الفصل الثاني
علوم الحكمة في الحَوْزة في مطلع القرن الرابع عشر الهجري
عُرِّضَت دراسة علوم الحكمة للهجر في القرون الأخيرة في الحوزات
العلمية، ولجأ بعض دارسي هذه العلوم لتعاطيها سرًّا بعيدًا عن
أولئك الذين يحاربونهم ويُلصقون بهم شتى النعوت والأوصاف، كما يحكي
ذلك النجفي القوجاني المتوفَّى سنة ١٣٦٣ﻫ، في كتابه «سياحة في
الشرق» الذي يصوِّر فيه الحياة الداخلية لطلَّاب العلوم الإسلامية،
فيكتب عن تجربته في دراسة بعض كتب المعقول في مشهد: «درَسْنا شرح
المطالع وشرح التجريد بصورةٍ سرِّية؛ حيثُ كنا نذهب قبل أذان الفجر
إلى المدرسة الجديدة الواقعة خلف مسجد «جوهرشاد» لندرس هناك، ونعود
والوقت ما يزال ظلامًا أيضًا؛ إذ إنَّ علماء وطلاب مدينة مشهد
كانوا في الغالب يرَون أنفسهم منزَّهين عن كتب الفلسفة، التي كانوا
يرَون فيها بأَسْرها كتبًا للضلال، فإن رأَوا نسخةً من كتاب
«المثنوي» في حجرة أحدهم اعتقَدوا بكفره. وكانوا يرَون أن كتب
الفلسفة نجسة، ولا يمسُّون بأيديهم غِلافَها حتى لو كانت جافَّة،
بل يرَون أنها أكثر نجاسةً من جلد الكلب والخنزير … فقد كانوا
يلجَئون إلى إشاعة أمثال تلك الافتراءات و«الناس أعداء ما جهلوا»،
بينما الحقيقة: أنَّ لُب لُباب الفلسفة هو توحيد ذات الحقِّ تعالى
وصفاته وأفعاله، وذلك أصل الدين، وقد قيل: «إنَّ أوَّل الدين
معرفته»، فإذا كان ذلك هو الكفر فما هو الدين إذن؟»١
كان هذا اللون من التفكير هو السائد في الحوزات العلمية وقتئذٍ؛
لذلك أعرضَ غير واحدٍ من الحكماء وأساتذة علوم الحكمة عن تدريسها
أمام الملأ، بل سعى بعضهم سعيًا حثيثًا بالتظاهر بتدريس الفقه
والأصول، بعد شيوع تقليدٍ حوزويٍّ خاطئ يخص وصف العالِم في الحوزة
بمدرِّس هذَين العلمَين، فخرجَت الحوزة العلمية من كونها جامعةً
تستوعب جميع العلوم الإسلامية إلى كليَّة فقهية.٢
ولم يقتصر الموقف السلبي من علوم الحكمة على حوزتَي مشهد والنجف،
وإنما سبقَتْهما بذلك قم؛ فمنذ صدر الدين الشيرازي اشتدَّ الموقف
المناوئ للفلسفة، ممَّا اضطرَّ الشيرازي أن يختار له منفًى في قرية
«كهك»، ويظل معتكفًا فيه على التأمُّل الفلسفي والتأليف مدَّة عشر
سنوات، تجلَّت له فيها الكثير من الحقائق الفلسفية والذوقية التي
ذكرها في كتابه «الأسفار الأربعة»، وتواصَل هذا الموقف في فتراتٍ
لاحقة، وربما ترسَّخ بشدَّة في العصر الحديث؛ فقد أشار الخميني إلى
أنَّ تعلُّم «الفلسفة والعرفان كان يُعدُّ ذنبًا وشركًا»،٣ وحينما كان يُدرِّس الفلسفة آنذاك في قم أبدَى بعضٌ
مواقفَ متصلِّبة لا أخلاقية إزاءه، ومن هذه المواقف كما يقول: إنه
«في مدرسة الفيضية تناول ابني الصغير المرحوم مصطفى وعاءً وشرب منه
الماء، فقام أحدهم وطهَّر الوعاء؛ لأنَّني كنتُ أدرِّس الفلسفة.»٤
في هذه البيئة دشَّن الطباطبائي اللبنات الأساسية لمشروعه الجديد في تعليم التفسير وعلوم الحكمة، ومع معرفته الدقيقة بما يكتنف مهمَّته من عقبات، غير أنه أصرَّ على المضيِّ قُدمًا في عمله حتى قطَف الثمرة في نهاية المطاف.
