الطباطبائي مؤسس حلقة قم الفلسفية
شهد العقد الثالث من القرن العشرين ولادة حلقتَين للبحث الفلسفي الجماعي في أوروبا، ظهرَت الأولى كحلقةٍ للمناقشة غيرِ رسمية بجامعة (فيِنَّا)، وأطلقَت على نفسها (جماعة فيِنَّا)، كان يتزعمها موريس شليك (١٨٨٢–١٩٣٦م) أستاذ كرسي الدراسات الاستقرائية في تلك الجامعة، ومن أعضائها، البارزين رودلف كارناب (١٨٩١–١٩٧٠م) وكلاهما تعلَّم تعليمًا رياضيًّا في بداية الأمر، وكارل بوبر (١٩٠٢–١٩٩١م). وكان يوحِّد هذه الجماعة همٌّ مشترك، وهو السعي إلى تأسيس الفلسفة العلمية أو التنظير علميًّا للفلسفة، وقد أُطلِق عام (١٩٣١م) اسم «الوضعية المنطقية» على الأفكار الفلسفية الصادرة عنها. وبعد اشتهار الوضعية المنطقية عالميًّا انفرط عقد جماعة «فيِنَّا» في مطلع الثلاثينيات.
وفي عام (١٩٢٣م) نشأَت «مدرسة فرانكفورت» حول معهد البحث الاجتماعي الذي تأسس عام (١٩٢٣م)، وكان مؤسِّسوها أربعة من الفلاسفة وعلماء الاجتماع، هم: ماكس هوركهايمر (١٨٥٩–١٩٧٣م)، وأدورنو (١٩٠٣–١٩٦٩م)، وماركوز (١٨٩٨–١٩٧٩م)، وهابرماس (١٩٢٩م)، وكانت هذه الجماعة تعمل كفريقٍ مشترك أيضًا، حتى انفرط عقدها.
وقد كان لهاتَين الجماعتَين خصوصًا الأولى منهما دويٌّ واسع في الغرب، تردَّدَت أصداؤه في ديارنا عبْر المترجمات، وكان ملفتًا للنظر أن تشترك جماعة في صياغة مذهبٍ فلسفي؛ لأن المذاهب الفلسفية يُبدعها فيلسوفُ فرد ويتم بناؤها على يد أتباعه عادة.
وكان الطباطبائي يقرِّر المسألة، في هذه الحلقة، ثم يجري حوار يتبادل فيه الحضور من تلامذته الآراء والإشكالات والاستفهامات بين يدَي أستاذهم، بعد ذلك تدوَّن المسألة.
وقد دأب الطباطبائي كعادته، ببيان المطالب بنحوٍ موجزٍ مكثف، يبتعد ما أمكنه عن الإبهام وعدم الوضوح، كي تكون هذه المسائل في متناول أوسع شريحة من القُراء، واقتصر على بيان أمهات المسائل الفلسفية، وأعرض عن ذكر الأدلة والبراهين العديدة لكل مسألة، واكتفى بما هو أسهل البراهين وأبسطها لإثبات المدَّعى. وعهد إلى تلميذه مرتضى المطهري بكتابة هوامشَ توضيحية على الكتاب.
يضم الكتاب أربعَ عشرةَ مقالة، وقد صدر بعنوان «أصول الفلسفة والمذهب الواقعي» في خمسة أجزاءٍ صغيرة، في فتراتٍ متباعدة بعد صدور الجزء الأول سنة (١٩٥٢م).
ويُعتبر صدور الجزء الأول من «أصول الفلسفة» في مطلع العقد السادس من القرن العشرين أعمق تحدٍّ فلسفي واجهَته المادية الديالكتيكية؛ لذلك عكف المعنيون بالشأن الفلسفي من الماركسيين الإيرانيين على مراجعة هذا الكتاب، فأدهشَتهم البراهين الدامغة التي ساقها الطباطبائي في نقض الأسس الفلسفية للمادية الديالكتيكية، وبهرتهم الامانة والدقة العلمية في بيان هذه الأسس، ومنذ ذلك الحين لم يجرُؤْ أحدٌ منهم على منازلة الطباطبائي.
غير أن هذا الأثر الخالد ظل منسيًّا مدة نصف قرنٍ تقريبًا منذ تأليفه إلى اليوم، ولم يسمع به سوى القلة خارج الحوزات العلمية، بينما تكتسب بعض الآثار الثانوية التي ربما لا تنطوي على أي إبداعٍ شهرةً واسعة، بفعل ما تقوم به أجهزة الدعاية. وهذا هو قدَر الأمة إذا تخلَّفَت فإنها تُصاب بتبلُّد رؤيتها وانشطار وعيها، فلا تقدر على تشخيص المبدعين من أبنائها، وتدَع منجَزاتِها مهملةً على رفوف المكتبات.
كانت هذه لمحةً مقتضبةً عن حلقة قم الفلسفية، أتينا فيها على الإشارة لأبرز مكتسباتها، ولم يكن غرضنا بيان تاريخها وتمام آثارها ومنجزاتها؛ لأن ذلك يتطلب عملًا مستأنفًا مفصَّلًا يخرج عن هدف هذا البحث، وإنما أردنا أن نلفِت النظر إلى أن هذه الحلقة تمثِّل أول حلقةٍ منتظمة للبحث الفلسفي تُولد في ديارنا في العصر الحديث، وتمارس نشاطها بصمت، من دون أن يدريَ أحدٌ بإنجازها المميز في إعادة بناء الفلسفة الإسلامية، فيما يسعى أساتذة الفلسفة في جامعاتنا للتعرُّف على كل شاردة وواردة عن الاتجاهات الفلسفية الراهنة في الغرب وموضات الفكر الأوروبي المعاصر، ويتبارى أنصاف المثقَّفين في بلادنا بالتباهي بترديد أسماء الفلاسفة الغربيين، والتفاخُر بذكر مصطلحاتهم والبيان المشوَّه المنقوص لآرائهم.