الفصل الرابع

الآثار الفلسفية للعلامة الطباطبائي

تعدَّدَت وتنوَّعَت الآثار الفلسفية للطباطبائي؛ فبينما جاء بعضها على شكل رسائلَ مدوَّنة ببيانٍ مكثَّفٍ موجَز، مثلما نجد في «الرسائل التوحيدية» و«الرسائل المنطقية» التي ألَّفَها أيَّام اشتغاله بالفلاحة في تبريز، بعد عودته من النجف الأشرف، جاء بعضها الآخر على شكل تعليقاتٍ وحواشٍ على أعمال حكماء معروفين، كما في «تعليقته على الأسفار الأربعة»، أو مؤلَّفاتٍ مستقلَّة في الفلسفة، كما في «أصول الفلسفة والمذهب الواقعي» و«بداية الحكمة» و«نهاية الحكمة».

وعمَد الطباطبائي إلى اقتفاء الأسلوب المتداول في تدوين المسائل الفلسفية لدى مؤلِّفي مدرسة الحكمة المتعالية في الكتابَين الأخيرَين، فبدأ بالأمور العامَّة أو الإلهيَّات بالمعنى الأعمِّ وأردفَها بالإلهيَّات بالمعنى الأخصِّ، إلَّا أنه استبعد بعض المباحث، وأعاد تنظيم بعضها الآخر، بنحو لم يتجاوز فيه طريقة السلف كليًّا. ولعل تمسُّكه بذلك يعبِّر عن هدفه من تأليف «بداية الحكمة» و«نهاية الحكمة» كمقرَّرَين لدراسة الفلسفة في الحوزة العلمية؛ ولذا ينبغي أن يوصلا دارس الفلسفة إلى تراث الفلسفة الإسلامية بيُسر وانتظام؛ من هنا صار محور المباحث ومرتكزها فيهما هو «الأحكام الكلِّية للوجود» والتي تشكِّل «أصالة الوجود» و«الوحدة التشكيكية لحقيقة الوجود» منبعها الأساسي؛ فإن سائر المباحث في «الحكمة المتعالية» تترتَّب على الفراغ عن القول بهاتَين المسألتَين، بينما تناثَر البحث حول «نظرية المعرفة» في مواضعَ متفرِّقة من هذَين الكتابَين؛ فتارةً نعثر عليه في ثنايا بحث «الوجود الذهني» و«الكلي والجزئي» و«الكيفيَّات النفسانية»، أو نراه في مباحث «العقل والعاقل والمعقول».

أمَّا في «أصول الفلسفة» فقد استأثرَت «نظرية المعرفة» بمساحةٍ واسعةٍ من مباحث الكتاب؛ فبعد أن فرغ الطباطبائي في المقالتَين الأولى والثانية من بيان «معنى الفلسفة وحدودها، والعلاقة بينها وبين العلوم الطبيعية والرياضية» دشَّن بحثه بنظرية المعرفة، وأَوْلاها أهمِّية متميِّزة حين جعلها تتصدَّر مسائل الفلسفة الأخرى، وعمل على ترتيب البحث فيها على وَفْق ثلاثة محاورَ متسلسلةٍ منطقيًّا، تبدأ ﺑ «قيمة المعرفة» ويليها «مصدر المعرفة» وتنتهي ﺑ «حدود المعرفة».

ومضافًا إلى تقديم البحث في «نظرية المعرفة» وما يتَّصل بها من مسائل «الإدراكات» على غيرها، فإنَّها احتلَّت مساحةً واسعة من هذا الكتاب؛ إذ انبسطَت على معظم صفحات الجزء الأوَّل وصفحات الجزء الثاني بتمامها، فيما اشتملَت الأجزاء الثلاثة الباقية على كافة المسائل الأخرى. وبذلك يكون «أصول الفلسفة» أوَّل مؤلَّف في الفلسفة الإسلامية يعالج مسألة المعرفة بهذه الكيفية، ويُولِيها هذا القَدْر من التحليل والدراسة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