يؤرِّخ الطباطبائي لبعض المواقف التي اصطدم بها لما بدأ تدريس
كتاب «الأسفار الأربعة» بعد وفوده إلى قم مباشرة قائلًا: «عندما
جئتُ من تبريز إلى قم بدأتُ درس «الأسفار» وتجمَّع عددٌ يقارب
المائة من التلامذة لحضور هذا الدرس. أمر البروجردي بقطع راتب
التلامذة الذين يحضُرون درس الأسفار، وعندما بلغَني الخبر
تحيَّرتُ، فماذا أفعل؟ فإذا قُطع راتب هؤلاء التلامذة القادمين إلى
الحوزة من مدنٍ بعيدة، وليس لديهم مورد رزقٍ سوى هذا الراتب، فماذا
يفعلون؟ وإذا تركتُ تدريس الأسفار لأجل ذلك، فإن هذه تمثِّل ضربةً
قاضية للوضع العلمي والعقيدي للتلامذة. وفي اليوم نفسه أو بعده
بيوم جاءني أحمد خادم البروجردي إلى المنزل بهذه الرسالة من السيد،
وهي أنه يقول: حينما كنا شبابًا، كنا ندرس «الأسفار» عند المرحوم جهانكيرخان٥ ونحن مجموعةٌ صغيرة وبشكلٍ سرِّي، وأمَّا الدرس العلني
للأسفار في الحوزة الرسمية فإنَّه غير صالح بأيِّ شكل من الأشكال،
ولا بدَّ أن يُترك، فقلتُ له: أرجو أن تقول للبروجردي، نحن أيضًا
درسنا هذه الدروس الرسمية المتعارَفة كالفقه والأصول، ونحن
مستعدُّون لتدريسها وتشكيل حلقاتٍ دراسية خاصَّة بها، ولسنا أقلَّ
من الآخرين في هذا المضمار. غير أنِّي لما وفدتُ إلى قم من تبريز
كان هدفي فقط وفقط تصحيح عقائد الطلاب على أساس الحق، ونقض العقائد
المادِّية الباطلة، ويومذاك حينما كان يذهب البروجردي بشكل سرِّي
إلى درس المرحوم جهانكيرخان، كان الناس والطلاب بحمد الله مؤمنين
وذوي نيَّاتٍ طاهرة، ولم تكن هناك حاجة لتأسيس حلقات دروسٍ علنية
للأسفار، أما اليوم فإن كل طالب يرِد إلى قم يحمل معه سلة من
الشبهات والإشكالات، وعلى هذا لا بد أن نعمل على إعداد الطلاب هذا
اليوم، عبْر تعليمهم الفلسفة الإسلامية الحقة، ودحض المذاهب
المادِّية والمثالية؛ من هنا لا يمكن أن أتخلَّى عن تدريس الأسفار.
