كان الطباطبائي «ملكًا بصورة إنسان … وهو مصداقٌ للحديث: كونوا
للناس دُعاة بغير ألسنتكم»
١ — حسب تعبير جلال الدين الآشتياني — إذ استطاع أن
يجسِّد روح الشريعة المقدَّسة بسلوكه الذي أحيا به غير واحدة من
السُّنن، وأضحى قدوةً وأسوةً خصوصًا لطلَّاب العلوم الإسلامية،
وليس بوسعنا أن نقف عند سائر الأبعاد الأخلاقية والتربوية في
سلوكه؛ لأن ذلك يتطلَّب دراسةً مستأنفة تُعنى بمعرفة تلك الأبعاد
واستكشاف دلالاتها، غير أنَّ ذلك لا يمنعنا من الإشارة إلى شيءٍ
منها، باعتبارها تُضيء مظاهر الحكمة العملية في شخصية الطباطبائي.
وعلى هذا سنقف عند بعض النماذج:
(١) العفاف في العيش
اعتمد الطباطبائي في تأمين نفقات حياته ونفقات عائلته على
ريع مزرعة كان يمتلكها أبوه في تبريز، وكان يمتنع عن استلام
الحقوق الشرعية المخصَّصة لطلاب الحوزة العلمية في النجف
الأشرف، ويكتفي وأسرته بما يصله من عائداتِ ما وَرِثه من أبيه،
وربما تأخَّر وصولها وقتًا طويلًا، لكنه فضَّل عيشة الكفاف على
أن يتصرَّف بشيء من الحقوق الشرعية، ثم عمَد إلى مغادرة النجف
حين اضطرَّته أحواله الاقتصادية لذلك، وظلَّ يعمل بالفلاحة
أكثر من عشر سنوات في تبريز متعففًا عن الاستفادة من الخُمْس
وغيره من الأموال الشرعية، كما ألمعنا لذلك.
٢
لقد أحيا الطباطبائي بسلوكه هذا ما كنا نقرؤه عن أصحاب أهل
البيت عليهم السلام من رواة الحديث والفقهاء الذين تعرِّفهم
مصنَّفات الرجال بالنسبة إلى مهنهم، فيُقال: «الحنَّاط،
والسمَّان، والصيرفي، وبيَّاع الطاطري، والجمَّال، …
إلخ.»
ولما هاجر إلى قم استأجر منزلًا لا تتجاوز مساحته عشرين
مترًا، يشتمل على غرفةٍ واحدة مقسومة إلى ما يشبه غرفتَين عبْر
نصب ستارة في وسطها، ولم تتوفَّر على مطبخ؛ ولذلك كانت تُضطَر
زوجته للطبخ في داخل الغرفة،
٣ وظلَّ يسكن حتى سنواتٍ متأخرة من حياته في منزلٍ
بائسٍ مستأجَر، كان مالكه لا يسمح للطباطبائي باستقبال
الأصدقاء والضيوف فيه، غير أن الطباطبائي لم يستطِع أن ينتقل
من هذا المنزل ويستأجر منزلًا آخر، لعدم توفُّر المال اللازم
لذلك؛ لأنَّه ظلَّ مدينًا طيلة تلك الفترة، ومع كل ذلك استمرَّ
يواصل نشاطه العلمي في التدريس والبحث والتأليف بجدِّية وحضور
قلبٍ تامٍّ، ولم يُبدِ توجُّعًا أو شكوى من حاجةٍ يومًا ما لأحد.
