، هزار ويك نكته (بالفارسية)، ص٦٢٩-٦٣٠.

  • (د)

    زاده آملي، حسن، درآسمان معرفت (بالفارسية)، ص٣٩-٤٠، ٨٦–٩٠.

٨  نقلها إلى العربية: عباس نور الدين، وصدرَت عن دار التعارف في بيروت، سنة ١٤١٢ﻫ.
٩  «الميزان في تفسير القرآن»، الجزء العشرون، ص٤٦١.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