الفصل الخامس
منهج البحث الفلسفي عند الطباطبائي
تبلوَرَت في مجموع أعمال الطباطبائي من مؤلَّفات ودروس أصولٌ
منهجيةٌ واضحة، جرى ضبطُ وتدوينُ المسائل الفلسفية في إطارها،
ودأَب على تجسيدها كمعاييرَ وأسسٍ لا يحيد عنها في بحثه الفلسفي،
وبوسعنا القول إن النتائج التي انتهى إليها في آثاره، تُعَد ثمرةً
لتلك الأسس التي تحرَّك عبْرها تفكيره الفلسفي، وهذا لا يعني وجود
الأسس كمعطًى ناجز قبل عملية البحث، وإنما يعني أنها كانت تتوالد
على الدوام في فضاء عملية البحث؛ لأن الإطار المنهجي يتشكَّل
باستمرارٍ مع تطوُّر عملية البحث وامتدادها أفقيًّا ورأسيًّا
بامتداد الموضوع.
وسنُشير بإيجازٍ إلى أبرز هذه الأسس المنهجية للبحث الفلسفي عند
الطباطبائي، وسيتضح لنا أنها تصلُح كمرتكزاتٍ ومنطلقاتٍ أساسية
لصياغة منهجٍ ملائم في دراسة الفلسفة الإسلامية:
(١) الاستناد إلى البرهان في البحث الفلسفي
اعتمد الطباطبائي في بحثه الفلسفي على الأسلوب البرهاني في
عملية الاستدلال،
١ واجتنَب ما لجأ إليه بعض الفلاسفة والباحثين في
الفلسفة الإسلامية من الاستعانة بالشعر والنصوص الصوفية
والعرفانية والعبارات الذوقية، مثلما نلاحظ في تراث الفلسفة
المشرقية بعد ابن رشد، بعد التفاعل الواسع الذي حصل في مدرسة
أصفهان بين المدارس الفلسفية والكلامية والعرفانية.
وقد أوضح الطباطبائي أن البراهين المستعملة في الحكمة ليست
براهينَ لمية، وهي البراهين التي يكون السلوك فيها من العلة
إلى المعلول؛ لأنه لا غير للوجود سوى العدم، فلا علة للوجود
خارج الوجود، وإنما البراهين فيها براهينُ إنِّية تعتمد على
الملازمات العامة التي يُسلك فيها من أحد المتلازمَين
العامَّين إلى الآخر.
٢ بمعنى أنه لا يمكن الاستناد إلى البرهان اللمِّي
في الفلسفة الإلهية؛ لأن موضوع الفلسفة هو الوجود المطلَق
الشامل لكل شيء، وليس هناك علة للوجود غير الوجود. بينما
يُشترط في البرهان اللمِّي أن يكون الحد الأوسط علة لثبوت الحد
الأكبر للحد الأصغر، والحد الأصغر في الفلسفة هو الموجود
المطلَق. والحد الأكبر لا بد أن يرجع إلى الوجود؛ لأن
المحمولات في الفلسفة لا بد أن تكون من سنخ الوجود، من قبيل:
«العلِّية والمعلولية، والوحدة والكثرة، والقوة والفعل». وعلى
هذا يكون الحد الأصغر الذي هو موضوع الفلسفة الوجود المطلَق
الشامل لجميع مراتب الوجود، والمحمولات في الفلسفة تعود إلى
الوجود ولا علة للوجود خارج الوجود؛ فلا مجال للبرهان اللمِّي
في الفلسفة. وتفصيل القول في هذه المسألة خارجٌ عن غرضنا
هنا.
(٢) عدم الخلط بين الإدراكات الحقيقية والاعتبارية
لعل حصول الخلط في البحث الفلسفي بين الكلِّيات والجزئيات،
والماديات والمجرَّدات، والحقائق والاعتباريات، مما يوجب
الاضطراب في تصوير المسائل الفلسفية فضلًا عن التصديق بها، وقد
نشأ من عدم التمييز بين الحقائق والاعتباريات، التباسٌ في
مباحث غير واحد من العلوم العقلية، ولا سيما علم أصول الفقه،
غير أن الطباطبائي كشف النقاب عن هذه المسألة، وتوصَّل إلى
تفسيرٍ محدَّد للفرق بين هذَين النوعَين من الإدراكات، وأكَّد
أن البرهان لا يجري في مورد الاعتباريات، وعلى هذا فهي خارجة
عن البحث الفلسفي.