٤ بل كان يمتنع من استلام مساعدةٍ من أيِّ إنسان حتى
لو كان ولده! يقول أحد فضلاء الحوزة: عرضَ أحد التجَّار
المحسنين شراء منزل للطباطبائي بواسطتي، فقلتُ له بذلك،
فأجابني: هذا رجلٌ صالح، جزاه الله خيرًا، إلَّا أنِّي أعتذر
عن ذلك، لتوفُّر مبلغٍ لديَّ من إرث والدي، ولا يمكن أن
أتصرَّف بسهم الإمام، فأعدتُ المبلغ لصاحبه. فقال التاجر
المحسن: قل له: إنَّ هذه هدية وليس من سهم الإمام. فعُدتُ له
مرَّة أخرى وقلتُ له ذلك. فأجاب: لا حاجة لي بذلك. وأخبرتُ
صاحب المبلغ بذلك، فقال: قل له: تصرَّف بهذا المبلغ حسبما تراه
صلاحًا. فعُدتُ إليه مرَّة ثالثة وأخبرتُه بذلك، فأجاب
معتذرًا: لا أستطيع ذلك. فأرجعتُ المبلغ لصاحبه.
٥
وبالرغم من أنه امتلك منزلًا في السنوات الأخيرة من حياته في
قم، إلَّا أنه لم يَستعِن بأحد في تهيئة ثمنه حتى أولاده،
وإنما توفَّر لديه الثمن ممَّا وصله أخيرًا من ميراث.
يقول أحد أولاده: كان أبي يمتنع من استلام أيِّ شيءٍ منَّا،
حتى لو كان بقيمة خمسة ريالات؛ لأنَّه يتمتَّع بإباء وعزَّة
نفسٍ عجيبة. حتى إنه تعرَّض إلى وعكةٍ صحِّية في أواخر عمره،
فنصحه الأطباء بالاستجمام والاستراحة في منطقة هواؤها نقيٌّ،
فاستأجرتُ له بستانًا في دماوند، وأعطيتُ قيمة الإيجار لصاحب
البستان، وبعد ثلاثة أيام من إقامته هناك استدعاني فسألني: ما
هي قيمة الإيجار؟ فقلتُ له: ليس مهمًّا، فقال بإصرار: أيمكِن
أن أعطيَ الإيجار أم لا؟ فقلتُ: أنا دفعتُه. فأجاب: إمَّا أن
تأخذ منِّي قيمة الإيجار أو سأُضطَر لمغادرة هذا المكان.
فأجبرني على قَبول قيمة الإيجار.
٦
(٢) التواضع والبساطة في الحياة
اتَّسمَت حياة الطباطبائي بالبساطة والفرار من البروتوكولات
والبهرجة، التي يُحيط بها معظم ذوي الشأن المالي والسياسي
والعلمي حياتَهم في المأكل والملبس والمركب، تقول ابنته: عندما
كنتُ أقدِّم له ألوانًا متنوِّعة من الطعام على المائدة كان
يكتفي بنوعٍ واحدٍ لا غير.
٧
ويقول تلميذه محمد تقي مصباح اليزدي: ما زلتُ أتذكَّر هندامه
لمَّا وَرَد من قرية «شاد آباد» من توابع تبريز إلى مدينة قم،
وهو يرتدي عمامة قطن ذات لونٍ كُحلي، ولم يكن لديه أيُّ
إمكاناتٍ ماديَّة، وكان يستأجر منزلًا يشتمل على غرفتَين
بثمانين تومانًا، فتساءلتُ: أهذا هو الشخص الذي يدَّعي أنه
سيُحدِث ثورةً في الحوزة العلمية؟
٨
ويقول تلميذه علي أكبر المسعودي: إن حياة الطباطبائي كانت
تتَّسم بالبساطة؛ فمثلًا في كل مرة يريد السفر إلى طهران يمتطي
الحافلات الكبيرة (الأتوبوس) بمعيَّة الناس، مثلما يفعل أيُّ
شخصٍ عادي، حتى إنه في إحدى المرات ظلَّ ينتظر جالسًا في
الحافلة أكثر من ساعة حتى امتلأَت بالركَّاب وتحرَّكَت، وفي
مرةٍ أخرى أُصيب بجرح إثْر اصطدام الحافلة التي كان مسافرًا
بها إلى طهران.