غير أنِّي في الوقت نفسه أعتقد بأن البروجردي حاكمٌ شرعي، فإذا
حَكَم بترك تدريس الأسفار، فسيكون الموقف من هذه المسألة بنحوٍ آخر.»٦
وبعد أن ذهب أحمد إلى البروجردي حاملًا رسالة الطباطبائي حصل
تحوُّلٌ واضح في موقف البروجردي، وانصرف عن قراره السابق، الذي
حاول فيه أن يحظُر تدريس الفلسفة في قم؛ حيثُ أفاد الطباطبائي: «أن
البروجردي لم يعارضه بعد ذلك، وأنه واصل تدريس مؤلَّفات الفلسفة
المعروفة، كالشفاء والأسفار، لسنواتٍ مديدة. وأن السيد البروجردي
كان يحترمه، وكتعبيرٍ عن تقديره له بعث له في أحد الأيام بهديةٍ
نفيسة، هي عبارة عن أحسن وأصحِّ طبعةٍ للقرآن الكريم.»٧
لقد كانت الغَيرة على الدين طافحةً في سائر أنشطة الطباطبائي،
كما ترسمها لنا بوضوح خطواته الواثقة الجادَّة في التدريس
والتأليف، فكما قادته هذه الغَيرة للتخلي عن تدريس البحث الخارج في
الفقه والأصول، والتفرُّغ لتدريس علوم الحكمة والعقيدة، عمل
بموازاة ذلك أيضًا على إحياء دراسة التفسير وعلوم القرآن في قم بعد
أن كانت مهجورة، ومنذ ذلك الحين نمَت وترعرعَت البذرة التي غرسها
الطباطبائي، فأفضَت إلى ما نشاهده أخيرًا من انفتاحٍ جيِّد على
القرآن الكريم، واهتمامٍ متزايد بالتفسير والدراسات القرآنية. غير
أنَّ ذلك الموقف كان يُعدُّ تضحيةً كبرى بالمقام من قِبل
الطباطبائي بحسب المعايير المتعارفة في الحوزة العلمية، طبقًا لما
حكاه تلميذه مرتضى المطهري عن الخوئي، يقول المطهري: «قبل شهر
تشرَّف أحد الفضلاء بزيارة العتبات المقدَّسة، وعند عودته ذكر أنه
تشرَّف بلقاء الخوئي حفظه الله، فسأله: لماذا تركتَ درسَ التفسير
الذي كنتَ تدرِّسه في السابق؟ (فقد كان للخوئي قبل عدة سنوات درسٌ
في التفسير في النجف الأشرف، طُبع قسم منه)، فأجاب الخوئي أن هناك
موانع ومشكلات في تدريس التفسير. قال: فقلتُ له: إن الطباطبائي
مستمرٌّ في تدريس التفسير في قم، فأجاب أن الطباطبائي يُضحِّي
بنفسه؛ أي إن الطباطبائي قد ضحَّى بشخصيَّته الاجتماعية.»٨ أمَّا المطهري فلم ينقل هذا الجواب من دون أن يعقِّب
عليه؛ لأنه كان من أقرب تلامذة الطباطبائي إليه، ومن أخبرهم بشئونه
وشجونه، فقال معقِّبًا على ما أفاده الخوئي: «وقد صحَّ ذلك. إنه
لعجيبٌ أن يقضي المرء عمره في أهمِّ العلوم الإسلامية كتفسير
القرآن، ثم يكون عُرضةً لكثير من المصاعب والمشاكل، في رزقه، في
حياته، في شخصيَّته، في احترامه، وفي كلِّ شيءٍ آخر. غير أنه لو
صرف عمره في تأليف كتابٍ مثل «الكفاية» لنال كل شيء. فتكون
النتيجة أن هناك آلافًا من الذين يعرفون «الكفاية» معرفةً فائقة؛
أي إنهم يعرفون «الكفاية»، والردَّ عليها، وردَّ الردِّ عليها،
والردَّ على ردِّ الردِّ عليها، لكن لا نعثُر على شخصَين يعرفان
القرآن معرفةً صحيحة، وعندما تسأل أحدًا عن تفسير آيةٍ قرآنية،
يقول لك: يجب العودة إلى التفاسير.»٩
ومن المؤسف أن تقابل بعضُ الأوساط في الحوزة العلمية الإنجازَ
العظيمَ للطباطبائي في تفسيره «الميزان» بردود فعلٍ سلبية، وربما