٣
(٣) التسلسل المنهجي للمسائل وتنظيمها تنظيمًا منطقيًّا
متسقًا
لم تنظَّم المسائل الفلسفية في الكثير من المؤلَّفات
الفلسفية تنظيمًا منهجيًّا متسقًا، يتدرَّج فيه البحث من
الكليات إلى الجزئيات، ومن الخاص إلى العام، ومن المقدِّمات
إلى النتائج، فربما تتقدم مسألة يكون حقها التأخير، وبالعكس قد
تؤخَّر مسألة من حقها التقديم، وربما تأتي مقدَّمة عقيب
نتيجتها وبالعكس. وقد أدَّى هذا الارتباك في نظم المسائل
أحيانًا إلى وقوع التباس وإرباك في فهم المسائل.
غير أن الطباطبائي التزم وبصرامةٍ منهجيةٍ في مؤلَّفاته
الفلسفية مثل «أصول الفلسفة، وبداية الحكمة، ونهاية الحكمة»
بتنضيد المسائل بصورةٍ متدرِّجة يرقى منها الدارس مرقاةً
مرقاة؛ ولذلك عبَّر عنها في كتابَيْه بداية الحكمة ونهاية
الحكمة بالمراحل، فجعل كلًّا منهما على اثنتَي عشرةَ مرحلة،
وكل مرحلة تتوزَّع على فصول. ابتدأ المراحل ببحث المسائل التي
تكون فيها المحمولات (الأحكام) مساوية للموضوع، بمعنى أن موضوع
الفلسفة لما كان هو الوجود، فالمحمولات في هذه المرحلة تساوي
الموضوع، كالخارجية المطلقة والوحدة العامة والشيئية، ثم
تلَتها المراحل التي تكون فيها الأحكام أخصَّ من الموضوع
«الوجود»، بمعنى أنها وما يقابلها تساوي الوجود، كتقسيم الوجود
إلى خارجي وذهني ومستقل ورابط.
٤ ثم انتهى في المرحلة الأخيرة إلى الإلهيات بالمعنى
الأخص أي ما يتعلق بالباري تعالى من إثبات ذاته وصفاته
وأفعاله؛ لأنها الغاية القصوى للبحث في الفلسفة الإلهية،
ومسائلها تبتني على ما يتقرَّر في الأمور العامة أو الأحكام
العامة للوجود.
(٤) التصوير الدقيق للمسائل
طالما نشأَت الإشكالات في الفلسفة من عدم تصوُّر المسائل
تصوُّرًا صحيحًا، فيجري نزاعٌ واسعٌ في البحث الفلسفي إثر ذلك؛
من هنا سعى الباحثون في الفلسفة إلى تحرير محل النزاع، وبيان
ما هو موضوع الخلاف بين الاتجاهات المتعارضة. وترجع الصعوبة في
تصوُّر المسائل إلى إبهام بيان الفلاسفة وشيوع مصطلحاتٍ عديدةٍ
خاصة بهم، تبتعد أحيانًا عن مدلولها اللغوي، مضافًا إلى
الاختلاف بين المدارس ومناهج التفكير لدى الفلاسفة والعرفاء
والمتصوفة والمتكلمين، الذي يجعل مصطلحًا واحدًا في بعض
الحالات يُستعمل لدى كل طائفة بمعنًى لا يتطابق مع مدلوله لدى
الطائفة الأخرى؛ لذا يُقال: إن التصوُّر الصحيح للمسائل
الفلسفية يساوق التصديق بها.
لذلك حرص الطباطبائي على تصوير المسائل تصويرًا دقيقًا وبيان
المصطلحات بوضوح، وربما استعان بتحديد معنى المصطلح بالإشارة
إلى المعاني المختلفة له، كما نلاحظ ذلك في مواردَ عديدة في مؤلَّفاته.
