محطات حياة الطباطبائي
وُلد الطباطبائي في أُسرة علمية مشهورة في تبريز سنة ١٣٢١ﻫ، واكتوى بمرارة اليُتم باكرًا، ففقد أمه وهو في الخامسة من عمره، وبعدها بأربع سنوات فقد أباه، وبقي هو وأخوه محمد حسن القاضي الطباطبائي تحت كفالة وصيِّ أبيه الذي كان يرعاهما برفق، وامتدت حياته إلى سنة ١٤٠٢ﻫ، تنقل خلالها في مراحلَ أربع، نوجزها كما يلي:
الأولى: مرحلة التكوين
الثانية: مرحلة النضوج الفلسفي والعلمي
تبدأ هذه المرحلة بهجرته من تبريز إلى النجف الأشرف سنة ١٣٤٤ﻫ، وتنتهي بعودته من النجف إلى تبريز سنة ١٣٥٤ﻫ، وتُعتبر هذه المرحلة أخصبَ مرحلةٍ تكامل فيها البعد الفلسفي والعرفاني والعلمي في شخصية الطباطبائي، بعد أن احتضنَته في الحوزة العلمية في النجف مجموعةٌ من الأساتذة الكبار، والذين نبغ كل واحدٍ منهم في حقلٍ أو أكثر من حقول التراث الإسلامي الغنية، فكان الحكيم حسين البادكوبي (١٢٩٣–١٣٥٨ﻫ) أستاذه في الفلسفة، تتلمذ على يدَيه ست سنوات، درس فيها «منظومة السبزواري» و«الأسفار الأربعة» و«المشاعر» لملا صدرا، و«الشفاء» لابن سينا، وكتاب «أثولوجيا» لأرسطو، و«التمهيد» لابن تركة، و«الأخلاق» لابن مسكويه.
وكان لأستاذه البادكوبي أثرٌ عميق في تنمية المنحى العقلي في شخصيته، وترسيخ النزعة البرهانية في تفكيره؛ ولذلك وجَّهه إلى دراسة الرياضيات ولم يقتصر على تدريسه الفلسفة فحسب، فاختار له أحد العلماء البارعين في العلوم الرياضية يومئذٍ في النجف وهو السيد أبو القاسم الخونساري وأمره أن يحضُر دروسه، فقرأ عليه دورةً كاملة في الرياضيات «الحساب الاستدلالي، والجبر الاستدلالي، والهندسة المسطَّحة والفضائية».
وساقه التوفيق لأن يحظى برعايةٍ خاصة من فيلسوفٍ وأصوليٍّ آخر وهو محمد حسين الأصفهاني (١٢٩٦–١٣٦١ﻫ) الذي ظل ملازمًا له مدةً تُناهز العشر سنوات، أكمل في ست سنواتٍ منها دورةً كاملة في أصول الفقه، فيما مكث في درسه الفقهي أربع سنوات، وكان الطباطبائي يصف مقدار استفادته من دروس أستاذه الأصفهاني قائلًا: «في المدة التي حضرتُ فيها دروسه استغنيتُ عن غيره.»
كذلك أفاد من أصوليٍّ بارعٍ آخر وهو محمد حسين النائيني، الذي لازمه لثماني سنواتٍ أنهى خلالها دورةً كاملة في أصول الفقه مضافًا إلى حضوره دروسَه الفقهية.
الثالثة: مرحلة العمل بالفلاحة
تبدأ هذه المرحلة من حياة الطباطبائي لمَّا اضطُر للعودة إلى موطنه تبريز من النجف، إثْر تدهور أحواله الاقتصادية سنة ١٣٥٤ﻫ، وانصرافه للعمل فلاحًا في زراعة الأرض، ومكث في مزاولة هذه المهنة إلى سنة ١٣٦٥ﻫ؛ أي ما يزيد على عشرة أعوام، ودراسة هذه الحقبة من حياة هذا الفيلسوف تُضيء لنا بُعدًا آخر في شخصية الطباطبائي، من النادر أن نعثُر عليه في حياة فيلسوفٍ آخر في الشرق أو الغرب؛ إذ ربما نعثر على بعض الفلاسفة الذين اختاروا طريق العزلة وانفردوا في صومعة، بعيدًا عن صخب الحياة، وألِفوا التقشُّف والفاقة مثلما يفعله بعض الصوفية في خانقاهاتهم والرهبان في أديرتهم، لكن لم نلتقِ بفيلسوفٍ عارفٍ فقيهٍ أصولي كالطباطبائي ينخرط في مهنةٍ شاقة كالفلاحة، وينصرف عن مطالعاته ودروسه ويعيش مع الأرض، بعيدًا عن حاضرته العلمية.
