بداية الحكمة ونهاية الحكمة
كتاب «بداية الحكمة» ألَّفه الطباطبائي ليكون بديلًا عن كتاب «منظومة» الملا هادي السبزواري في تدريس الفلسفة، بينما كان يهدف من تأليف كتاب «نهاية الحكمة» أن يكون بديلًا لكتاب «الأسفار الأربعة» لملا صدرا؛ لأنَّه قبل ذلك كان على الطالب دراسة كتاب المنظومة أولًا، ثم يدرُس كتاب «الأسفار الأربعة» بعد ذلك.
فبداية الحكمة عبارة عن دورةٍ في الفلسفة مكثَّفة وملخَّصة، ونهاية الحكمة أشدُّ تكثيفًا وأوسعُ من البداية؛ فهي تستوعب جُل مطالب البداية وزيادة؛ فهما يُناظِران الحلقتَين الثانية والثالثة في الأصول لمحمد باقر الصدر مع فوارق.
خصائص كتابَي البداية والنهاية
ألَّفَ الطباطبائي كتاب «البداية» سنة ١٣٩٠ﻫ، ثم ألفَ كتاب النهاية سنة ١٣٩٥ﻫ، أما خصائص البداية والنهاية فإنها تتمثَّل بما يلي:
-
(١)
اعتمد المؤلف الأسلوب البرهاني في إثبات المسائل؛ أي إنه اقتصر على البراهين والحُجَج العقلية فقط، فيما تجنَّب الاستناد للتجارب الذوقية والشعر العرفاني والمكاشَفات.
-
(٢)
رتَّب المسائل في هذَين الكتابَين ترتيبًا منطقيًّا يرتقي فيه الدارس من مرحلة إلى أخرى، كأنه يرقى سُلمًا؛ فقد قسَّم المصنِّف هذَين الكتابَين كل واحد منهما إلى اثنتَي عشرة مرحلة، وكل مرحلة تمثِّل مقامًا معرفيًّا، يرتقي العقل فيه نحو المرحلة اللاحقة، وهكذا حتى ينتهي إلى المرحلة الأخيرة في الإلهيات بالمعنى الأخص.
-
(٣)
مؤلَّفات الفلسفة القديمة كثيرًا ما تشير إلى العلوم الكلاسيكية وتستند إلى معطياتها، ومن المعلوم أن العلم الحديث نسخ الكثير من تلك المعطيات؛ ولذلك حاول الطباطبائي تحرير المباحث من الطبيعيات الكلاسيكية وأشار بصراحة في خاتمة كتابه «نهاية الحكمة» إلى «أن القول بالأفلاك والأجرام غير القابلة للتغيُّر وغير ذلك، كانت أصولًا موضوعة في الهيئة والطبيعيات القديمتَين، وقد انفسخَت اليوم هذه الآراء.»
-
(٤)
المصنِّف في هذَين الكتابَين استطاع أن يصنِّف المعارف إلى حقيقية واعتبارية، ولم يخلط بينهما. بينما كان يحصُل تداخُلٌ وخلطٌ بينهما في التراث الفلسفي.
-
(٥)
لم يستغرق المصِّنف في ذكر تمام البراهين حول المسألة الواحدة، وإنما ينتقي أقوى البراهين وأشدَّها اختصارًا. ولم يحاول أن يستطرد ويتوسع في بيان هذه البراهين، وقد يستدل هو من عنده بأدلةٍ جديدة لم تُذكر من قبلُ في الكتب الفلسفية السابقة.
الفرق بين كتابَي البداية والنهاية
تُوجَد مجموعة فوارقَ ولكنها ليست جوهرية؛ لأن النهاية ما هي إلا عبارةٌ عن تفصيلٍ وتعميقٍ لكتاب «البداية»، وأبرز الفوارق ما يلي:
-
(١)
في ترتيب المراحل وقع بعض الاختلاف؛ فمثلًا بحث الوجود الذهني في البداية جعلَه المصنف مرحلةً ثانية، بينما جعلَه المصنف في النهاية المرحلة الثالثة. وهكذا بحث الوجود المستقل والرابط؛ ففي بداية الحكمة جعله المرحلة الثالثة وفي نهاية الحكمة جعله مرحلةً ثانية. وكذلك بحث العلة والمعلول في البداية جاء في المرحلة السابعة، بينما في النهاية وقع في المرحلة الثامنة. وبحث الواحد والكثير جعله في بداية الحكمة المرحلة الثامنة وفي النهاية المرحلة السابعة. وبحث القوَّة والفعل جعله في البداية المرحلة العاشرة وفي النهاية التاسعة.
-
(٢)
أن كثيرًا من المسائل قد بحثَها المصنِّف في بداية الحكمة في فصولٍ مستقلة، فيما جعلها في نهاية الحكمة نتائج وفروعًا؛ فمثلًا في المرحلة الأولى في بداية الحكمة جعل الفصول اثنَي عشر فصلًا، بينما في النهاية وضع المرحلة الأولى في خمسة فصول فقط؛ أي إنه اعتبر بقية الفصول نتائج وفروعًا في نهاية الحكمة.
-
(٣)
أن المصنف بحث بعضَ الفصول في النهاية بحثًا مفصَّلًا، استوعب فيه فروع المسائل، وما يتصل بها من إشكالات ومفاهيم، بخلاف البحث في البداية الذي اختزل فيه الكثير من المطالب.