٥
(٥) بيان المسائل بصورةٍ موجزةٍ مكثفة
من الثغرات المنهجية الواضحة في المؤلَّفات الفلسفية،
الاستطراد الواسع والتشعب بتفاصيلَ دقيقة، تنتهي إلى ترهُّل
البحث، وربما اختفاء هيكله الأساسي في تلك المتاهات المعقدة،
وقد نجم عن ذلك تضخُّم هذه المؤلَّفات بنحوٍ يتعذَّر معه على
الباحث الإلمام بمحتوياتها إلا إذا أوقف حياته لذلك، مضافًا
إلى أن بعض المباحث التي تضمُّها تلك المؤلَّفات تُعَد من
المباحث المندثرة الميتة؛ لأنها كانت تبتني على أصولٍ موضوعةٍ
ثبت بطلانها، فلم تعُد هناك حاجةٌ لاستهلاك العمر فيها أو
دراستها إلا بالنسبة للمعنيين بتاريخ العلوم.
لذلك قام الطباطبائي بتأليف كتابَي بداية الحكمة ونهاية
الحكمة، وجعل الأول كالبديل لمنظومة الملا هادي السبزواري،
فيما جعل الثاني كالبديل للأسفار الأربعة لملا صدرا، ويمكن
معرفة أهمية هذا الإنجاز إذا قارنَّا بين نهاية الحكمة
والأسفار، فإن الأخير يقع في تسعة مجلَّدات، بينما تقع نهاية
الحكمة في مجلدٍ واحد لا يتجاوز «٣٣٠» صفحة، وهي أقل من أي
مجلدٍ من مجلدات الأسفار في عدد صفحاتها، أما بداية الحكمة فهي
لا تتجاوز «١٨٠» صفحة. وبوسع الدارس أن يتوفَّر على دراسة
كتابَي الطباطبائي بمدة لا تتجاوز ثلاث سنواتٍ دراسية في
الحوزة العلمية، بينما يحتاج لدراسة الأسفار الأربعة فقط إلى
أكثر من خمسة عشر عامًا، وهي فترةٌ طويلة جدًّا بحسابات الزمن
في نهاية القرن العشرين.
صحيحٌ أن كتابَي بداية الحكمة ونهاية الحكمة لا يشتملان على
تمام المباحث الفلسفية التي بين دفَّتَي مجلَّدات الأسفار
التسعة، لكنَّ هذَين الكتابَين يشتملان على المهم مما يحتاجه
دارسُ الحكمة المتعالية، مع المسائل الجديدة التي ابتكَرها
الطباطبائي.
لقد عمَد الطباطبائي إلى استخدام عباراتٍ مختصرة وجملٍ قصيرة
مكثَّفة في بيان المطالب الفلسفية، واستبعد كل الاستطرادات،
والمسائل الزائدة والثانوية، وحرَص على ذكر المهم والأساسي فقط
من دون أن يتشعَّب في فضولٍ لا يتسع له عمر تلميذ الفلسفة في
هذا العصر؛ فمثلًا اقتصر في «نهاية الحكمة» على بيان برهانٍ
واحد على أصالة الوجود فقط، وهو أسدُّ وأخصَر البراهين، فيما
ذكر ملا صدرا ثمانية أدلة في أحد كتبه الصغيرة على هذه المسألة.
٦
واعتمد الأسلوب ذاته في تدوين «أصول الفلسفة» الذي استوعَب
فيه المهم من مسائل الفلسفة الإسلامية مقارنةً بالفلسفة
الأوروبية الحديثة بكتاب لا يتجاوز مجلدًا صغيرًا، لكن بعد أن
كتب عليه تلميذه مرتضى المطهري هوامشَ توضيحيةً مفصلة، طُبع في
خمسة أجزاءٍ صغيرة، كل واحدٍ منها بحدود مائتَي صفحة.
ومن المعلوم أن هذا الأسلوب الذي اعتمده الطباطبائي في تدوين
مباحث الفلسفة الإسلامية يتواءم مع طريقة تدوين العلوم في هذا
العصر، والتي تقوم على الاختزال والتكثيف، وتستجيب لمتطلَّبات
الدارسين في عصر انفجار المعلومات والتراكم الهائل للمعرفة
البشرية.