٩
ويروي تلميذه محمد حسين الطهراني صورةً أخرى من تواضعه،
فيقول: عندما كنتُ طالبًا في الحوزة بقُم كنتُ كثير التردُّد
إلى منزل أستاذي الطباطبائي، ومن الحسرات التي ظلَّ يختزنها
فؤادي حرماني من الاقتداء به في الصلاة؛ لأنَّه كان يمتنع عن
أن يتقدَّم على أحد، وفي شهر شعبان ١٤٠١ﻫ تشرَّف بزيارة مشهد،
ثمَّ وَرَد إلى منزلي، ولما حلَّ وقتُ صلاة المغرب أعددتُ له
ولرفيق كان بصحبته سجَّادة الصلاة، وخرجتُ من الغرفة لكي يبدأ
بالصلاة، ثم أقتدي به حالة انشغاله بالصلاة، إلَّا أنِّي مكثتُ
خمس عشرة دقيقةً أترقَّب خارج الغرفة من دون أن يبدأ بالصلاة،
ثم ناداني مرافقه قائلًا: سيظلُّ الطباطبائي جالسًا حتى تصلِّي
أنت. فقلتُ له: أنا أريد الاقتداء بكم، فقال: أنا أريد
الاقتداء بك، ثم أردف: تفضَّل صلِّ. فأجبتُه: منذ أربعين عامًا
تحدوني الرغبة للصلاة مأمومًا وراءكم، فتبسَّم وقال: أضف سنةً
أخرى على الأربعين. ثم أضاف: تفضَّل للصلاة، أنا أريد الاقتداء
بك، فخجلتُ كثيرًا، وقلتُ له: إن كان هذا أمرًا من جنابك فأنا
مطيعٌ لك. وأخيرًا نزلتُ على رغبته، فتقدَّمتُ للصلاة، وصلَّى
خلفي مأمومًا، وهكذا وبعد أربعين عامًا لم أُحْرم من الائتمام
به فحسب، بل انتهى الأمر لأن أكون إمامًا له. ثم يستشهد
الطهراني بهذا البيت من الشِّعر لصفي الدين الحلي:
خُلقٌ يُخجِل النسيم من اللُّطـ
ـفِ وبَأسٌ يَذوبُ منهُ الجَمادُ
١٠
وكان الطباطبائي أبعَد الناسِ عن التظاهر بالعلم، يشعُّ
حياءً ورقَّة وسكينة؛ فعندما كان يقوم بالتدريس يجلِّله
التواضع أمام تلامذته، فيجلس وسط حلقة الدرس خافضًا رأسه من
دون أن يرتقيَ المنبر،
١١ ولازمه هذا الأدب حتى بعد أن ازداد عدد تلامذته؛
فمثلًا كان درس التفسير يزدحم بكثرة الحاضرين، وكان صوتُه لا
يكاد يصل إلى كافة الطلاب، فالتمسه الحضور وبإصرار أن يرتقيَ
المنبر حال التدريس، غير أنه امتنع عن ذلك وظلَّ يجلس بتواضع
في حلقة الدرس حيثما يجلس تلامذته.
١٢
ولم يُشاهَد في الغالب مستقلَّا سيارة في ذهابه وإيابه من
دروسه وإليها، أو في زياراته للحرم الشريف، أو زيارة تلامذته
وأصدقائه، وكان يُجيب على أيِّ سؤالٍ علمي وهو ماشٍ،
١٣ فضلًا عن إماطته للأذى عن طريق المارَّة، يقول
تلميذه إبراهيم الأميني: رافقتُه ماشيًا في شارع صفائية الذي
يؤدِّي إلى الحرم في قم، فكان يرمي بحذائه أو عصاه قشور الموز
والبرتقال بعيدًا عن الطريق، ويُلقيها في قناة المجاري.
١٤
وما كانت تبدو على مظهره أية علامة تشير إلى مقامه الرفيع،
حتى إن تلميذه جعفر السبحاني يقول: لو أن شخصًا سافر بمعيَّته
سنةً بتمامها ولم يكن على معرفة من قبلُ بمقامه العلمي، فلن
يكتشف أن هذا الرجل هو صاحبُ المنهج الجديد في التفسير، وذو
الإبداع والتجديد في الفلسفة، وأستاذ السَّير والسلوك.