إن علينا أن نقف وقفةً متأنية كيما نتعلم أشياء كثيرة من هذا الموقف المدهش، الذي يستعيد تجربة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، عليه السلام، يوم كان يُدير جهاز الخلافة في الكوفة بيد فيما لا تغيب يدُه الأخرى عن الفلاحة والتعاون مع صاحبه ميثم في حانوته لبيع التمر.
الرابعة: مرحلة تأسيس مدرسة قم القرآنية والفلسفية والسلوكية
تبدأ هذه المرحلة بهبوط الطباطبائي في الحوزة العلمية في قم سنة ١٣٦٥ﻫ، وتتواصل إلى وفاته في ١٨ محرم الحرام ١٤٠٢ﻫ، وهي مرحلةٌ زاخرة بالعطاء والإنتاج الغزير في عدة حقول، توزَّعَت على التدريس والتربية والتأليف؛ ففي حقل التدريس وجد الحوزة العلمية في قم تُعاني من فراغٍ في دراسة التفسير وعلوم القرآن، فباشر تدريس تفسير القرآن، وافتتح بعمله هذا بابًا واسعًا للدراسات القرآنية والتفسير في الحوزة العلمية، وأحيا حضور القرآن في حلقات الدرس الحوزوي بعد أن ظل مهجورًا مدةً ليست قصيرة.
كذلك لاحظ فراغًا آخر في هذه الحاضرة العلمية يتمثَّل في نُدرة الدراسات الفلسفية والعقائدية، بينما تتعاظم يومًا بعد آخر الدعوة للفلسفة المادية في مختلف أقاليم العالم الإسلامي، حتى بلغت إشعاعاتُها الحوزات العلمية، فشرع في تدريس الفلسفة وتوافَد عددٌ لا يُستهان به من التلامذة النابهين إلى حلقات دروسه، ثم أسَّس بعد فترةٍ ما سنصطلح عليه ﺑ «حلقة قم الفلسفية».
وحاول الطباطبائي أن ينخرط في تدريس بحثٍ خارج الفقه والأصول في الفترة الأولى من قدومه إلى قم، فشرع بتدريس كتاب «الصوم» في الفقه، مضافًا إلى تدريس أصول الفقه أيضًا، ودوَّن نظرياته وآراءه النقدية الجديدة في «تعليقته على كفاية الأصول» التي نقَض فيها المرتكزات العقلية للفكر الأصولي، في ضوء ما اكتشَفه من اختلاف الإدراكات الحقيقية والاعتبارية. إلا أن تدريسه للفقه والأصول لم يدُم طويلًا بسبب وفرة الأساتذة في هذَين العلمَين، ونُدرة الأساتذة في علوم التفسير والحكمة والعقيدة، فكثَّف جهوده العلمية في هذه العلوم خاصة، وأنجز في كل واحدةٍ منها إبداعاتٍ باهرة.
مضافًا إلى ما اضطلع به من أعمالٍ أخرى، كان أبرزها كتاب «أصول الفلسفة والمذهب الواقعي» والذي صدر مذيلًا بهوامشَ وتعليقاتٍ توضيحية لتلميذه مرتضى المطهري بخمسة أجزاء.
من أجل التوفُّر على تفاصيل الحياة العلمية والسلوكية لمحمد حسن إلهي انظر:
- (أ)
كلي زواره، غلام رضا، جُرعه هاي جانبخش (بالفارسية)، ص٤١٩–٤٢٣.
- (ب)
الطهراني، محمد حسين، مهرتابان (بالفارسية)، ص٢٣-٢٤.
- (جـ)
زاده آملي، حسن، هزار ويك نكته (بالفارسية)، ص٦٢٩-٦٣٠.
- (د)
زاده آملي، حسن، درآسمان معرفت (بالفارسية)، ص٣٩-٤٠، ٨٦–٩٠.