(٦) تحرير البحث الفلسفي من الطبيعيات الكلاسيكية
لمَّا كانت الفلسفة تاريخيًّا هي الأصل الذي تتفرَّع عنه
المعارف والفنون، اندرجَت تحتها المعارف العقلية التقليدية
برُمَّتها آنذاك، ومنها الطبيعيات، أو ما يُسمى بالفلسفة
الأخرى، والرياضيات أو ما يُسمى بالفلسفة الوسطى. ومنذ بداية
عصر النهضة في أوروبا واعتماد العلوم الطبيعية على التجربة،
افترقَت العلوم الطبيعية والعلوم البحتة عن الفلسفة القديمة،
وسارت في قنواتها الخاصة، وأحرزَت نجاحاتٍ ومكاسبَ هائلةً في
مضمار اكتشاف القوانين الطبيعية وتسخيرها لخدمة الإنسان،
وبرهنَت بما لا مزيد عليه على بطلان بل وخرافة معظم العلوم
الكلاسيكية، في الهيئة والطبيعيات الموروثة من الإغريق. لكن
المؤلَّفات المعروفة للفلاسفة المسلمين مثل «الشفاء» لابن
سينا، ومن تأخَّر عنه، حتى المنظومة للسبزواري المؤلَّفة في
القرن الثالث عشر الهجري، تم تصنيفها بالاعتماد على العلوم
الطبيعية الإغريقية، وأُدرجَت هذه العلوم في قسم الطبيعيات
منها، مما كان يتحتَّم على تلميذ الفلسفة أن يدرس تلك العلوم
عند دراسته للكتب المذكورة، إلا أن الطباطبائي أزاح الطبيعيات
القديمة عن مؤلَّفاته الفلسفية، بل واستبعدها كأصولٍ موضوعة
تستند إليها بعض المسائل الفلسفية، وأشار إلى فسادها
وانفساخها، فمثلًا يكتب «إن القول بالأفلاك والأجرام غير
القابلة للتغيُّر وغير ذلك، كانت أصولًا موضوعة من الهيئة
والطبيعيات القديمتَين، وقد انفسخَت اليومَ هذه الآراء.»
٧ كما استعان بمعطَيات العلم الحديث، واعتبره أصلًا
موضوعًا حيثما لزم ذلك؛ فمثلًا يكتب في معرض رفضه وعدم قبوله
لآراء القدماء في بيان حقيقة الجسم «وقد اكتشف علماء الطبيعة
أخيرًا بعد تجاربَ دقيقةٍ فنية أن الأجسام مؤلَّفة من أجزاءٍ
ذرِّية لا تخلو من جِرم، بينها من الفواصل أضعاف ما لأجرامها
من الامتداد، فلينطبق هذا القول على ما اكتشفوه من الجُسَيمات
الذرية التي هي مبادئ تكوُّن الأجسام المحسوسة، وليكن وجود
الجسم بهذا المعنى أصلًا موضوعًا لنا.»
٨
وبذلك حرَّر الفلسفة الإسلامية من قيدٍ أبدي، ظلَّت ترزح فيه
أحقابًا متمادية، وحرَّر التفكير الفلسفي من متاهاتٍ لا
متناهية استنزفَت منه جهودًا عظيمة لا طائل من ورائها. وإن كان
فضُّ الاشتباك بصورةٍ تامة بين الفلسفة الإسلامية والطبيعيات
والعلوم الكلاسيكية يتطلَّب أعمالًا مستأنفة تُواصِل ما أنجزه
الطباطبائي.
(٧) تصحيح نَسب المسائل الفلسفية واكتشاف إبداع الفلسفة
الإسلامية
من الثغرات التي يُمنى بها البحث الفلسفي، الأخطاء الفاحشة
في تاريخ المسائل الفلسفية، والاشتباه في بيان نَسبها واكتشاف
جذورها، فنُسبَت غير واحدة من المسائل إلى اليونان بينما لم
يرِد لها ذكرٌ في أي أثَرٍ من آثار الفلاسفة اليونان، وإنما
تأخَّر ظهورها أكثر من ألف عام عن إغلاق أكاديمية أثينا، وهكذا
دأب بعضُهم لنسبة بعض المسائل خطأً إلى الفهلويين «حكماء إيران
القدماء»، مثلما فعل السبزواري في منظومته حين نسب القول بوحدة
الوجود التشكيكية إليهم، بقوله:
الفهلويون الوجودُ عندهم
حقيقةٌ ذاتُ تشكُّكٍ تعُم
بينما لم نعثر على أي أثرٍ يحكي لنا عن آراء الفهلويين.
٩ كذلك نسب السبزواري خطأً القول بأصالة الوجود إلى
المشَّائين القدماء، بينما لم يتبلور هذا المصطلح في الفلسفة
الإسلامية إلا في القرنِ الحاديَ عشرَ الهجري، في مدرسة أصفهان الفلسفية.
