الفصل الثامن

الإبداع الفلسفي للعلامة الطباطبائي

ربما يحسب بعض الباحثين الجهود الفلسفية للطباطبائي أنها ليست إلَّا شروحًا وهوامش على مقولات وآراء مدرسة الحكمة المتعالية، تلك المدرسة التي صاغ أسسها صدر الدين الشيرازي عبْر دمج مجموعة عناصر استقاها من الفلسفة المشَّائية والإشراقية والحكمة العرفانية وطرائق المتكلِّمين، وسكبها في بوتقةٍ واحدة، وأشاد منها منظومته الفلسفية المعروفة. غير أنَّ دراسة الآثار الفلسفية للطباطبائي تدلِّل على أنَّه ليس مجرَّد شارح لأفكار ملا صدرا؛ فمع أنَّ آثار الطباطبائي تنخرط في سياق مدرسة الحكمة المتعالية إلَّا أنَّه فيلسوفٌ تبلورَت آراؤه وإبداعاته الفلسفية الخاصة في نسق هذه المدرسة، كما هي آراء أيِّ فيلسوفٍ آخر ينتمي لإحدى المدارس الفلسفية، ويواصل التأسيس والإبداع في إطار نظامها الفلسفي.

ولعل مراجعةً عاجلة لآثار الطباطبائي تكشف لنا عن تجلِّي سمات الإبداع الفلسفي فيها، والذي يضعه في موقع الفلاسفة الكبار الذين ساهموا في إحياء وتجديد الفلسفة الإسلامية، ووصلها بالعصر ورهاناته المعرفية.

وفيما يلي إشاراتٌ موجَزة إلى أمثلة من تلك الإبداعات:

(أ) تقرير برهان الصدِّيقِين ببيانٍ جديد

برهان الصدِّيقِين أحد أبرز البراهين التي اكتشفها الحكماء الإسلاميون لإثبات الباري تعالى، ولعل أول صياغةٍ فلسفيةٍ لهذا البرهان جاءت في آثار ابن سينا، ومنذ ذلك الحين تنوَّعَت بيانات الحكماء في تقرير برهان الصدِّيقِين حتى انتهت إلى تسعة عشر تقريرًا، كما ذكر الميرزا مهدي الآشتياني في تعليقته على شرح منظومة السبزواري،١ فإذا ضمَمنا لها تقرير الطباطبائي فإنها تبلغ عشرين تقريرًا، غير أن أهمَّ البيانات لهذا البرهان ثلاثة، وهي بيان ابن سينا وملَّا صدرا والطباطبائي.
ويستند هذا البرهان على الاستشهاد به تعالى عليه وعلى كلِّ شي‏ء، بمعنى أن الطريق إلى المقصود يكون هو عين المقصود؛ أي إنَّ الصدِّيقين «يستشهدون به تعالى عليه، ثم يستشهدون بذاته على صفاته، وبصفاته على أفعاله، واحدًا بعد واحد».٢ وهذا السبيل يرمي إليه مدلول قوله تعالى: أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ،٣ كذلك صرَّحَت به نصوصٌ مأثورة عن أهل البيت‏ عليهم السلام، كما في دعاء الصباح المأثور عن أمير المؤمنين‏ عليه السلام: «يا من دلَّ على ذاته بذاته»،٤ وما جاء عن الإمام الحسين‏ عليه السلام في دعاء عرفة: «أيكون لغيرك من الظهور ما ليس لك حتى يكون هو المُظهِر لك؟! متى غبتَ حتى تحتاج إلى دليل يدلُّ عليك؟! ومتى بعُدتَ حتى تكون الآثار هي التي تُوصلُ إليك؟! عميَت عينٌ لا تراك ولا تزال عليها رقيبًا! وخسرَت صفقةُ عبدٍ لم تجعل له من حُبِّك نصيبًا!»٥ وما رواه أبو حمزة الثمالي عن الإمام السجَّاد عليه السلام في الدعاء المعروف باسمه: «بكَ عرفتُك وأنتَ دلَلْتَني عليك».
وكان ابن سينا هو أوَّل مَن قرَّر هذا البرهان، ووسمه بأنه طريق الصدِّيقين في معرفته تعالى، وملخَّص ما أفاده: أنه لا شك في وجودِ موجودٍ ما؛ فهو إن كان واجبًا فهو المطلوب، وإلَّا استلزمه، دفعًا للدور والتسلسل،٦ وأكَّد أنه لم يحتَجْ في بيانه لإثبات الباري ووحدانيَّته إلى تأمُّل لغير نفس الوجود، «ولم يحتَجْ إلى اعتبار من خلقه وفعله، وإن كان ذلك دليلًا عليه؛ لكن هذا الباب أوثق وأشرف؛ أي إذا اعتبرنا حال الوجود فشهد به الوجود من حيثُ هو وجود، وهو يشهد بعد ذلك على سائر ما بعده في الواجب. وإلى مثل هذا أُشير في الكتاب الإلهي: سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ. أقول: إن هذا حكم لقوم، ثم يقول: أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ، أقول: إن هذا حكم للصدِّيقِين الذين يستشهدون به لا عليه».٧