١٥
(٤) الرفق والشفقة والمداراة في العشرة
كانت شخصية الطباطبائي منهلًا يُفيض الحب والعطف والمودَّة
على أفراد أسرته وتلامذته ومن يعاشره من الناس؛ فلو وقفنا عند
حياته داخل الأسرة لبهرَتْنا طباعه وسجاياه في التعامل مع
زوجته وأولاده، يتحدَّث ولده عبد الباقي عن أشعة من سلوكه داخل
المنزل قائلًا: كان في المنزل رحيمًا جدًّا، لا يصدُر منه
أذًى، ولا أوامر؛ فحين يحتاج إلى شاي أو غيره يسعى بنفسه
لتأمين ما يحتاج، وحينما تدخُل زوجته أو أحد أبنائه الغرفة يقف
منتصبًا احترامًا له، إلى هذه الدرجة بلغ أدبُه وخلقُه. وطالما
كان يؤكِّد أنه مدينٌ بهذا التوفيق لزوجته.
وتتحدَّث ابنته نجمة السادات قائلة: كان أبي يذكُر أمِّي
ذكرًا حسنًا على الدوام، فيقول: إن هذه المرأة هي التي
أوصلَتني إلى ما وصلتُ إليه، هي شريكتي فيما أنجزتُه، كل كتابٍ
ألَّفتُه نصفُه يعود إليها. ولما سُئلَت هذه السيِّدة [زوجته]
السؤال التالي: كيف يوفِّق الطباطبائي والذي يتمتَّع بهذه
الشخصية العلميَّة العظيمة وهذه المشاغل الفكريَّة بين تلك
المشاغل والمتطلَّبات العائلية؟ أجابت: لقد خصَّص في برنامجه
اليومي أوقاتًا وساعاتٍ خاصَّةً بالعائلة؛ فإنه بعد أن يعمل
لمدة سبع ساعات يقول: إن فترة ما بعد الظهر إلى المساء هي
للمجلس الخاص بالأسرة، فينادي: تعالَوا اجلسوا واسمعوا ما
أقول: إنَّ هذه الساعة هي أفضلُ الأوقاتِ لديَّ، ومع تعاظُم
وازدياد أعماله إلَّا أنه لم يغفُل عن عائلته؛ إذ كان يهتم
بزوجته وأبنائه اهتمامًا خاصًّا، وبالرغم من انشغاله الدائم
بتلك الأعمال، وما كان يتَّسم به من حبٍّ شديد للضيوف، فإنه
كان يسعى لمساعدة أمِّي، مع أنها لم تكن ترضى أن يمارس هو
أعمالها. على العموم كانت أمِّي هي مدبِّرة المنزل؛ فإن ما
يرتبط بدراستنا وذَهابنا وإيابنا وسائر الشئون الأخرى كانت
تتولَّاها أمِّي، لكي يكون أبي متفرَّغًا بشكلٍ تامٍّ لمشاغله العلمية.