١٠ وهذا ما دعا المطهري للتعبير عن السبزواري بالمصلح
في الحقل العلمي؛ لأنه حيثما وجد رأيًا في التراث الفلسفي
المتأخر سعى للتوفيق بينه وبين آراء السابقين، وتوغَّل به نحو
الماضي، مشيرًا إلى أن هذا الرأي يعود إلى حكماء الإغريق أو
الفهلويين مثلًا،
١١ «ولهذا فإنه إذا أراد البحث في تاريخ الفلسفة
فأقواله ليست ذات قيمة.»
١٢
ولم ينفرد السبزواري بذلك، وإن كانت الأخطاء في نسبة المسائل
إلى غير أصحابها لديه أكثر من غيره لاهتمامه بالإشارة إلى
تاريخها، وإنما نشاهد في مؤلَّفات الفلاسفة أحيانًا نسبة
المسائل إلى آخرين أبعد عصرًا من عصر ظهورها، وربما لا يعود
ذلك إلى الخطأ في تاريخ المسألة فقط، بل هناك عاملٌ آخر أدَّى
إلى ذلك، وهو خشية أصحاب الآراء الجديدة من ردود الأفعال
العنيفة من معاصريهم، ممن يخضَعون في تفكيرهم لسلطة السلف
ويرفضون كل رأيٍ جديد، كما حصل مع صدر الدين الشيرازي وغيره،
وهذا ما دعا بعضَ الفلاسفة للارتداد بإبداعاتهم الفلسفية إلى
عصورٍ لا تنتمي إليها.
وقد نجم عن ذلك اختفاء ابتكار العقل الفلسفي الإسلامي وترديد
آراء بعض الباحثين الغربيين التي تزعم أن الفلسفة الإسلامية
ليست هي إلا فلسفةً يونانية مدوَّنة بحروفٍ عربية.
١٣ هذه المقولة التي أُعيد إنتاجُها غير مرة في الفكر
العربي الحديث والمعاصر.
١٤
في هذا الضوء تتجلى أهمية العمل الذي نهض به الطباطبائي، لما
اكتشف أن عدد المسائل الفلسفية التي ورثَتْها الفلسفة
الإسلامية من مدرستَي أثينا والإسكندرية لا تتجاوز مائتي مسألة،
١٥ بينما بلغ رصيد الفلسفة الإسلامية في مدرستها
الأخيرة «الحكمة المتعالية» ما يناهز سبعمائة مسألة، وهذا
التفاوت الذي يبلغ خمسمائة مسألة ذو دلالةٍ مهمةٍ في تقويم روح
الإبداع الفلسفي في الحضارة الإسلامية، ولا سيما إذا لاحظنا أن
التطوير والتوضيح امتد ليشمل حتى المائتي مسألة الموروثة، فلم
تبقَ هذه المسائل على الصورة التي وصلَت عليها للمسلمين، وإنما
أُعيد بناء معظمها في ضوء منظومة التفكير الفلسفي الإسلامي،
بينما اتشَح سواها برداءٍ آخر، فيما انحصر ما بقي على صورته
القديمة منها في مسائلَ محدودة.
١٦
كما أفصح الطباطبائي عن أن المسائل الفلسفية التي جاءت من
الأقدمين، اتسمَت بانفصالها، الواحدة عن الأخرى دون أن يكون
ثمَّة رابط بينها، بالإضافة إلى أنها وجِّهَت توجيهًا فلسفيًّا
غير منظَّم، بينما اكتسبَت هذه المسائل في الدور الأخير
للفلسفة الإسلامية نظامًا رياضيًّا؛ بحيث ارتبطَت فيما بينها،
وترتَّبَت بانتظام.
(٨) الكشف عن المناهل الأصيلة للفلسفة الإسلامية
لم يلتفت بعض مؤرخي الفلسفة الإسلامية إلى المناهل الإسلامية
التي استقت منها هذه الفلسفة، فيما يتكتَّم آخرون على هذه
المصادر؛ من هنا تُنسب الفلسفة بل تمام مظاهر المنحى العقلي في
التفكير الإسلامي، إلى منابع خارج فضاء الحضارة الإسلامية،
وكأن القرآن الكريم كتاب لا صلة له بالعقل، ولم يميِّز هؤلاء
بين نشأة المنحى العقلي في التفكير الإسلامي وتطوُّره لاحقًا؛
فمما لا شك فيه أن نمُو واتساع المعقول الإسلامي بعد ولادته
تأثَّر بوضوح باستلهام الموروث المعرفي لحضاراتٍ أخرى، بَيْد
أنه نشأ وترعرع في فضاء البيئة الإسلامية، وتغذَّى من مناهلها
الخاصة المتمثِّلة بالكتاب والسنة.