عدوانية؛ فقد كتب بعضهم كتابًا ينطوي على روح مخاصمة وليس نقدًا
وتقويمًا علميًّا موضوعيًّا، تحت عنوان «حول الميزان»، فيما أثار
آخرون ضجَّة وصخبًا في الحوزة العلمية في النجف بعد صدور
«الميزان»، دفعت تلميذ الطباطبائي مسلم الملكوتي أن يتصدى للدفاع
عن تفسير أستاذه، فخاض حواراتٍ عديدةً مع هؤلاء من دون أن يجد
أذنًا صاغية لما يقول، وكان يذهب إلى أن هؤلاء لم يندفعوا بسوء نية
لاتِّخاذ هذا الموقف وافتعال الضجيج، وإنما يعود ذلك لسوء الفهم،
وربما كان لبعض الأيدي الخفية دورٌ مهمٌّ في ذلك؛ من هنا اضطُرَّ
الطباطبائي أن يحصل على تقريظٍ للميزان من بعض المراجع وقتئذٍ،
لإخماد نار هذه الفتنة وإن كان «الميزان» لا يحتاج إلى تقريظ أحد،
حسب تعبير الملكوتي.١٠
ويتحدث الملكوتي عن حادثةٍ أخرى تمثَّلَت باعتراض أحد المراجع في
النجف على طباعة بعض آثار الطباطبائي، وكما لم يُجدِ حواره مع
الذين أثاروا الضجَّة ضد «الميزان» في النجف، كذلك لم يُجدِ حواره
هذه المرَّة مع ذلك المرجع ولم يقتنع بالتراجُع عن موقفه، وملخَّص
القصة طبقًا لرواية الملكوتي: إن للطباطبائي هوامشَ وتعليقاتٍ
تتضمَّن نظراتٍ نقدية على كتاب «العقل» من «بحار الأنوار»، وقد
تبرَّع أحد المحسنين بالإنفاق على طباعة البحار مع تلك الهوامش،
وكان هذا التاجر الُمحسن مقلِّدًا لأحد المراجع المقيمين في النجف
آنذاك، فاستجازه في ذلك، لكن هذا المرجع لم يأذن لمقلِّده بطبع
البحار مذيَّلًا بتعليقات الطباطبائي. يقول الملكوتي: كنتُ يومها
في النجف، فذهبتُ إلى هذا المرجع، وقلتُ له: مولانا لماذا لم تأذن
بذلك، مع العلم أنَّ مثل هذه الهوامش النقدية سيكتبها آخرون في
المستقبل، أليس من الأفضل أن يقرِّرها الطباطبائي الآن، إذن لماذا
تمنع ذلك؟ غير أنَّ هذا المرجع فضَّل عدم الإذن، وبرَّر موقفه
قائلًا: إن طباعة هذه الهوامش ستُذهِب عظمة وأبَّهة بحار الأنوار،
وليس في ذلك صلاحٌ للإسلام والتشيُّع. وبسبب هذا الموقف لم تُطبع
تعليقاتُ الطباطبائي على البحار في تلك الطبعة.١١
١
النجفي القوجاني، «سياحة في الشرق»، ٦٥، ترجمة: يوسف
الهادي.
٢
المطهري، مرتضى، «الاجتهاد في الإسلام»، ٥٨، ترجمة: جعفر
صادق الخليلي.
٣
بيان الخميني في ١٥ رجب ١٤٠٩ﻫ.
٤
المصدر السابق.
٥
جهانكيرخان قشقائي، حكيمٌ متألِّه، وُلد سنة (١٢٤٣ﻫ)
وتُوفي في أصفهان سنة (١٣٢٨ﻫ)، من أبرز أساتذة الفلسفة في
أصفهان في القرنِ الثالثَ عشرَ الهجري. من تلامذته في
الفلسفة آقا ضياء العراقي، وأبو الحسن الأصفهاني، وحسين
البروجردي، والميرزا محمد علي الشاهآبادي، وجمال الدين
الكلبايكاني، وغيرهم.
٦
الطهراني، محمد حسين، «مهرتابان»، ٦٠–٦٢.
٧
المصدر السابق، ٦٢.
٨
المطهري، مرتضى، «إحياء الفكر الديني»، ٤٥، طهران، مؤسَّسة
البعثة.
٩
المصدر السابق، ٦٢.
١٠
علامه مؤسس تفسير در حوزه در كفتكو با حضرت شيخ مسلم
ملكوتى (مؤسِّس التفسير في الحوزة في حوار مع حضرة مسلم
ملكوتي)، مجلة بصائر (السنة الثالثة، عدد خاص بالطباطبائي،
٦).
١١
المصدر السابق، ٦، ومجلة حوزه، ع ٧٨، ص١٩٠.