أما تقرير صدر المتألهين لبرهان الصدِّيقِين فإنه يبتني على ثلاث مقدمات وهي:

  • (١)

    إثبات أصالة الوجود.

  • (٢)

    إثبات الوحدة التشكيكية لحقيقة الوجود.

  • (٣)

    إثبات بساطة الوجود.

وقد وردَت هذه المقدِّمات في ثنايا حديثه عن هذا البرهان في غير واحدٍ من مؤلفاته، ﮐ «الأسفار الأربعة»،٨ فمثلًا يكتب في الأخير: أن «الموجود إمَّا حقيقة الوجود أو غيرها، ونعني بحقيقة الوجود ما لا يشوبه شي‏ءٌ غير صرف الوجود من حدٍّ أو نهاية أو نقص أو عموم أو خصوص، وهو المسمَّى بواجب الوجود، فنقول: لو لم تكن حقيقة الوجود موجودة، لم يكن شي‏ءٌ من الأشياء موجودًا، واللازم بديهي البطلان فكذا الملزوم …»٩

وليس غرضنا الخوض في تفاصيل بيان ملَّا صدرا لهذا البرهان، غير أن ذلك لا يمنعنا من التنويه بأن الصياغة الجديدة لبرهان الصدِّيقِين ألبسَتْه ثوبًا آخر، وارتقت به نحو أفقٍ جديد؛ فبعد أن كان السلوك في هذا البرهان يمُر عبْر مفهوم الوجود لدى ابن سينا تحرَّك لدى ملَّا صدرا عبْر حقيقة الوجود، وبعد أن كان المقسم هو مفهوم الوجود الشامل للواجب وللماهيَّات الممكِنة الموجودة، في فلسفة ابن سينا، أضحى المقسم حقيقة الوجود الشامل لمراتبه بما فيها أعلى المراتب، في الحكمة المتعالية، ولأنَّ الحكمة المتعالية لم تستند إلى الإمكان الماهوي واعتمدَت الإمكان الفقري استغنَت عن الحاجة إلى إبطال الدور والتسلسل في هذا البرهان، بخلاف المدرسة المشَّائية التي استندَت إلى الإمكان الماهوي فلزمها إبطال الدور والتسلسل. مضافًا إلى أن برهان الأخيرة اقتصر على إثبات ذات البارئ فقط، بينما شمل برهان الحكمة المتعالية إثبات وحدانيَّته تعالى فضلًا عن وجوده.

من هنا وصف صدر المتألهين المنهج الذي سلكه في بيان برهان الصدِّيقين بأنه «أسدُّ المناهج وأشرفها وأبسطها؛ حيثُ لا يحتاج السالك إيَّاه في معرفة ذاته تعالى وصفاته وأفعاله إلى توسُّط شي‏ء من غيره، ولا إلى الاستعانة بإبطال الدور والتسلسل؛ فبذاته تعالى يعرف ذاته ووحدانيَّته، شهد الله أنه لا إله إلَّا هو، ويعرف غيره، أولَمْ يَكفِ بربِّك أنَّه على كلِّ شي‏ءٍ شهيد».١٠
ثم جاء ملَّا هادي السبزواري بعد أكثر من قرنَين، فاستغنى عن مقدمتَين من المقدمات الثلاث التي ابتنَى عليها تقرير ملَّا صدرا، واستند في بيانه لبرهان الصدِّيقين على أصالة الوجود فقط، وبذلك أُتيح له أن يطويَ مسار التفكير في هذا البرهان.١١