١٨
وقد كانت علاقته بزوجته تنطوي على مودَّةٍ عميقة، حتى إنَّه
تأثَّر تأثُّرًا شديدًا، وبكى بحزنٍ بالغ عند وفاتها، يقول
تلميذه إبراهيم الأميني: فوجئتُ بانهمار دموعه بغزارة، وحزنه
وتأثُّره الشديد بعد وفاة زوجته، فقلتُ له في أحد الأيام: نحن
نستلهم الصبر منك في تحمُّل المصائب، لماذا تتأثَّر بهذا
الشكل؟ فأجاب: شيخنا الأميني الموت حق، كلُّنا لا بدَّ أن
نموت، أنا لا أبكي لموت زوجتي، وإنما أنا أبكي لصفاء وحُب هذه
السيدة؛ فإن حياتنا كانت صعبة وشاقَّة، عندما كنتُ في النجف
الأشرف كانت تُواجهني متاعب جمَّة، وأنا لا أعرف شيئًا بالنسبة
لمتطلَّبات الحياة المختلفة، فكانت هذه المرأة هي التي تتولَّى
إدارة حياتنا، فطوال مدَّة حياتنا لم تُقدِم على عملٍ يُمكِن
أن أقول عنه: لماذا فعلتِ ذلك؟ ولو بمستوى أن أحدِّث نفسي
بذلك. كما لم تترك عملًا يُمكِن أن أقول عنه: لماذا تركتِ هذا
العمل؟ كذلك لم تعترض عليَّ طوالَ حياتها، فلم تقل: لماذا
فعلتَ ذلك؟ أو لماذا تركتَ ذلك؟ فمثلًا أنت تدري أن عملي داخل
المنزل، وأنا دائمًا مشغول في المنزل بالكتابة أو المطالعة،
ومن المعلوم أني أُصاب بالإجهاد فاحتاج للاستراحة وتجديد طاقتي
للعمل. هي كانت على بيِّنة من هذا الأمر؛ لذلك كان «السماور»
مشتعلًا باستمرار والشاي جاهز، وفي ذات الوقت الذي كانت
مشغولةً بأعمال المنزل، كانت تجلب لي كل ساعةً فنجان شاي إلى
غرفتي ثم تعود إلى عملها إلى ساعةٍ أخرى. شيخنا الأميني: كيف
يتسنَّى اليَّ أن أنسى كل هذه المحبَّة والصفاء؟
١٩
وظلَّ الطباطبائي وفيًّا لهذه المرأة الصالحة؛ فقد كان يزور
قبرها كل يومٍ طيلة ثلاث أو أربع سنواتٍ بعد وفاتها، ولمَّا
تراكمَت أعماله ولم يجد فرصة، استمرَّ يزورها بشكلٍ منظم
مرَّتَين كل أسبوع في يومَي الإثنَين والخميس، وكان يقول: يجب
أن يكون عبد الله شكورًا، إذا لم يستطع الإنسانُ تأدية حقِّ
الناس فلن يتمكَّن من أداء حق الله.
٢٠
وتشير ابنته إلى حنانه وشفقته ومودَّته لأطفاله، بل
ولأطفالها، قائلة: كان يُنفِق ساعاتٍ عديدة من وقته الثمين
للإنصات إلى ما يحكيه الأطفال، أو بتعليمهم الرسم، وإعطائهم
تمارينَ وواجباتٍ للحل.
٢١
أما عطفُه وشفقتُه على الآخرين، فنكتفي بذكر موقفٍ واحد
يُفصِح عن أسلوب معاشرته للناس، يقول ابنه: حينما كان أبي يعمل
في مزرعته بتبريز، كان يتولَّى تسويق المحاصيل بعض الأشخاص
مقابل أجورٍ يتقاضَونها من الثمن على هذا العمل، فيما يدفعون
باقي الثمن إلى أبي. وفي إحدى المرات أعطى هؤلاء لأبي أوراقًا
تُثبِت مديونيَّتهم بعض المبالغ لأبي، ثم بعد ذلك شاهدتُ أبي
يُخرِج هذه الأوراق من جيبه وينظر فيها مليًّا، ويمزِّقها
بمجموعها ويرميها، مع العلم أنا كنا في أمسِّ الحاجة للمال
لتأمين النفقات الاعتيادية لحياتنا، فتساءلتُ بتعجُّب: لماذا
تفعل ذلك يا أبي؟ فنظر إليَّ بتأمُّل، وقال: لو كان لديهم مالٌ
لجلبوه ووفَّوا مديونيَّتهم، الله لا يرضى أن نمارس ضغطًا
عليهم من أجل وفاء الدين مع علمنا بعدم توفُّر شيء لديهم. بعد
ذلك يعقِّب ولده على هذا الموقف: لقد تعلَّمتُ درسًا بليغًا في
شموخ النفس وبُعد الهمَّة وتوكُّل أبي على الله وأنه هو الرزَّاق.
