الإبداع الفلسفي للعلامة الطباطبائي
ربما يحسب بعض الباحثين الجهود الفلسفية للطباطبائي أنها ليست إلَّا شروحًا وهوامش على مقولات وآراء مدرسة الحكمة المتعالية، تلك المدرسة التي صاغ أسسها صدر الدين الشيرازي عبْر دمج مجموعة عناصر استقاها من الفلسفة المشَّائية والإشراقية والحكمة العرفانية وطرائق المتكلِّمين، وسكبها في بوتقةٍ واحدة، وأشاد منها منظومته الفلسفية المعروفة. غير أنَّ دراسة الآثار الفلسفية للطباطبائي تدلِّل على أنَّه ليس مجرَّد شارح لأفكار ملا صدرا؛ فمع أنَّ آثار الطباطبائي تنخرط في سياق مدرسة الحكمة المتعالية إلَّا أنَّه فيلسوفٌ تبلورَت آراؤه وإبداعاته الفلسفية الخاصة في نسق هذه المدرسة، كما هي آراء أيِّ فيلسوفٍ آخر ينتمي لإحدى المدارس الفلسفية، ويواصل التأسيس والإبداع في إطار نظامها الفلسفي.
ولعل مراجعةً عاجلة لآثار الطباطبائي تكشف لنا عن تجلِّي سمات الإبداع الفلسفي فيها، والذي يضعه في موقع الفلاسفة الكبار الذين ساهموا في إحياء وتجديد الفلسفة الإسلامية، ووصلها بالعصر ورهاناته المعرفية.
وفيما يلي إشاراتٌ موجَزة إلى أمثلة من تلك الإبداعات:
(أ) تقرير برهان الصدِّيقِين ببيانٍ جديد
أما تقرير صدر المتألهين لبرهان الصدِّيقِين فإنه يبتني على ثلاث مقدمات وهي:
-
(١)
إثبات أصالة الوجود.
-
(٢)
إثبات الوحدة التشكيكية لحقيقة الوجود.
-
(٣)
إثبات بساطة الوجود.
وليس غرضنا الخوض في تفاصيل بيان ملَّا صدرا لهذا البرهان، غير أن ذلك لا يمنعنا من التنويه بأن الصياغة الجديدة لبرهان الصدِّيقِين ألبسَتْه ثوبًا آخر، وارتقت به نحو أفقٍ جديد؛ فبعد أن كان السلوك في هذا البرهان يمُر عبْر مفهوم الوجود لدى ابن سينا تحرَّك لدى ملَّا صدرا عبْر حقيقة الوجود، وبعد أن كان المقسم هو مفهوم الوجود الشامل للواجب وللماهيَّات الممكِنة الموجودة، في فلسفة ابن سينا، أضحى المقسم حقيقة الوجود الشامل لمراتبه بما فيها أعلى المراتب، في الحكمة المتعالية، ولأنَّ الحكمة المتعالية لم تستند إلى الإمكان الماهوي واعتمدَت الإمكان الفقري استغنَت عن الحاجة إلى إبطال الدور والتسلسل في هذا البرهان، بخلاف المدرسة المشَّائية التي استندَت إلى الإمكان الماهوي فلزمها إبطال الدور والتسلسل. مضافًا إلى أن برهان الأخيرة اقتصر على إثبات ذات البارئ فقط، بينما شمل برهان الحكمة المتعالية إثبات وحدانيَّته تعالى فضلًا عن وجوده.