لكن النقلة القصوى في تقرير برهان الصدِّيقِين تحقَّقَت على يد الطباطبائي، الذي أزاح المقدمات الثلاث في تقرير ملَّا صدرا، ولم يستند إلى أيةٍ واحدةٍ منها، فأصبحَت مسألة إثبات الباري تعالى هي المسألة الأولى في تسلسل مسائل الحكمة الإلهية لديه، بعد الفراغ عن نفي السفسطة وإثبات الواقعية؛ ذلك أن الفلسفة تبدأ حيثُ تُنفى السفسطة، بينما جاءت مسألة إثبات الباري بعد الفراغ عن إثبات أصالة الوجود ووحدته وبساطته في برهان ملَّا صدرا، فوقعَت في المرتبة الرابعة، فيما وقعَت في المرتبة الثانية بعد إثبات أصالة الوجود في بيان السبزواري، فالمسألة الأولى من مسائل الفلسفة هي أصالة الوجود، والتي يترتَّب على القول بها برهان الصدِّيقين.

أما بيان الطباطبائي لهذا البرهان فقد اختزل سائر المقدِّمات، فتصدَّرَت مسألة وجود الباري مسائل الحكمة الإلهية، ولم تتوقَّف على التصديق بسواها، بمعنى أنها تبدأ حيثُ تبدأ الفلسفة، والفلسفة لا تعني إلَّا الإيمان بالواقعية،١٢ والواقعية — حسب الطباطبائي — هي التي ندفع بها السفسطة «ونجد كل ذي شعور مضطرًّا إلى إثباتها وهي لا تقبل البطلان والرفع لذاتها، حتى إن فرضَ بطلانها ورفعها مستلزم لثبوتها ووضعها؛ فلو فرضنا بطلان كل واقعية في وقت أو مطلقًا كانت حينئذٍ كل واقعية باطلة واقعًا (أي الواقعية ثابتة)، وكذا السوفسطي لو رأى الأشياء موهومة أو شك في واقعيَّتها فعنده الأشياء موهومة واقعًا، والواقعية مشكوكة واقعًا (أي هي ثابتة من حيثُ هي مرفوعة)، وإذ كانت الواقعية بالأصل لا تقبل العدم والبطلان لذاتها فهي واجبة بالذات، والأشياء التي لها واقعيةٌ مفتقرة إليها في واقعيَّتها قائمة الوجود بها؛ ومن هنا يظهر للمتأمل أن أصل وجود الواجب بالذات ضروري عند الإنسان، والبراهين المثبتة له تنبيهات بالحقيقة».١٣