٢٢
(٥) من آدابه مع تلامذته
تميَّزَت علاقة الطباطبائي بتلامذته بمودَّةٍ صادقة ورعايةٍ
خاصَّة، توفَّق فيها الدارسون في حلقات دروسه باستلهام تجربةٍ
تربويةٍ أخلاقيةٍ عميقة، منحَت شخصياتهم مقوِّماتٍ روحيةً
أساسية، ما كان لهم أن يحصلوا عليها لولا هذا الأستاذ، فضلًا
عن العلوم التي أغنتهم عن الرجوع إلى غيره.
وهذا ما أكَّده غير واحد من تلامذته في حديثهم عن آدابه في
التعامل معهم، يكتب تلميذه محمد تقي مصباح اليزدي: طيلة
الثلاثين سنةً التي أفتخر بحضوري فيها لديه لم أ سمع منه كلمة
«أنا»، وعوضًا عن ذلك طالما سمعتُ منه عبارة «لا أعلم» عند
جوابه عن الأسئلة. هذه العبارة التي يعتبرها أدعياء العلم
عارًا، غير أنَّ هذا البحر المتلاطم من العلم والحكمة يقولها
من فرط تواضُعه بسهولة، ثمَّ بعد ذلك يُجيبه على السؤال
مبتدئًا بقوله: يحتمل أو في نظري.
٢٣
أما تلميذه الآخر إبراهيم الأميني فيكتب: اشتركتُ حدود
ثلاثين سنةً في درسه، مضافًا إلى حضوري ليالي الخميس والجمعة
أيضًا في درسه الخاص، لا أتذكَّر طَوالَ هذه المدة أنه صار
عصبيًّا، أو صدر من لسانه قولٌ شديد أو توهينٌ لأحدٍ من
تلامذته، كان متواضعًا جدًّا، لم نرَ منه تعريفًا وتمجيدًا
بنفسه، كما لم يبخل بالتعليم والتربية على أحد، وعادةً ما
يوضِّح المطالب العالية وبعض ابتكاراته ببيانٍ ميسَّر مفهوم
للمخاطبين، من دون أن يشير إلى أن هذا المطلب من ابتكاراتي
وأنه مطلبٌ مهم. وكان يحرص على إشاعة العلم، فلم يترك سؤالًا
لأحدٍ بلا جواب، ويأتي جوابه بمستوى فهم السائل. ولا يلجأ
لاستخدام العبارات المقعَّرة، ويُجيب بعباراتٍ مختصرة، لا يعبأ
بكثرة أو قلَّة حضور طلَّابه، فحتى لو اقتصر الحضور على اثنَين
أو ثلاثة لا يبخل بالدرس. لم يحرم من الإفادة منه غير الطلاب؛
فأي شخص وأيًّا كان زيُّه ولباسه وعمره يمكنه الاستفادة منه،
وطالما انتفع منه مثل أولئك. وطالما أجاب على الرسائل الكثيرة
التي كانت تصل إليه وتنطوي على أسئلةٍ متنوِّعة بخط يده.
٢٤
ولعلَّ أهم مزية تعلَّمها منه تلامذته هي التواضع العلمي في
بيئة تزدحم بالادعاءات والتفاخُر والتعالُم؛ فكثيرًا ما نسمع
أو نقرأ أن هذا المطلب لم يسبقني به أحد، وهذا ما أفاضه الله
عليَّ، بينما اتَّسمَت شخصية الطباطبائي بأدبٍ مختلف في البحث
العلمي، كما ذكَر تلميذه مصباح اليزدي: لا أتذكَّر ولو لمرَّةٍ
واحدة أنه أشار إلى أنه توصَّل إلى حلِّ هذه المسألة التي عجز
عن حلِّها الآخرون.