١٧
وقد اهتم الطباطبائي بمسألة إماطة اللثام عن التطابق بين
الدين الإسلامي والحكمة الإلهية؛ حيثُ نجد هذه المسألة منبثة
في مؤلَّفاته بأَسْرها، بل أفرد لها أكثر من بحثٍ كما سنشير
إلى ذلك في النقطة التالية، وللتدليل على ذلك نجده يقرِّر
بوضوح لا لبس فيه «إن الدين لا يدعو الإنسان إلا إلى نَيل
الحقائق الإلهية بشعوره الاستدلالي الذي جُهِّز به، وهذا هو
بالذَّات ما يعبَّر عنه ﺑ «الفلسفة الإلهية»، فكيف صَحَّ بعد
هذا، الفصلُ بين الدين الإلهي وبين الفلسفة الإلهية، مع أنهما
شيءٌ واحد لا تعدُّد فيه ولا اختلاف.»
١٨
(٩) استلهام الفلسفة الإلهية من الكتاب والسنة
في محاولة لتحرير الحكمة الإلهية من التهم الذاهبة إلى أن
الفلسفة الإسلامية هي مجموعةُ مفاهيم ورؤًى مستنسخة من بعض
المقولات الوافدة من خارج البيئة الإسلامية، وللإفصاح عن عناصر
الحكمة الإلهية في الكتاب الكريم والسنة الشريفة ألَّف
الطباطبائي رسالة بعنوان «علي والفلسفة الإلهية»، ورسالة ثانية
بعنوان «الولاية»، مضافًا إلى الأبحاث الواسعة التي اشتمل
عليها كتابه «الميزان في تفسير القرآن»، والبحوث التي ضمَّتها
مؤلَّفاته الأخرى، مثل بحث «التفكير الفلسفي في نصوص أهل البيت».
١٩ والذي هو عبارةٌ عن رسالةٍ بعثَها للمستشرق
الفرنسي هنري كوربان، جوابًا على خمسة أسئلة سأله بها
كوربان.
وقد انصبَّت جهودُه في كل هذه المحاولات على بيان أن أمثلة
البحث الفلسفي منبثة في الكثير من الآيات القرآنية التي تستخدم
أسلوب الاستدلال العقلي والاحتجاج البرهاني، وكذا الحال
بالنسبة للسُّنَّة الشريفة؛ فهناك عددٌ من الأخبار تناولَت
المبدأ والمعاد، وهي تنطوي على التفكير الفلسفي ومنهجه.
ويمكِن القول إن كتاب «نهج البلاغة» الذي يضُم بين دفتَيه
مجموعةَ خُطب الإمام علي بن أبي طالب، عليه السلام، وتعاليمه
وكتبه ووصاياه، هو أول كتابٍ بعد القرآن الكريم استقى منه
المسلمون الأوائل المسائل الفلسفية؛ إذ كان الإمام علي، عليه
السلام، أول من تناول مسألة التوحيد وما يتصل بها من صفات
الباري، والحدوث والقدم، والوحدة والكثرة، والبساطة والتركيب،
وما إليها من قضايا فلسفية ببيانٍ دقيق وبراهينَ واضحة، بل
إنه، عليه السلام — حسب تعبير الطباطبائي — «أول من برهَن
واستدَل في الفلسفة الإلهية في هذه الأمة، فله الفضلُ والمنَّة
على كل مَن سواه من العلماء والباحثين في هذا العلم؛ فإنه هو
الذي فتح لهم باب الاستدلال البرهاني في المعارف الإلهية.»