(ب) التفكيك بين الإدراكات الحقيقية والاعتبارية

الإدراكات الحقيقية هي ما ينكشف للذهن من الواقع ونفس الأمر،١٤ والمفهوم الحقيقي (المفهوم الذي يُوجَد تارةً في الخارج فيترتَّب عليه آثاره وتارةً في الذهن فلا يترتَّب عليه آثاره الخارجية، كمفهوم الإنسان).١٥
أمَّا الإدراكات الاعتبارية فهي افتراضاتٌ اصطنعها الذهن لأجل تأمين متطلَّبات الحياة؛ وعلى هذا فهي وضعيةٌ اتفاقيةٌ اعتباريةٌ لا علاقة لها بالواقع ونفس الأمر،١٦ فالمفهوم الاعتباري بخلاف المفهوم الحقيقي، ليس له حدٌّ بالمعنى المنطقي، ولا برهان عليه أيضًا؛ ذلك أنَّ الحدَّ إنما هو للماهية وبالماهية — كما هو معروف — والمعاني الاعتبارية لا ماهية لها، فلا حدَّ لها، «وأمَّا أنها لا برهان عليها، فلأنَّ من الواجب في البرهان أن تكون مقدِّماته ضرورية دائمة كلِّية، وهذه المعاني لا تتحقَّق إلَّا في قضايا حقَّة تُطابِق نفس الأمر، وأنَّى للمقدِّمات الاعتبارية ذلك، وهي لا تتعدَّى حدَّ الدعوى … فالقياس الجاري فيها جدلٌ مؤلَّف من المشهورات والمسلَّمات، والمقبول منها ما له أثرٌ صالح بحسب الغايات، والمردود منها اللغو الذي لا أثر له».١٧
بينما تعتمد البراهين الفلسفية والعلمية على المعاني الحقيقية؛ فهي التي تتشكل منها مقدِّمات الاستدلال في الفلسفة والعلوم الطبيعية والعلوم البحتة، كما أن ما نظفر به من نتائج في عمليات الاستدلال هذه هو — أيضًا — من الإدراكات الحقيقية، بناءً على ذلك تتَّصف الإدراكات الحقيقية بأنها ذات قيمةٍ منطقية، فيما لا تتَّصف بذلك الإدراكات الاعتبارية؛١٨ لأن الأخيرة تظل خاضعة للحاجات الحياتية المتجدِّدة، فيما تظل الإدراكات الحقيقية بمعزل عن تأثير تلك الحاجات، فتكون مطلقةً ثابتة لا تخضع للتغيُّر والتحوُّل تبعًا لتنوُّع البيئات وتحوُّلاتها.
وقد نجم عن الخلط وعدم التمييز بين هذَين النوعَين من الإدراكات وقوع اضطراب والتباس في غير واحد من العلوم الإسلامية؛ فبعد أن زحفَت أحكام الإدراكات الحقيقية على الاعتبارية، وتعامل الباحثون في حقل الإدراكات الاعتبارية بمعايير وأدوات الإدراكات الحقيقية، انحرف مسار التفكير في بعض العلوم عن قنواته الخاصة، واستغرق في متاهاتٍ وفوضى لا متناهية، هي أقربُ للتمارين الذهنية منها للتفكير المنطقي المنتظم.١٩

لكنَّ الطباطبائي حاول أن يضع حدًّا لهذه الفوضى العقلية، بتفكيكه بين هذَين النوعَين من الإدراكات، وتحديد هوية كلٍّ منهما وحدوده وحقله الخاص، ونوع المعارف والعلوم التي تعتمده في قوانينها وأحكامها ومفهوماتها.

وبالرغم من أنَّ بوادر التمييز بين الإدراكات الاعتبارية والحقيقية تضرب بجذورها في أعماق التراث الفلسفي الإسلامي، كما نلاحظ بذرتها في آثار ابن سينا،٢٠ إلَّا أنَّ هذه المسألة تحرَّكَت نحو آفاقٍ أخرى في آثار الطباطبائي، بعد أن فرغ من صياغة حدودها ومدَياتها بدقَّة ووضوح.