٢٥
وبلغ من تواضُعه العلمي أن يعبِّر عن تلامذته ﺑ «رفاقي» ولا
يحبِّذ أن يسمِّيهم تلامذته، كما تقول ابنتُه: إنه كان خارج
المنزل في أحد الأيام، فجاء أحد تلامذته لزيارته، فقلتُ له حين
عاد إلى المنزل: جاء أحد تلامذتك ولم يجدك، فأجاب: قولي أحد
رفاقي، هؤلاء رفاقي.
٢٦ وهذا ما جعل طلابه ينجذبون إليه ويلتصقون
بشخصيَّته، ويحبُّونه بشغفٍ بالغ؛ بحيث كان بعضُهم يصاحبه
ماشيًا في طريق عودته إلى المنزل، فيما يتوافدون عليه في
أوقاتٍ أخرى إلى المنزل لاستلهام الأجوبة على إشكالاتهم
وأسئلتهم، من دون أن يحول بينهم وبينه أي حجاب، وفي بعض
الليالي كان يمشي عدَّة كيلومترات مع ما هو عليه من ضعف البدن
والارتعاش الذي ابتُلي به، كيما يحضر مجالسهم الخاصَّة ويوضِّح
لهم المطالب العلمية، وربما تستغرق هذه المجالس ساعاتٍ طويلة،
ليعود بعد الانصراف منها ماشيًا إلى منزله.
٢٧
(٦) عمق الصلة بالله
حفلَت حياة الطباطبائي بالانقطاع إلى الله، ودوام الاتصال
به، والإدمان على ذكره في السر والعلن، ومما لا شك فيه أن
التوفيق الذي أحرزه الطباطبائي، والإبداع الوفير الذي اشتملَت
عليه آثاره، كان مظهرًا لعمق صلته بالله. يكتب تلميذه إبراهيم
الأميني: إنه كان من أهل الذكر والدعاء والمناجاة؛ فحتى في
الطرقات لا نراه يفارق ذكر الله، وحين كنتُ أحضُر مجالسه
بمجرَّد أن يتوقَّف الحديث وتحصُل حالة سكوت يعود للذكر،
مضافًا إلى التزامه بالنوافل، حتى إنه كان يغتنم لحظات سيره في
الطريق لأداء النافلة.
٢٨ ومن الطريف أن أحد معارف الطباطبائي شاهده ماشيًا
في الشارع، فسلَّم عليه، فردَّ عليه الطباطبائي السلام، ومضى
من دون أن يسأله عن أحواله، فانزعج ذلك الشخص، وبلغ انزعاجه
فيما بعدُ، فاضطُرَّ الطباطبائي للإفصاح عن السبب بقوله: في كل
وقتٍ أخرج من المنزل أشرع بصلاة نافلة إلى أن أصل المحل الذي
أقصده، ولم يكن أحد يعلم بذلك قبل هذه الحادثة.
٢٩
أما شهر رمضان فيظل في لياليه مستيقظًا حتى الصباح، يُحيي
بعض الليل بالمطالعة، فيما يُحيي ما بقي منه بالدعاء وقراءة
القرآن والصلاة والأذكار.
٣٠
وكما عُرف الطباطبائي بطهارة الجَنَان اشتُهر أيضًا بطهارة
اللسان؛ فقد ذكر تلميذه محمد باقر الموسوي الهمداني «مترجم
الميزان إلى الفارسية»: إنَّ الطباطبائي لم يذكُر أي إنسان
بسوء، لقد دامت علاقتي معه «٣٥» سنةً لم أسمعه في أثنائها
يذكُر أحدًا بسوء. وكان هذا الرجل مواظبًا على مراقبة نفسه،
وكان زمامها بيده، كانت له سيطرةٌ على اللسان واليد وجميع
الأعضاء والجوارح، والله شاهدٌ على ما أقول إني لم أسمع منه
طَوالَ هذه المدَّة غيبة ولو لمرَّة واحدة، كما لم أسمع منه
كلمةً في مدح نفسه والتمجيد بذاته.
٣١