أمَّا البيان والأسلوب فهما متقاربان في الكتابَين، ومن الطريف أن بعض الدارسين لكتاب «بداية الحكمة» يُخيَّل إليه أنَّه كتابٌ سهل وميسَّر، فهو يعدُّه ألفباء الحكمة والمداخل لها، بينما سنرى أن كل جملة فيه تحتاج لتدبُّر وشرح.
ما ينبغي لتلميذ الفلسفة
هناك جملة أمور ينبغي أن نتوفَّر عليها في دراستنا لكتاب بداية الحكمة وكتب الفلسفة الأخرى، من أجل أن نستوعب الأفكار المطروحة في هذه الكتب، ومن أهم هذه الأمور ما يلي:
-
(١)
دراسة المنطق كمقدِّمة لدراسة الفلسفة: ينبغي دراسة المنطق دراسةً دقيقةً متأنية لا مجرَّد قراءة ومطالعة؛ أي لا بد من استيعاب مطالبه، وإلا فإن دراستنا للفلسفة تكون من دون جدوى؛ لأن المنطق هو البوابة الرئيسة للفلسفة، وكتاب «المنطق» للشيخ محمد رضا المظفر يؤمِّن هذه الحاجة.
-
(٢)
ينبغي دراسة الفلسفة بطريقةٍ فلسفية؛ لأن الفلسفة فنٌّ فيه دقة وعمق، فتحتاج إتقانًا وتدبرًا وتعمقًا وفهمًا. وهذا يتطلب دراسة الكتاب كلمةً كلمة وجملة جملة. ويجب تسجيل الملاحظات والشروح على الكتاب، وإلا فهذه المطالب كالزئبق لا يُمكِن القبض عليها بسهولة.
-
(٣)
من المشاكل الدراسية عندنا هي الاستعجال في قطف الثمرة؛ فيمُر الدارس عادةً على الكتب مرورًا عاجلًا، أو يقرأ بعض الكتب ويُهمِل بعضَها الآخر، ويُخيَّل إليه أنه ارتقى في المعرفة؛ لأنَّه عندما يدرُس الكتاب الفلاني يحسب أن مقامه أضحى مقامًا مرموقًا، بينما هو لا يدري لو أنه يدرُس كتابًا واحدًا ويتقنه خير له من المرور على كل الكتب مرورًا عاجلًا، سريعًا، فيدرسها دراسةً مشوَّشة، مضطربة، من دون استيعابٍ وتدبُّر.
المهم أن نستوعب المنهج، وندرُس الكتاب من ألفه إلى يائِهِ، وبالذات في علوم المعقول؛ أي في المنطق والفلسفة وعلم الكلام وأصول الفقه.
أمَّا أن ندرُس شيئًا من الكتاب الفلسفي ونهمل الباقي، فإن ذلك يُوقعنا في التباساتٍ شتى في الفهم؛ لأن الفلسفة علمٌ على خلاف العلوم، يُقال إن الراكب يجد الغرقَ في شطآنه بينما يجد الأمان في لججه وأعماقه. الفلسفة في بداياتها قد تُغرِق، لكن عندما تستوعبها وتتوغَّل في أعماقها تنجو.
فلو درسنا بعض الكتاب وبطريقةٍ مشوَّشة، قد تتوالد من دراستنا شبهاتٌ وإشكالاتٌ شتى، بينما إذا درسنا الكتاب واستوعبنا مطالبه، فسوف نتوفَّر على دورةٍ متكاملة في الفكر الفلسفي.
فلا بد من دراسة الكتاب بتمامه، ولا بد أن نُصغي للدرس ونكتبه، ونُباحثه، ونلخِّصه، حتى نستوعبه بشكلٍ تام.
-
(٤)
يجب التسلُّح بالعقل النقدي؛ لأن هذا الكتاب الذي ندرُسه، أو كتاب «النهاية»، أو «المنظومة»، أو «الأسفار»، أو أي كتابٍ فلسفي آخر، ليس كتابًا مقدَّسًا، بل هو آراءٌ ونظرياتٌ أنضجَتْها عقول الرجال.
صحيحٌ أن هؤلاء رجال محترمون نُجلُّهم ونبجِّلهم، لكن لا ينبغي الاستسلام لكل ما يرَون ويقولون، بأن نتعامل معه باعتباره آراءً مطلَقة ونهائية، وإنما ينبغي مراجعتُه وتقويمُه؛ لأن التفكير الفلسفي يتطوَّر وينمو بالنقد والحوار. وإن وظيفة الفلسفة الأساسية هي تنمية العقل النقدي، وبالرغم من الأهمية الفائقة للميراث الفلسفي الإسلامي، غيرَ أنه ليس بمقدَّس.
وإن لدراسة الفلسفة وظيفةً أساسية في تنمية العقل النقدي، ومن المعلوم أن العقل النقدي يتشكَّل في سياق دراسة الفلسفة وفَهْم مقولاتها والتعرُّف بدقَّة على مسالكها ومناهجها ومدارسها؛ فإن محاكمة الآراء، ونقدَها، غير ممكنةٍ قبل اكتشافها ومعرفتها.
لذلك يبنغي ابتداءً أن ندرُس ونستوعب هذا التراث الفلسفي، ندرُس البداية ثم النهاية، ونتعرَّف على الأسفار الأربعة، ثم نحاول بعد ذلك التسلُّح برؤيةٍ نقديةٍ تحاكم الأفكار وتُغربِلها وتُمحِّصها.