(ﺟ) استنتاج مجموعة ثمرات من القول بالحركة الجوهرية

القول بوقوع الحركة في مقولة الجوهر من إبداعات صدر الدين الشيرازي الفلسفية؛ فهو الذي برهَن عليها وأشاد أسسها في آثاره، غير أنه لم يقطف تمام ثمراتها، ولم يفرغ من تنقيح كلِّ أبعادها وفروعها؛ من هنا حاول الطباطبائي أن يجني هذه الثمار ويستكشف بعض الأبعاد التي ظلَّت خفية منذ أن ابتكرها الشيرازي،٢١ وفيما يلي إشاراتٌ موجزة إلى شي‏ء من هذه الثمرات:
  • (١)
    اكتشاف بُعدٍ رابع للجسم غير الطول والعرض والعمق يتمثَّل بالزمان؛ فقد كتب الطباطبائي في تعليقته على الأسفار: إن للجسم «أربعة أبعاد؛ الطول والعرض والعمق والزمان.»٢٢
  • (٢)
    اكتشاف الحدوث الزماني لعالم المادة والطبيعة، وامتناع القِدم الزماني لعالم المادة، فإنه مضافًا للحدوث الذاتي فإن «لعالم المادة والطبيعة حدوثًا آخر يخصه وهو الحدوث الزماني.»٢٣
  • (٣)
    الكشف عن تحقُّق الحركة في الحركة؛ لأن العرض لمَّا كان من مراتب الجوهر، والجوهر متحرك بذاته، فلا بد أن تعمَّ الحركة سائر المقولات العرضية، و«تكون جميعًا متحرِّكة بحركة موضوعها الجوهري سيَّالة بسيلانه، وإن كنا نشاهدها ثابتةً واقعةً ساكنة كموضوعها، فالجواهر المادية متحركة سيَّالة في جوهريتها مع جميع ما لها من الأعراض المقولية كائنة ما كانت، وإن كانت النِّسَب بينها أنفسها ثابتةً غير متغيرة. والتأمُّل الكافي يرشدك إلى أن لازم ما تقدَّم هو جعل هذه الحركات المحسوسة الواقعية في مقولة الكيف والكم والوضع والأين المبحوث عنها في مباحث الحركة من قبيل الحركة في الحركة.»٢٤
  • (٤)
    التغيُّر لا يتم إلَّا بحركة، وعلى هذا فإن «التغيُّر الدفعي بما أنه يحتاج إلى موضوع يقبل التغيُّر وقوَّة سابقة على حدوث التغيُّر لا يتحقَّق إلَّا بحركة»،٢٥ فلو لم يحصل التغيُّر التدريجي لن يتحقق التغيُّر الدفعي، وبذلك تكون سائر الحركات الحقيقية تكاملية.٢٦
  • (٥)
    عالم المادَّة حقيقةٌ واحدة متحرِّكة سيِّالة متوجِّهة من مرحلة القوَّة المحضة إلى فعليةٍ محضة لا قوَّة معها؛٢٧ أي إن جميع المادِّيات تتحرَّك نحو التجرُّد والثبات.٢٨
  • (٦)
    بحث مسألة الحركة في مباحث الحكمة الإلهية «الفلسفة الأولى» باعتبار الحركة نحو وجود للشي‏ء المتحرك، وهي مرتبة من مراتب الوجود، خلافًا لما درج عليه الباحثون في الفلسفة القديمة، الذين بحثوا الحركة في مباحث الطبيعيات «الفلسفة الدنيا» باعتبارها من الأحكام العامَّة للجسم.٢٩ وقد ترتَّب على نقل مسألة الحركة للفلسفة الأولى عدَّة نتائج.٣٠
  • (٧)

    النفس جسمانية الحدوث روحانية البقاء؛ أي إن الجسم والروح مرتبتان لوجودٍ واحد؛ ذلك أنَّ الجسم لما كان متحركًا بالحركة الجوهرية، والحركة دائمًا تتَّجه نحو الكمال والتحرُّر من النقص؛ أي نحو التجرُّد، فإن المادَّة المتغيِّرة المتحرِّكة تتبدَّل إلى وجودٍ مجرَّدٍ ثابتٍ هو الروح.

    لقد أماط الطباطبائي اللثام عن الصلة العميقة بين حدوث النفس والحركة الجوهرية للبدن،٣١ وحدَّد بوضوحٍ هذه المسألة التي تُعتَبر إحدى أهم نتائج القول بالحركة الجوهرية.
  • (٨)
    تفسير ارتباط المتغيِّر بالثابت على أساس الحركة الجوهرية، باعتبار «التجدُّد والتغيُّر ينتهي إلى جوهرٍ متحركٍ بجوهره، فيكون التجدُّد ذاتيًّا له، فيصح استناده إلى علَّة ثابتة تُوجِد ذاته؛ لأن إيجاد ذاته عينُ إيجاد تجدُّده.»٣٢ وكذلك تصحيح ارتباط الحادث الزماني بالمبدأ القديم.٣٣
  • (٩)
    البرهنة على أن موضوع الحركة الجوهرية نفس الحركة؛ فالحركة هي حركة وهي متحرِّكة في نفسها؛ لأن موضوع الحركة هي الذات التي تقوم بها الحركة، «والحركة الجوهرية لما كانت ذاتًا جوهرية سيَّالة، كانت قائمةً بذاتها موجودةً لنفسها.»٣٤