لكن النقلة القصوى في تقرير برهان الصدِّيقِين تحقَّقَت على يد الطباطبائي، الذي أزاح المقدمات الثلاث في تقرير ملَّا صدرا، ولم يستند إلى أيةٍ واحدةٍ منها، فأصبحَت مسألة إثبات الباري تعالى هي المسألة الأولى في تسلسل مسائل الحكمة الإلهية لديه، بعد الفراغ عن نفي السفسطة وإثبات الواقعية؛ ذلك أن الفلسفة تبدأ حيثُ تُنفى السفسطة، بينما جاءت مسألة إثبات الباري بعد الفراغ عن إثبات أصالة الوجود ووحدته وبساطته في برهان ملَّا صدرا، فوقعَت في المرتبة الرابعة، فيما وقعَت في المرتبة الثانية بعد إثبات أصالة الوجود في بيان السبزواري، فالمسألة الأولى من مسائل الفلسفة هي أصالة الوجود، والتي يترتَّب على القول بها برهان الصدِّيقين.
(ب) التفكيك بين الإدراكات الحقيقية والاعتبارية
لكنَّ الطباطبائي حاول أن يضع حدًّا لهذه الفوضى العقلية، بتفكيكه بين هذَين النوعَين من الإدراكات، وتحديد هوية كلٍّ منهما وحدوده وحقله الخاص، ونوع المعارف والعلوم التي تعتمده في قوانينها وأحكامها ومفهوماتها.
(ﺟ) استنتاج مجموعة ثمرات من القول بالحركة الجوهرية
-
(١)
اكتشاف بُعدٍ رابع للجسم غير الطول والعرض والعمق يتمثَّل بالزمان؛ فقد كتب الطباطبائي في تعليقته على الأسفار: إن للجسم «أربعة أبعاد؛ الطول والعرض والعمق والزمان.»٢٢
-
(٢)
اكتشاف الحدوث الزماني لعالم المادة والطبيعة، وامتناع القِدم الزماني لعالم المادة، فإنه مضافًا للحدوث الذاتي فإن «لعالم المادة والطبيعة حدوثًا آخر يخصه وهو الحدوث الزماني.»٢٣
-
(٣)
الكشف عن تحقُّق الحركة في الحركة؛ لأن العرض لمَّا كان من مراتب الجوهر، والجوهر متحرك بذاته، فلا بد أن تعمَّ الحركة سائر المقولات العرضية، و«تكون جميعًا متحرِّكة بحركة موضوعها الجوهري سيَّالة بسيلانه، وإن كنا نشاهدها ثابتةً واقعةً ساكنة كموضوعها، فالجواهر المادية متحركة سيَّالة في جوهريتها مع جميع ما لها من الأعراض المقولية كائنة ما كانت، وإن كانت النِّسَب بينها أنفسها ثابتةً غير متغيرة. والتأمُّل الكافي يرشدك إلى أن لازم ما تقدَّم هو جعل هذه الحركات المحسوسة الواقعية في مقولة الكيف والكم والوضع والأين المبحوث عنها في مباحث الحركة من قبيل الحركة في الحركة.»٢٤
- (٤)
- (٥)
-
(٦)
بحث مسألة الحركة في مباحث الحكمة الإلهية «الفلسفة الأولى» باعتبار الحركة نحو وجود للشيء المتحرك، وهي مرتبة من مراتب الوجود، خلافًا لما درج عليه الباحثون في الفلسفة القديمة، الذين بحثوا الحركة في مباحث الطبيعيات «الفلسفة الدنيا» باعتبارها من الأحكام العامَّة للجسم.٢٩ وقد ترتَّب على نقل مسألة الحركة للفلسفة الأولى عدَّة نتائج.٣٠
-
(٧)
النفس جسمانية الحدوث روحانية البقاء؛ أي إن الجسم والروح مرتبتان لوجودٍ واحد؛ ذلك أنَّ الجسم لما كان متحركًا بالحركة الجوهرية، والحركة دائمًا تتَّجه نحو الكمال والتحرُّر من النقص؛ أي نحو التجرُّد، فإن المادَّة المتغيِّرة المتحرِّكة تتبدَّل إلى وجودٍ مجرَّدٍ ثابتٍ هو الروح.