٢٠
ويُمكِن معاينة بحث «التفكير الفلسفي في نصوص أهل البيت»
الذي انتقى منه الطباطبائي عشرين نصًّا من الأخبار المأثورة عن
الأئمة، عليهم السلام، تتحدث عن مسائل ما وراء الطبيعة
«الميتافيزيقيا»، وأشار إلى أن التعمُّق والتدبُّر في مضامينها
بإمعانٍ يُوقِفُنا على مسائلَ أساسية في الفلسفة الإسلامية (من
قبيل: مسألة أصالة الوجود، الوحدة السَّنْخية للوجود، في أن
الوجود حقيقةٌ واحدةٌ مشكِّكة، انقسام الوجود إلى مطلَق
ومحدود، وانقسامه إلى ذهنيٍّ وخارجي، وإلى مستقلٍّ ورابط،
مسألة الوجوب والإِمكان والامتناع، مسألة اقتران الجوهر
والماهية بالوجود المحدود، مسألة الوحدة والكثرة، مسألة العلة
والمعلول، مسألة الحدوث والقدم، مسألة القوة والفعل، ومسألة
العلم الحصولي والعلم الحضوري)،
٢١ فهذه المسائل التي تؤلِّف أمَّهات الفلسفة
الإسلامية في مرحلتها الأخيرة يمكن استيحاؤها بمجموعها من
النصوص، وبذلك استطاع الطباطبائي استلهامَ الفلسفة الإسلامية
من القرآن الكريم والسنة الشريفة، وكان ذلك أحد أهم سمات
وملامح منهج البحث الفلسفي في آثار الطباطبائي خاصةً في تفسيره
الميزان.
(١٠) اعتماد منهج البحث المقارن
اعتمد الطباطبائي في بحثه الفلسفي على بيان المواقف
المتنوِّعة لمدارس الفلسفة الإسلامية في المسألة المبحوثة،
والطباطبائي وإن كان من أتباع مدرسة الحكمة المتعالية لصدر
الدين الشيرازي، غير أنه لا يقتصر على بيان موقف هذه المدرسة
وحُججها، وإنما يذكُر أيضًا موقف المدرسة المشَّائية والإشراقية،
٢٢ وربما يشير إلى آراء المتكلمين أيضًا بمختلف
شِيَعهم وفِرَقهم، إن كانت المسألة من موارد الخلاف المهمة بين
الفلاسفة والمتكلمين، مثلما نلاحظ في مباحث الإلهيات بالمعنى
الأخص، وربما يتسع أفق البحث فيذكُر عشرةَ آراءٍ في مسألةٍ
واحدةٍ ويمحِّصها وينقُضها، ثم يصوغ الرأي الصواب.
٢٣
ومع أن الطباطبائي صَدْرائيُّ المبنى إلا أنه سِينَوي
المشرب؛ فهو لا يتقيد بأقوال صدر الدين الشيرازي حرفيًّا،
وإنما يقبلها إن انتهى إليها البرهان، فيما يرفضُها ويصوغ
رأيًا آخر إن لم يُسعِفها البرهان؛ فهو في قبول الآراء ورفضها
لا يعتمد الذوق وإنما يستند إلى البرهان كما هو أسلوب
المشَّائين.
كذلك اهتم الطباطبائي بمقارنة الفلسفة الإسلامية بالفلسفة
الأوروبية الحديثة، والكشف عن موارد الالتقاء والافتراق في
كتابه «أصول الفلسفة».
(١١) تجسير العلاقة بين الفلسفة الشرقية والغربية
ظهرَت أول محاولة في الشرق الإسلامي للتعرُّف على الفلسفة
الأوروبية الحديثة، ومقارنتها بالفلسفة الإسلامية، في مدرسة
طهران الفلسفية في القرن الثالث عشر الهجري، على يد الفيلسوف
علي المدرس (١٢٣٤–١٣٠٧ﻫ)،
٢٤ الذي استطاع أن يلتقي بفلاسفة أوروبا بعد عصر
النهضة، ويعقد مقارنةً بين الفلسفة المشرقية الصدرائية
والفلسفة الأوروبية الكانطية.
٢٥
وفي مطلع القرن الرابع عشر الهجري ألَّف جمال الدين الأفغاني
مدة إقامته بالهند رسالته في «الرد على الدهريين»
٢٦ التي نقد فيها المذهب الطبيعي الذي انتشر بين
النخبة المسلمة في الهند، وهذا العمل يشير إلى الفلسفة
الأوروبية الحديثة، ويسعى إلى نقض بعض اتجاهاتها، بَيْد أنه لا
يتكئ على براهينَ فلسفيةٍ محكمة، بل لا يعبِّر عن عملٍ متكامل
في التعرُّف على تلك الاتجاهات.