(د) تنظيم مباحث «نظرية المعرفة» في الفلسفة الإسلامية

تناثرت مباحث المعرفة والإدراك والعلم في التراث الفلسفي الإسلامي في مواضعَ متفرِّقة، ولم تُعنون بنحوٍ مستقلٍّ في معظَم مؤلَّفات الفلاسفة، وإنما ذُكرَت في ثنايا مباحثَ أخرى ترتبط بها بوشيجةٍ عضويةٍ أحيانًا، وربما ذُكرَت في مباحثَ لا ترتبط بها بشكلٍ مباشر، فمثلًا ورد بحثها في باب المقولات عند تقسيم الكيف إلى كيف نفساني وغيره، باعتبار أن العلم يندرج تحت هذه المقولة، وأورد ابن سينا مسألة العلم والإدراك في النمط الثالث من «الإشارات» في سياق بحثه عن النفس وأحوالها.٣٥ أمَّا الفخر الرازي فقد أفرد للعلم وأحكامه بابًا مستقلًّا أورده بمناسبة بحث الكيفيات النفسانية في «المباحث المشرقية»،٣٦ بينما جعل صدر المتألِّهين المرحلة العاشرة في مباحث الأمور العامَّة من «الأسفار الأربعة» في «العقل والمعقول»،٣٧ ولم يمنح ملَّا هادي السبزواري مسألة المعرفة اهتمامًا كافيًا؛ ولذا لم يخصِّص لها بحثًا مستقلًّا في «المنظومة» وإنما اكتفى بإشارةٍ مقتضبةٍ إليها في خاتمة مبحث الوجود الذهني.٣٨

ولعلَّ تشتُّت المواضع التي بُحثَت فيها مسألة المعرفة في التراث الفلسفي الإسلامي وعدم انتظامها في نسقٍ محدَّد يعود إلى أنَّ محور البحث أو موضوع البحث — حسب تعبير القدماء — في الفلسفة الإسلامية هو الوجود، والبحث فيها يدور حول الأحوال العامَّة للوجود؛ أي التي لا تختصُّ بموجودٍ خاص، وعلى هذا جرى بحث مسائل المعرفة والإدراك في سياق مباحث تقسيم الوجود إلى خارجي وذهني، أو أحكام الوجود والماهية المختلفة.

بينما احتلَّت مسألة المعرفة في الفلسفة الأوروبية الحديثة موقعًا متميزًا، وتحرَّرَت بالتدريج من مسارها التقليدي في أزمنة هذه الفلسفة السالفة، ثم ما لبثَت أن صارت هي محور البحث الفلسفي لدى الاتجاهات الفلسفية المتأخِّرة في أوروبا، وكان لهذا المنحى الذي اتخذته مسألة المعرفة في التفكير الفلسفي الكثير من الآثار الحاسمة في تطوُّر العلوم الطبيعية والإنسانية في الغرب الحديث.

في هذا الضوء نستطيع أن نتعرَّف على الإنجاز المهم الذي نهض به الطباطبائي، لمَّا عمل على صياغة منظومةٍ متَّسقة منطقيًّا لمباحث المعرفة؛ فقد دشَّن كتابه «أصول الفلسفة» ببحث نظرية المعرفة، بعد الفراغ من تحديد معنى الفلسفة وحدودها، واستأثرَت نظرية المعرفة بثلاث مقالات من مجموعة أربع مقالات اشتمل عليها الجزء الأول من هذا الكتاب، فيما استوعبَت مباحثها الجزء الثاني بتمامه، وانتظمَت هذه المباحث بطريقةٍ منطقيةٍ محكمة، فجعل بحث «قيمة المعرفة» في الصدارة، وأردفه ﺑ «مصدر المعرفة» ثم ختم هذه المباحث ﺑ «حدود المعرفة».