لقد أماط الطباطبائي اللثام عن الصلة العميقة بين حدوث النفس والحركة الجوهرية للبدن،٣١ وحدَّد بوضوحٍ هذه المسألة التي تُعتَبر إحدى أهم نتائج القول بالحركة الجوهرية. - (٨)
-
(٩)
البرهنة على أن موضوع الحركة الجوهرية نفس الحركة؛ فالحركة هي حركة وهي متحرِّكة في نفسها؛ لأن موضوع الحركة هي الذات التي تقوم بها الحركة، «والحركة الجوهرية لما كانت ذاتًا جوهرية سيَّالة، كانت قائمةً بذاتها موجودةً لنفسها.»٣٤
(د) تنظيم مباحث «نظرية المعرفة» في الفلسفة الإسلامية
ولعلَّ تشتُّت المواضع التي بُحثَت فيها مسألة المعرفة في التراث الفلسفي الإسلامي وعدم انتظامها في نسقٍ محدَّد يعود إلى أنَّ محور البحث أو موضوع البحث — حسب تعبير القدماء — في الفلسفة الإسلامية هو الوجود، والبحث فيها يدور حول الأحوال العامَّة للوجود؛ أي التي لا تختصُّ بموجودٍ خاص، وعلى هذا جرى بحث مسائل المعرفة والإدراك في سياق مباحث تقسيم الوجود إلى خارجي وذهني، أو أحكام الوجود والماهية المختلفة.
بينما احتلَّت مسألة المعرفة في الفلسفة الأوروبية الحديثة موقعًا متميزًا، وتحرَّرَت بالتدريج من مسارها التقليدي في أزمنة هذه الفلسفة السالفة، ثم ما لبثَت أن صارت هي محور البحث الفلسفي لدى الاتجاهات الفلسفية المتأخِّرة في أوروبا، وكان لهذا المنحى الذي اتخذته مسألة المعرفة في التفكير الفلسفي الكثير من الآثار الحاسمة في تطوُّر العلوم الطبيعية والإنسانية في الغرب الحديث.
في هذا الضوء نستطيع أن نتعرَّف على الإنجاز المهم الذي نهض به الطباطبائي، لمَّا عمل على صياغة منظومةٍ متَّسقة منطقيًّا لمباحث المعرفة؛ فقد دشَّن كتابه «أصول الفلسفة» ببحث نظرية المعرفة، بعد الفراغ من تحديد معنى الفلسفة وحدودها، واستأثرَت نظرية المعرفة بثلاث مقالات من مجموعة أربع مقالات اشتمل عليها الجزء الأول من هذا الكتاب، فيما استوعبَت مباحثها الجزء الثاني بتمامه، وانتظمَت هذه المباحث بطريقةٍ منطقيةٍ محكمة، فجعل بحث «قيمة المعرفة» في الصدارة، وأردفه ﺑ «مصدر المعرفة» ثم ختم هذه المباحث ﺑ «حدود المعرفة».
(ﻫ) إبداعات أخرى
من هنا يمكن القول: إنَّ جهود الطباطبائي الواسعة انتزعَت الفلسفة الإسلامية من كهوفها وتوغَّلَت بها في عمقِ هموم العصر وإشكالياته العقلية، إلَّا أنَّ هذه الجهود تظلُّ خطوة من الخطوات الرائدة على الطريق الطويل، فينبغي أن يواصل أساتذة الفلسفة الإسلامية المسارَ النقديَّ التأصيلي الاجتهادي الذي افتتَحه الطباطبائي في العصر الراهن، ولا يكرِّروا الجهود فيما فرغ منه الطباطبائي، أو ينكفئوا فيعودون القَهقَرَى إلى ما تجاوزه الطباطبائي، وينفخوا في رماد الهموم التقليدية في التراث الفلسفي، ويقلِّدوا السلف فيما هو نسبيٌّ من آرائهم، ويُجهدوا عقولهم في التأويل ومحاولة تقديم معنًى لما لا معنى له من تلك الآراء.