وبعد هذه الرسالة كُتبَت عدة مؤلَّفاتٍ لا تخلو من إشاراتٍ
ولمحاتٍ للتعرُّف على الفلسفة الغربية، لعل أوفاها ما اشتملَت
عليه أعمال محمد إقبال، غير أن الإنجاز الأهم الذي عبَّر عن
محاولةٍ متكاملة وناضجة في التعرُّف على الفلسفة الأوروبية
الحديثة وتحليل مقولاتها وتصنيف أفكارها، واكتشاف مواطن لقائها
وافتراقها مع الفلسفة الشرقية، هو إنجاز الطباطبائي الذي تجلى
بوضوحٍ في كتابه «أصول الفلسفة»، وانبث في مواضعَ عديدةٍ من
مؤلَّفاته الأخرى، من قبيل تفسيره «الميزان» وغيره.
تجدر الإشارة إلى شيوع تصوُّر يحسب الفلسفة الأوروبية بسائر
مدارسها واتجاهاتها تتقاطع تقاطعًا تامًّا مع الفلسفة
الإسلامية، باعتبار أن كلًّا منهما تحرَّكَت في مسارها الخاص،
واحتضنَتها بيئةٌ مغايرة للأخرى، وهذا التصوُّر، وإن كان يمكن
قبوله بنحوٍ إجمالي، لكن الدراسة التحليلية المتأنية تكشف لنا
عن محطات لقاءٍ في غير واحدة من المسائل الأساسية؛ فمثلما
تُعتبر الفلسفة الإسلامية فلسفة واقعية فإن فلاسفةً كثيرين في
أوروبا يتفقون مع الفلسفة الإسلامية بالإيمان بالواقعية، وكما
أن الفلسفة الإسلامية فلسفةٌ عقلية كذلك حفل تاريخ الفلسفة
الأوروبية الحديثة بفلاسفةٍ عظماء من أنصار المذهب العقلي، مثل ديكارت.
٢٧ وإن كانت نظرات هؤلاء ومقولاتهم التفصيلية لا
تتطابق تمامًا مع مقولات الفلسفة الإسلامية، إلا أن هذا
الاختلاف يماثل الاختلاف في الرؤى بين فلاسفة المدرسة الواحدة،
فضلًا عن الاختلاف بين المدارس والاتجاهات المتعددة من داخل
الفلسفة الإسلامية.
إن تفحُّص «أصول الفلسفة» وما حفلَت به آثار الطباطبائي
الأخرى من إشاراتٍ للفلسفة الأوروبية يؤكِّد لنا أن الطباطبائي
لا يهدف إلى نقد الفلسفة الأوروبية المادية فحسب، وإنما يعمل
على بناء نظامٍ فلسفي متين عبْر توظيف معطيات الفلسفة
الإسلامية، وإعادة إنتاجها، بمزاوجتها بالعناصر الصحيحة في
الفلسفة الأوروبية.
٢٨
(١٢) الدقة والإيجاز والوضوح في التدريس
يعزي بعضُ تلامذة الطباطبائي التوفيق والنجاح المتميز الذي
أحرزه أستاذه في الحوزة العلمية إلى ثلاثة عوامل، ثالثها:
طريقته النموذجية في التدريس، فإنه كان يعلِّم الفلسفة بأسلوبٍ
منتظم يبتعد عن الحشو والاستطراد، يبدأ الدرس بقراءة جملة من
الكتاب، ويوضِّح هذه الجملة بعباراتٍ موجزةٍ واضحة، ثم ينتقل
إلى الجملة التي تليها، وهكذا حتى نهاية الدرس، بهذه الطريقة
كان يدرِّس الفلسفة، لا سيما كتاب «الأسفار» الذي أحيا بتدريسه
فلسفة صدر الدين الشيرازي.
٢٩
فيما يصف طريقتَه تلميذُه الآخر بأنها كانت تتسم بالنظم
الرياضي في طرح المسائل وبيانها؛ فهو لا يبدأ ببيان القسم
الثاني ما لم يفرغ من القسم الأول، كما لا يبحث مسألةً من
القسم الأول في القسم الثاني، ولا يجعل المسألة الفرعية
مستقلةً عن أصلها وإنما يُدرِجها بالبحث كفرعٍ لذلك الأصل.
٣٠