وبذلك كان الطباطبائي أول فيلسوفٍ مسلم يتولى إعادة بناء الفلسفة الإسلامية، ويُعيد ترتيب مسائلها في ضوء مقتضيات التفكير الراهن،٣٩ بل تجاوز ذلك إلى إبداعٍ أساسي في إطار نظرية المعرفة عندما قام بتفكيك الإدراكات الحقيقية والاعتبارية، وأوضح حدود كلٍّ منها وميدانه ودائرته الخاصة — كما ألمعنا لذلك — فأمَّنَ بذلك الأدوات اللازمة لتحرير البحث العلمي من الالتباس والخلط الناشئ من توظيف الإدراكات الاعتبارية خارج حقلها أو العكس بتوظيف الإدراكات الحقيقية خارج حقلها الخاص.

(ﻫ) إبداعات أخرى

لا تقتصر إبداعات الطباطبائي على ما تقدَّم، وإنما كانت له آراءٌ مبتكرة في غير واحدة من مسائل الفلسفة المتوارثة؛ فمثلًا نفى أن يكون «الأين» مقولةً مستقلَّة مقابل المقولات الأخرى؛ ففي تحليله لحقيقة هذه المقولة وجد أنها تعود إلى مقولة «الوضع»،٤٠ بناءً على أن حصر المقولات بعشر ليس حصرًا عقليًّا وإنما هو بالاستقراء، فلا مانع من الزيادة فيها أو ضم بعضها إلى البعض الآخر.٤١
وتفحَّص الطباطبائي عدَّة مسائلَ أخرى فأعاد النظر فيما تلقَّاه الحكماء بالقبول منها، ولم يجرِ في قَبوله أو نفيه لموقفٍ ما إلَّا على أساس ما يتوصَّل إليه اجتهاده الفلسفي.٤٢

من هنا يمكن القول: إنَّ جهود الطباطبائي الواسعة انتزعَت الفلسفة الإسلامية من كهوفها وتوغَّلَت بها في عمقِ هموم العصر وإشكالياته العقلية، إلَّا أنَّ هذه الجهود تظلُّ خطوة من الخطوات الرائدة على الطريق الطويل، فينبغي أن يواصل أساتذة الفلسفة الإسلامية المسارَ النقديَّ التأصيلي الاجتهادي الذي افتتَحه الطباطبائي في العصر الراهن، ولا يكرِّروا الجهود فيما فرغ منه الطباطبائي، أو ينكفئوا فيعودون القَهقَرَى إلى ما تجاوزه الطباطبائي، وينفخوا في رماد الهموم التقليدية في التراث الفلسفي، ويقلِّدوا السلف فيما هو نسبيٌّ من آرائهم، ويُجهدوا عقولهم في التأويل ومحاولة تقديم معنًى لما لا معنى له من تلك الآراء.

١  آشتياني، ميرزا مهدى، «تعليقه بر منظومه حكمت سبزوارى»، ٤٨٩، باهتمام: عبد الجواد فلاطورى، ومهدى محقق.
٢  صدر الدين الشيرازي، «الأسفار الأربعة»، ٦: ١٣-١٤، قم، المكتبة المصطفوية، ١٣٨٦ﻫ.
٣  فصلت: ٥٣.
٤  السبزواري، ملا هادي، «شرح دعاء الصباح»، ٢٥، تحقيق: نجفقلي حبيبي، طهران، جامعة طهران، ١٩٩٣م.
٥  المصدر نفسه، ٢٨.
٦  آشتياني، ميرزا مهدي، مصدر سابق، ٤٨٩.
٧  ابن سينا، «الإشارات والتنبيهات»، ٦٦، طهران، ١٣٧٩ﻫ.
٨  صدر الدين الشيرازي، «الأسفار الأربعة»، ٦: ١٢–٢٦.
٩  صدر الدين الشيرازي، «المشاعر»، ٤٥-٤٦، طهران، طهوري، ١٣٤٢ش.
١٠  «الأسفار الأربعة»، ٦: ٢٥-٢٦.
١١  المصدر نفسه، ٦: ١٦-١٧ (تعليقة السبزواري).
١٢  جوادي آملى، «شرح حكمت متعاليه أسفار أربعة»، ق١ ج٦: ١٣٣–١٣٥، ١٧٢–١٨٤، ٢٧٨–٢٨١، طهران، انتشارات الزهراء، ١٤١٠ﻫ.
١٣  «الأسفار الأربعة»، ٦: ١٤-١٥ (تعليقة الطباطبائي)؛ «نهاية الحكمة»، ٢٧٠-٢٧١.
١٤  الطباطبائي، محمد حسين، «أصول فلسفة وروش رئاليسم»، ٢: ١٣٨.
١٥  الطباطبائي، محمد حسين، «نهاية الحكمة»، ٢٥٦.
١٦  «أصول الفلسفة»، ٢: ٢٥٦.
١٧  «نهاية الحكمة»، ٢٥٩.
١٨  «أصول الفلسفة»، ٢، ١٣٨.
١٩  «الميزان في تفسير القرآن»، ٥، ٢٨٦.
٢٠  مطهري، مرتضى، «حول الثورة الإسلامية»، ١٠٠-١٠١، طهران، دار سروش للطباعة والنشر، ١٤٠٣ﻫ.
٢١  «يادنامه مفسر كبير استاد علَّامة طباطبائي»، ١٧٧–١٨٣.
٢٢  «الأسفار الأربعة»، ٣، ١٤٠ (الحاشية).
٢٣  «نهاية الحكمة»، ٣٢٤-٣٢٥.
٢٤  «الأسفار الأربعة»، ٣، ٦٢، ٧٨ (الحاشية)؛ «نهاية الحكمة»، ٢٠٩-٢١٠؛ «بداية الحكمة»، ١٣٠.
٢٥  «نهاية الحكمة»، ٢٠٢.
٢٦  «يادنامه مفسر علَّامة طباطبائي»، ١٨٠.
٢٧  «نهاية الحكمة»، ٢١٠؛ «بداية الحكمة»، ١٣٠.
٢٨  «الأسفار الأربعة»، ٣، ٦٢، ١٨٢ (الحاشية).
٢٩  «نهاية الحكمة»، ١٩٦-١٩٧، ٢٠١.
٣٠  «يادنامه مفسر علَّامة طباطبائي»، ١٧٩.
٣١  المصدر نفسه، ١٧٩؛ «نهاية الحكمة»، ٢٦٣.
٣٢  الطباطبائي، محمد حسين، «بداية الحكمة»، ١٢٥؛ «نهاية الحكمة»، ٢٠٨-٢٠٩.
٣٣  «نهاية الحكمة»، ٣٢٤–٣٢٦.
٣٤  «بداية الحكمة»، ١٢٦.
٣٥  ابن سينا، «الإشارات والتنبيهات»، ٢ ، ٢٩٤، ٣١٣، ٣٣١، ٣٥٨، ٣٨٢.
٣٦  فخر الدين الرازي، «المباحث المشرقية»، ١، ٣١٩، قم، ١٤١١ﻫ.
٣٧  صدر الدين الشيرازي، «الأسفار الأربعة»، ٣، ٢٧٨.
٣٨  المطهري، مرتضى، «شرح المنظومة»، ٢، ٨، ترجمة: عبد الجبار الرفاعي.
٣٩  ينبغي التنويه بالجهود المتميِّزة التي بذلها محمد باقر الصدر في سبيل بعث الفلسفة الإسلامية، وإعادة صياغة نظرية المعرفة في «فلسفتنا»، واستئناف تأصيل نظرية المعرفة في «الأسس المنطقية للاستقراء».
٤٠  «نهاية الحكمة»، ٢٠٦؛ «بداية الحكمة»، ١٢٦.
٤١  المصدر نفسه، ٨٩.
٤٢  المصدر نفسه، ١٧٣. «كمثال لذلك عدم قَبوله بالفصل بين الفاعل بالجبر والفاعل بالقصد، وإرجاعهما إلى قسمٍ واحد، وهكذا الفاعل بالعناية». «وكذلك لما أرجع بالتحليل كلًّا من إرادة الباري تعالى إلى وجه من وجوه العلم، وكلامه تعالى إلى القدرة». لاحظ: «بداية الحكمة»، ١٧٠.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